شاهين السّافي
الحديث عنه لذيذ.
هو صاحب مسيرة ممتدّة مليئة بالأحداث وعامرة بالإبداع. تحدّث عن جانب من هذه المسيرة في سيرة ذاتيّة له نشرها منذ سنوات، ثمّ أعاد نشرها في طبعة جديدة منذ سنة تقريبا، وهو يردّد من حين لآخر أنّه بصدد كتابة قسم جديد منها ولعلّنا نراه كتابا منشورا في قادم الأيام.
عبد الجبّار العشّ، أو «جبّار» -كما يناديه خلانه وأحبابه ورفاق دربه- شاعر وروائيّ تونسي شاءت أن الأقدار أن «يُلقى به في هذا العالم» فاندفع إليه «ليحدّد ماهيّته» -بعبارة سارتر- فاختار طريقه وتحمّل مسؤولية ما اختاره.
اختار جبّار العناد والتمرّد وإعلان العصيان في وجه كلّ شيء يمثّل سلطة تقهر الإنسان وتكبّل التفكير الحرّ وتعبث بالإبداع وتقتل الجمال.
مثل هذا الطريق لا يمكن أن يكون مفروشا بالورود، وإنّما بالأشواك تخز الأقدام فتدميها في كلّ خطوة نخطوها. ثمّة أوجاع ومرارات يخلّفها ذلك، ولكنّها لذيذة فهي من بنات اختيارنا، هي من صلبنا ولحمنا ودمنا الذي يتقاطر في الطريق.
كتب جبّار أولى قصائده في سنّ مبّكرة، وكلما تقدّم في التجربة ازداد شعره عنفوانا وجمالا والتصاقا بكلّ ما هو إنساني واحتفاءً بكلّ ما يعبّر عن روحه المتمرّدة. وككل أبناء مدينته: مدينة «المصانع» و»المرقة» و»الموبيلات الزرقا» (صفاقس)، كان من البديهي أن يمرّ بتجربة «نادي القصّة والشعر» بدار الثقافة باب البحر صفاقس (هو «نادي الشعر والقصة محمد البقلوطي» حاليا)، وهو نادٍ أدبيّ عريق شاهد على مختلف الحوادث التي مرّت بها البلاد وعلى مختلف المراحل التي مرت بها الحياة الأدبيّة فيها منذ الستينيّات.
التحق جبّار باكرا بـ»نادي الكبار» ضمن نادي القصة والشعر، فكان واحدا من قاماته في زمن يشترطُ في الكبير -بكلّ بساطة وصعوبة في آن- أن يكون كبيرا، فلا فايسبوك ولا هواتف ذكيّة ولا صور ولا لايفات ولا «دام إبداعك» أو «روووووعة» أو «نصّك باذخ» إلخ.. وغيرها من العبارات التي نراها اليوم تعليقا على نصوص قد يكون أصحابها على مستوى عالٍ من الجمال الخِلْقي، ولكنّ نصوصهم عنوان لفقرٍ شعريّ مدقع..
*******
صادف في مستهلّ الألفيّة الثالثة (سنة 2001 تقريبا) أنْ التقيت بجمع من الشباب المقبل على عالم الكتابة الأدبيّة، فاتفقنا على إعادة نادي القصة والشعر إلى النشاط، فكان لنا ذلك. وكان من بيننا بعض المخضرمين، وهم الأكبر سنّا نسبيّا، فكانوا في كلّ مرّة يحدّثوننا عن أنشطة النادي في السابق وعن أعضائه ورواده «القدامى»، وكنا كلّما سنحت الفرصة نلتقي ببعضهم لاحتساء قهوة أو كأس من الشاي في مقهى «الكهف» -وقد كنا من أهله- وكذا كان جبّار أيضا.
في يوم من عام 2002، جاء مدير دار الثقافة وأبلغنا أن لا نشاط للنادي في موعده -السّبتي- الأسبوع القادم لأنّ الدار ستحتضن حفل توقيع رواية «أفريقستان» لعبد الجبّار العش، ومن أراد المواكبة فله ذلك.
