د.هاجر كريمي
لئن اعتبر البعض الهجرة أو التنقل البشري من الجنوب إلى الشمال أمرا حادثا وحديثا، فإن المؤرخ لا ينظر للحدث من الزاوية نفسها، سياسية كانت أو إعلامية أو من وجهة نظر نابعة من المجتمع الملاحظ.
من وجهة النظر التاريخية، لا يمكن اعتبار الهجرة» ظاهرة» بل هي حركة بشرية طبيعية لا ينفرد بها الإنسان المعاصر، بل توارثها العنصر البشري عبر العصور. لكن ما يجدر بنا الوقوف عنده وتحليله كظاهرة هي الأسباب التي تتعدد وتختلف عن بعضها البعض عبر العصور. وكلما تحولنا من ظرفية تاريخية إلى أخرى إلا وتنوعت أشكال الهجرة باختلاف أسبابها ودوافعها وطبيعة المناخ الذي تنشأ فيه. ترتكز قراءتنا على مراجع وثقت لتنقل عناصر بشرية إفريقية داخل المجال الإفريقي محدثة تغيرات ديمغرافية اعتبرتها حركات طبيعية نشأت منذ عصور ما قبل التاريخ وفي أوج فترات الحضارات القديمة وزمن «الحضارة القبصية» حيث كان البشر يتنقلون وينقلون «ثقافتهم البدائية من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب والعكس بالعكس. كذلك عرفت البشرية أنواعا متعددة من الهجرات ومن أهمها هجرة ما يعرف «بشعوب البحر» خلال الألفية الثانية قبل الميلاد وهم شعوب لا نعرف عنهم الكثير، توافدوا بأعداد كبيرة إلى شمال إفريقيا عبر البحر وكان لهم تأثير كبير على الحركات الديمغرافية وتشكل المجتمعات شمال إفريقية.
الإنسان الإفريقي البدائي كان يضطر للهجرة والترحال اضطرارا ولم يكن يتنقل بصفة فردية بل كان يتحرك ضمن مجموعات بشرية تبحث عن المكان الآمن الذي يوفر فرصة للصيد والبقاء على قيد الحياة. هذه الهجرات المتكررة ساهمت في اختلاط العناصر البشرية وفي تفرد عناصر واستقرارها لمدة أطول في مجال معين اتخذت منه شيئا فشيئا موطنا لأجيال من بعدها، أثرت في ثقافته وفي بنيته الديمغرافية والمجتمعية كما ساهمت في خلق قفزة اقتصادية في بعض الحالات. أما البعض الآخر فقد استدام حياة الترحال والتنقل من مجال لآخر ولا يزال إلى اليوم يتوارث هذا السلوك الإنساني البدائي باتخاذ الهجرة منهجا إنسانيا يفك به عزلته كما يجد فيه حلولا اقتصادية ومأمنا من أخطار الحروب والأزمات والمجاعات والآفات الطبيعية.
لقد تكررت الهجرات عبر المجالات وهي شبه غريزة بشرية طبيعية في بدايتها شأنها شأن الهجرات الموسمية لدى الحيوان والتي بدورها قلت مع انقراض بعض الكائنات ولم يعد يمارسها سوى الفصيل النادر على غرار الطيور المهاجرة والأسماك. من المؤكد إذا أن الهجرة لدى سكان الجزء الجنوبي لقارتنا إفريقيا، دأب على التنقل في مواجهة الطبيعة القاسية والأنظمة الاجتماعية المعقدة التي لا تعطي مساحة كافية للفرد بل تضيق عليه الخناق اقتصاديا وسياسيا وتكبله بالعرف والتقليد والممارسات المجمتعية المعقدة. فلم يكن للفرد وللمجموعة التي تواجه الأزمات سوى خيار النزوح داخل مجالات ضيقة أو الهجرة وقطع مسافات كبرى بحثا عن حاجيات معاشية وكذلك احتماء من الأخطار وبحثا عن الأماكن الآمنة. فكانت غريزة الإنسان البدائي عادة ما تدفعه إلى الهجرة إلى الشمال إن كان من سكان الجنوب وإلى الجنوب إن كان من سكان أوروبا والمناطق الباردة والثلجية وقد أثبت علم الآثار هذه الحقيقة التاريخية القديمة قدم البشر على وجه الأرض، إذ تم العثور على هياكل عظمية وجثث متجمدة لسكان المناطق الثلجية أثناء هجرتهم المفترضة إلى الجنوب. أما بالنسبة إلى هجرة سكان جنوب الصحراء نحو الشمال وما يحدث اليوم من تحركات الآلاف من سكان الجنوب في اتجاه شمال إفريقيا نعتبر أنه اتخذ منحى مخالفا تماما للصيرورة التاريخية التي تعتبر حركات سكان الأرض حركات طبيعية داخل إطار متعارف عليه من حيث الشكل والأسباب والدوافع. إطار تتحكم فيه التوازنات الديمغرافية أو الاقتصادية والاجتماعية أو لأسباب قاهرة والمتمثلة في الحروب والنزاعات المسلحة وهي نادرا ما تؤدي إلى هجرة جماعية داخل المجال الإفريقي، ولا يذكر التاريخ أحداثا من هذا القبيل فيما عدا الحركات الإرادية الفردية وهي لا تشكل ظواهر تاريخية. ما