كنتُ من بين الحاضرين يومها، وكان ذلك -إن لم تخني الذاكرة- في قاعة العروض بدار الثقافة. ساعتها كنت تلميذا في الثانوي وصادف أن حَضَرَ يومها حفلَ التوقيع أستاذي في مادّة العربيّة عبد الله البهلول، وهو صاحب فضل عليّ وكان بالنسبة إليّ أكثر من أستاذٍ يُدرّسني مادّةً أُمْتَحَنُ عليها. رآني أستاذي بين الحاضرين فَاقْتَنَى لي نسخة من الرواية واتّجه نحوي ثمّ صافحني وسلّمنيها وأشار إليَّ بالاتجاه إلى الكاتب ليوقّعها. كنت مرتبكا. فوجئت بكل ما حصل. تلعثمت وأنا أجول في ثنايا اللغة بحثا عن عبارات الشكر والامتنان. تفطّن إلى ذلك فابتسم وأشار بيده أن امضِ إلى الكاتب، إلى ذلك الجبّار ليوقع نسختك.
تضاعف الارتباك. كان الكاتب قد فرَغَ لتوّه من توقيع نسخة لواحد من الحاضرين ملامحه الآن غائمة. ربما لأني كنت فاقدا تماما لكلّ تركيز. كنت واقفا في حالة صمت وذهول. تفطّن إلى وجودي فمنحني ابتسامة بمثل بهاء ابتسامة أستاذي وهو يهديني نسختي من الرواية. صافحني. شكرني على الحضور والاهتمام. هو يعرفني كواحد من الروّاد الجدد لـ»نادي القصة والشعر محمّد البقلوطي» بدار الثقافة باب بحر، كواحد من أبناء جيل جديد يتلمّس عالم الكتابة الرّحب والشائك في آن، كواحد في أوّل الطّريق في هذا العالم أو ربّما كواحد في لحظة تفطّنه إلى وجود طريق يقود إلى هذا العالم.
تسلّم مني نسختي. وضعها أمامه على الطاولة. أمسك بالقلم وفتح الرواية على الصفحة الأولى، تلك الصفحة البيضاء وهي بلا ترقيم ولا شيء مكتوب فيها حتى عنوان الرواية أو اسم الكاتب. علمت فيما بعد أنّ هذا عرف من الأعراف في عالم النّشر، فتلك الصفحة هي مخصصة لتوقيع الكاتب لمن أراد توقيعا. كتب عبد الجبار في تلك الصفحة:
«الصديق المبدع شاهين السّافي، إليك مبدعا على درب الكلمة القاتلة»
في الحقيقة رأيتُ -ومازلتُ أرى- في كلمة «مبدع» مجاملة لطيفة قدّمها كاتب راسخة قدمه في عالم الكتابة لشابّ قد يكون مشروعا لكاتب وذلك من باب التحفيز والتشجيع. ولكن ليس هذا ما شدّ انتباهي وقتها وإنما تلك العبارة المربكة: «درب الكلمة القاتلة».
ما تكون هذه الكلمة القاتلة وما يكون دربها؟
هل «خليقة» هي أم «صنيعة»؟
ولمن هي قاتلة؟
وما طبيعة القتل الذي ينسب إليها: فعليٌّ هو أم رمزيٌّ؟
وذبتُ في بركان من الأسئلة.
بعد أن فرغت من قراءة الرواية انتبهتُ إلى بعض الأجوبة وعثرت على الطريق الذي يفضي إلى بعضها الآخر، ثمّ اكتشفت أنّ الأجوبة هي عبارة عن بوّابة لأسئلة أخرى جديدة. إنها متاهة ولكنها لذيذة فأزمعت بمكرٍ ألا أدخلها وحيدا.
كانت لنا عادة وقتها، نحن رواد النادي، وهي أن نتقاسم أشياء كثيرة مثل النرجيلة الواحدة وكأس الشاي الواحد وفنجان القهوة الواحد.. وكذلك الكتاب الواحد. سلّمت تلك النسخة من الرواية لباقي الخلاّن وبعد تمام جولتها جلسنا في مقهى «الكهف» ودار حولها حوار أتذكّر بعض تفاصيله منها علاقة الرواية بمدرسة «الواقعيّة السحريّة» في أدب أمريكا اللاتينيّة، وحضور الأساطير فيها ومدى توفّق الكاتب في توظيفها، والتداخل الأجناسي فيها خاصة بين السرد والشّعر، ومدى توفّق الكاتب في رحلته من الشعر إلى الرواية أو بين الشعر والرواية إلخ..
تحدّثنا كثيرا واختلفنا أكثر ولكنّ أهمّ ما في هذا الاختلاف هو جاهزيّة هذه الرواية وقابليّتها لتعدّد القراءة والتأويل وتلك بوّابَتُها نحو الحياة.
منذ عشرين سنة (2002) حضرتُ حفل توقيع «أفريقستان»، وتعرّفت يومها بالتحديد على أناس من الحاضرين ستكون لي معهم تجربة مهمّة في حياتي، وهي تجربتي السياسيّة. تعرفت يومها على سي محمود البقلوطي وسي فتحي الشفي وسي ماهر حنين، ولئن كانت الصداقة هي ضربة البداية في علاقتي بثلاثتهم فإنها ستضاف إليها لاحقا الرّفاقيّةُ التي جمعتني بهم ضمن مشروع سياسي عشته طالبا في الجامعة ضمن الحركة الطلابيّة ومُنْتَسِبًا إلى ذراعها التنظيمي –الوحيد آنذاك- وهو «الاتحاد العام لطلبة تونس».
********
مثّل جبّار جيلا من أجيال البلاد، هو جيل الأحلام الكبرى التي أسقطها البعض مع سقوط الجدار: جدار برلين، وتمسّك بها البعض فشرَّعَ صدره ليحمي الجدار:
لن يمرّوا
دمي اتّحد الآن بالشهداء
لن يمرّوا
وشرّعت صدري لأحمي الجدارْ
لن يمرّوا
وإن عبروا فعلى جثتي لا خيارْ
أظل هنا واقفا كالجبال أغني
وأرسم وجه الوطن العنيد بدمي
وأنحت من الكبرياء النهار..
لا خيار
قبضتي والرفاق هنا
نخلة شامخة كالمنارْ
وهذه العيون العاشقة
تضئ الظلام كشعلة نارْ
قبضة واحدة لاتكل
وتربة المصنع الآن حبلى بجمر وفل
نشنق الخوف بالأغنيات..
ونبني.. ونبني.. برغم الدمارْ
فلا القلب كفّ عن النبض
ولا الحبر جفّ من الرفض
ولا العشق كَلّ برغم الحصار
لا خيارْ… لا خيارْ…لا خيارْ
لن يمرّوا
كم ترنّمنا بهذه الأغنية في ساحات الجامعة في تحركاتنا الطلابيّة. وحين تحيي مجموعة البحث الموسيقي حفلا في بعض الكليات كانت شارات النّصر ترتفع متواشجة مع عزف مقدّمة الأغنية، حتّى إذا انطلق الغناء ارتفعت معه حناجر الحاضرين تردّد كلماتها بحماسة وقد اختلط النغم بشارات النّصر واهتزاز القبضات، فيشتعل المدرج بركانا موسيقيّا إذ استحال الحضور إلى جزء من جوق المجموعة الموسيقيّة.
علمتُ فيما بعد أنّ كلمات الأغنية هي من شعر عبد الجبّار العشّ، وقد روى بعض رفاق دربه ممن واكبوا معظم مراحل تجربته، أنّه كتب القصيدة من وحي لحظة نضاليّة مفعمة بالتحدّي والصمود رغم ما فيها من مرارة، وهي لحظة الهجمة التي شنّها النظام على الاتحاد (1985/1986) وانتهت بتنصيب ما يعرف بـ»الشرفاء» على رأس المنظمة، وبغضّ النظر عن مدى صحّة هذه الرواية التي تحكي أسباب نزول القصيدة، فإنّنا أمام قطعة فنيّة رائعة جامعة بين الصّدق والجمال، فكيف لا يلتقطها رفيق دربه الفنّان نبراس شمّام لينقلها من عالم الكلِمِ إلى عالم النّغم.
بعد عشرين سنة (أي في 2022)، تصدر الطبعة الثانية من «أفريقستان» وتشاء الأقدار أن يكون حفل التوقيع أيضا في دار الثقافة باب البحر بصفاقس ولكن مع اختلافات كثيرة. فما كان محرّما وقتها صار اليوم مباحًا، فلم يكن بإمكان مجموعة «البحث الموسيقي» أن تكون حاضرة وقتها ولكنها تحضر اليوم ليحتفي أفرادها برفيق دربهم عبد الجبّار الذي كتب لهذه المجموعة أروع الكلمات وقد تربينا في الجامعة على أغانيها ومن بينها -كما أسلفنا-: «لن يمرّوا»، وما كان للشاعر على زمّور أن يقترب من سور دار ثقافة آنذاك ولكنه يحلّ اليوم ضيفا عزيزا على الدار ليشارك على طريقته في هذه الفعاليّة.
تشاء الأقدار أيضا أن يتزامن حفل التوقيع مع ما حقّقه أبناء «الاتحاد العام لطلبة تونس» وبناته من نصر عظيم في الجامعة على طلبة «جلاّد الشعب» وإن تغيّر الاسم واللون ولكن ظلّت نفس الرائحة، وهو جلاد استشرف جبّار خطره في روايته «وقائع المدينة الغريبة»، وجاهر بالعداء له ذات صرخة شعريّة مدويّة:
عُمرُو تعدَّى فرمشة عينْ
يتمنّى واحلامو صغيرَه
لا تمنى يعشق أميرَهْ
ولا حلِمْ بعرش سلاطينْ
يحلم يتصوَّر تصويرَهْ
مع تونس تو عندو سنينْ
لكن تونس في الحنديرَهْ
خطفوها تجّار الدِّينْ
**********
في الحركة الطلابيّة شغلتنا السياسة ولكنّها لم تكن شغلنا الشاغل، فقد كان العمل الثقافي جزءًا من مشاغلنا، فبعثنا النوادي الثقافيّة، وللأمانة التاريخيّة نقول إنّ إدارة كليّة الآداب بصفاقس وعمداءَها الذين تداولوا على المسؤوليّة بمختلف مشاربهم (بعضهم «دستوري»)، لم تمارس أيّ تضييق على أنشطتنا في مستوى الخيارات ومحتواها، وإن كانت تشكو دائما من ضعف الميزانيّة المخصّصة لها، ولكّننا كنّا نتصرّف.
كانت نشريّة «إبداع» بعضا مما أنتجناه في تلك الفترة، وهي نشريّة ثقافيّة أدبيّة جامعيّة تصدر عن النادي الثقافي بالكليّة، وكانت هيأة تحريرها طلابيّة صرفة (ناجح خماخم وأنور الغريبي ووحيد القريوي ومنجي السليماني وفؤاد غربالي وضمير المتكلّم) وقد صادف موعد اقتراب صدور أحد أعدادها مع صدور رواية «محاكمة كلب» لجبّار، فاتفقنا على أن نجري حوارا معه، وقد تصدّى لهذه المهمّة الصديق أنور الغريبي وهو أكثرنا ولعا بـ»صاحبة الجلالة»، وهو اليوم مدير لفرع جهويّ لإحدى الصحف اليوميّة المعروفة، فكان حوارا جريئا خلوا من المحرّمات وهو ما يعدّ نشازا لذيذا بمقاييس ذلك الزمان…
واكبنا حفل توقيع «محاكة كلب» (2008 تقريبا) في المركّب الثقافي محمّد الجموسي بصفاقس، وكان قد حضره جمع كبير من المثقفين والكتّاب والجامعيين والحقوقيّين والنقابيّين وأهل الرأي من معارضي النظام في ذلك الوقت.. وحضر البوليس السياسي أيضا، وقد رأينا بعض عناصره المعروفة موجودة في القاعة «تقيّد الأحوال» لتقيّد فيما بعد ما ينبغي عليها تقييده في التقارير..
يبقى أهمّ الحاضرين يومها -معذرة للجميع- هو أستاذ الأجيال وشيخ النقّاد في تونس الراحل توفيق بكّار الذي كان مشرفا على سلسلة «عيون المعاصرة» وقد صدرت الرواية ضمنها. بعد دقائق من تلك التقديمات البروتوكوليّة والكلمات الرسميّة -مرّت كأنها ساعات- أحيلت الكلمة إليه ليضطلع بمهمّة تقديم الرواية، فتكلّم بأسلوبه الطريف المرح النّفّاذ إلى أعماق النصّ.
ظلّ كذلك ساعة أو ما يزيد عن الساعة -مرّت كأنها دقائق- تلاعب فيها بالحاضرين كيفما شاء مراوحا بين الجدّ والهزل، وبين الكلام باللسان العربي والفرنسي، وبين الدّارجة والفصحى. كنّا طلبة يومها، ولكنّا أحسسنا أن كلّ الحاضرين في القاعة -بمختلف درجاتهم العلميّة- قد صاروا طلبة مثلنا في حضرة هذا الأستاذ، وقد اختلط علينا الأمر: أيّهما ألذّ: الرواية أم قراءة بكار للرواية؟
مازلنا إلى اليوم نغبط عبد الجبّار على هذا التقديم، وفي واقع الأمر نحن نغبطه أيضا على الرواية نفسها «محاكمة كلب» التي امتزجت فيها جرأة «الاعترافات» بما فيها من «وقائعيّة» من جهة، بمسحة غرائبيّة تذهب بالتخييل إلى أقصاه من جهة ثانية، وهو ما يبوّئها مكانة رفيعة في عالم الرواية ويرفعها إلى مصاف القطع الفنيّة الرائعة ضمن أدب السيرة الذاتيّة.
بعد ذلك بعقد ونيف، اتصل بي جبّار ليبلغني أنّ الطبعة الثانية من «محاكمة كلب» قد صدرت عن «دار أركاديا»، وأنّ النّاشر -وهو الكاتب وليد الفرشيشي- يرغب في تنظيم حفل توقيع لها في صفاقس. فكان اللقاء مع الشاعر أحمد الشايب مدير دار الثقافة باب البحر ومع الصديقة ألفة مليح وهي منسقة «المقهى الأدبي عبد الجبّار العش» ومقرّه في المدينة العتيقة (البلاد العربي) بصفاقس، وشرعنا في الإعداد لهذه الفعاليّة التي أردنا أن تكون مهرجانا ثقافيّا فنيّا يليق بالمحتفى به وبمسيرته الإبداعيّة.
غصّت قاعة العروض بدار الثقافة باب البحر بالحاضرين. كانوا من أجيال مختلفة. حضر الشباب الطلابي التقدميّ حفل التوقيع ليحتفي بكاتب يمثل جانبا من مهجته الفكريّة، وحضره أيضا من حضر منذ عقد ونيف توقيع الطبعة الأولى وقد صار الشاب كهلا والكهل شيخا، وأمّا من ودّعناهم الوداع الأخير فقد استحضرناهم فكانوا حاضرين على رغم الغياب، ولكن غاب تماما، تماما، «البوليس»… وهذا من محاسن تونس الجديدة..
***********
من محاسن تونس الجديدة أيضا أنّه بات من الممكن -إن توفّرت الإرادات الصادقة- أن نحتفي برموزنا الثقافيّة كما ينبغي أن يكون الاحتفاء، وأن نوليها الاهتمام الذي تستحقّ، وأن نضع منجزها الفني أو الأدبي في دائرة الضوء ليس بغاية التمجيد الأعمى أو عبادة الشخصية، وإنما بغاية فتح الأبواب أمام هذا المنجز ليحظى بمجال أوسع للقراءة والتأويل وهو الضامن لتجدّد الحياة بشكل مستمرّ في الأعمال الفنيّة والأدبيّة.
إنّ بعث مقهى أدبي يحمل اسم عبد الجبار العشّ، كما فعلت الصديقة ألفة مليح مع جمع مثقفي الجهة، يتنزّل في هذا السياق، وكذلك هو الأمر مع «ملتقى الأقلام الواعدة» بدار الثقافة باب البحر الذي ارتأى القائمون عليه أن تكون فيه مسابقة أدبية تحمل اسم صاحب «جلّنار» و»قصائد للعراق» و»وقائع المدينة الغريبة» و»محاكمة كلب»، ونضيف إلى ذلك مختلف الفعاليات الثقافيّة والفنيّة أو النقابيّة أو الحقوقيّة التي احتفت به وبمسيرته وبمنجزه الأدبيّ شعرا وسردا.
هل نكتفي بهذا القدر؟
طبعا لا. إنّما نزيد منه ونستزيد سواءً لجبّار أو لكل من هم من طينه: طينة الكبار..
**********
محنة المرض قد تشتدّ بصاحبها أحيانا، ولكنّها لا يمكنها أن تنال من حبه للحياة وعشقه للجمال إن كان صنو العناد معتادا على المواجهة، فما بالك إن كان محاطا بشكل جيّد من كلّ الذين أحبهم فبادلوه حبّا بحبّ.
كذا هو حال جبّارنا العنيد الذي شاءت الأقدار أن يعيش اليوم مثل هذه المحنة، ولكّنها شاءت أيضا أن يكون له رفاق خلّص وأصفياء أوجدتهم الحياة في طريقه -أو أوجدته في طريقهم لا فرق- وهم ثمرة مسار طويل و»عشرة» سمحة اقتسم معهم الرغيف الواحد والكأس الواحدة، فما أكلوا من لحمه وما شربوا من دمه، وإنما كانوا عونا له في عناده وهو يواجه محنته ويقارعها حتى يزيحها عن طريقه، فيعود ابن الساحات إلى السّاحات سليما معافى.
عاندْ يا جبّار.. لا خيار..