نشهده اليوم يخرج عن السياق التاريخي لأن الهجرة الجماعية والنزوح الجماعي كما تسرده الأحداث التاريخية التي عاشها السود والبيض بنفس الحدة والحجم هي هجرة من مجال يشهد مناخا اقتصاديا متدنيا نحو مجال يمتاز بمناخ اقتصادي مزدهر وواعد، كما يشهد التاريخ كذلك بأن الهجرات الإرادية تتسبب فيها أوضاع اجتماعية وسياسية قاهرة وغير ملائمة لكرامة البشر وحقه في الحياة. نحن اليوم في تونس أمام الإعلان عن واقع جديد للهجرة وهو ما قيل عنه وسمي» بهجرة العبور» تبعا لكل الاعتبارات السابقة الذكر، وبالتالي فإن شمال إفريقيا سيكون محطة للعبور نحو الشمال الأوروبي الذي تتوفر فيه الشروط الأساسية لا سيما المناخ الاقتصادي المزدهر. تاريخيا نحن نعيش ثاني أكبر هجرة غير قسرية عرفها التاريخ لكن في اتجاه الشمال (التنقل القسري لسكان جنوب القارة الإفريقية نحو القارة الأمريكية) انطلاقا من افريقيا جنوب الصحراء نحو أوروبا لكن في شكل محطات يحتمل أن تتحول إلى وجهة نهائية إن لم تنجح. وفي كل مرة يكون شمال افريقيا المطل على البحر وعلى شمال الكرة الأرضية، مسرحا «لهجرة العبيد سابقا» و «هجرة العبور حاضرا ومستقبلا» علما وأن هذا المجال كان يشكل المحطات الكبرى للتجارة المثلثة «تجارة العبيد» منذ نهاية القرن السادس عشر. في البداية كانت هذه الحركات البشرية تبدو تلقائية واختيارية خاضعة للقوانين الدولية ومستوفية لشروط التنقل بين الحدود والمجالات ولا تكتسي صبغة الهجرة الجماعية التاريخية. إلا أن تتالي الأحداث وتسارعها بدأ يرفع الستار عما يشبه خطة عمل محورية تهدف إلى إرساء نظام عالمي اقتصادي واجتماعي جديد. اكتشفنا حدثا تاريخيا مسرحه شمال إفريقيا ومركز استقراره البلاد التونسية في إطار محاولة لإعادة التاريخ لنفسه بأشكال مختلفة وممارسات مقنعة فيها استهداف لسكان القارة الإفريقية جنوبها وشمالها. حدث لم يعد أسطورة ترويها كتب التاريخ والأدب الإفريقي، إنها أحداث القرن الواحد والعشرين تلك التي تعيد إحياء تراث خلنا أنه لن يعود. عمليات جلب مجموعات منتمية لجنوب الصحراء وحثهم أو إقناعهم باتباع مسالك هجرة جماعية منظمة وكثيفة نحو الشمال في انتظار هجرة ثانية ونهائية نحو أوروبا هو ضرب من سياسات «العبودية الجديدة» المغلفة بمبادئ حقوق الإنسان وحرية التنقل. يبدو أننا سنتهيأ قريبا لتقبل الجزء غير المعلن لهذه الأحداث، ننتظر قريبا هجرة منظمة قادمة من جهة الشمال من أوروبا في اتجاه الجنوب وهو ما يذكرنا ب»الهجرة الكبرى» للبيض في القرن التاسع عشر والتي جدت على إثر استكمال افراغ افريقيا جنوب الصحراء من سكانها وفك تماسك منظومتهم الاجتماعية القبلية و تحويلهم إلى عبيد مستغلّين في مزارع القطن والأرز والقهوة بالأمريكيتين وبنيوزيلندا. تذكر الأرقام أن ما يقارب 36 ألف رحلة قسرية لملايين السكان الأصليين بين إفريقيا والأميركيتين تمت ما بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر. تم بعد ذلك استغلال أراضيهم ونهب ثرواتهم وإخضاعهم للسياسات الاستعمارية المذلّة حتى بعد إقرار قوانين منع العبودية والاتجار بالبشر. حتى أن عدد الأفارقة «المهاجرين قسرا» عبر المحيط الأطلسي بلغ ثلاثة أضعاف الأوروبيين في 1820 وفي المقابل، في الإطار التاريخي نفسه، شكلت هجرة البيض إلى إفريقيا حدثا عالميا يعرف ب «الهجرة الكبرى»، التي ساهمت في تنقل الآلاف من سكان أوروبا نحو الأراضي الموعودة في القارة الإفريقية وقد كان النصيب الأكبر من هذه الهجرة لجنوب إفريقيا. لكن كان لشمال إفريقيا نصيب هام إذ تذكر المراجع مثلا أن عدد السكان الإيطاليين، المالطيين والفرنسيين والعديد من الجنسيات الأروبية التي استقرت بمدينة حلق الوادي، قد تجاوزت عدد السكان الأصليين التونسيين.
تعتبر «الهجرة الكبرى» حدثًا تاريخيًا مهمًا في جنوب إفريقيا خلال القرن التاسع عشر رغم أنها نشأت من صراعات داخلية بين المهاجرين المستوطنين الأوائل إلا أنها خلقت نزاعات اجتماعية وثقافية وحضارية عميقة وكذلك انقسامات عرقية وما تولد عنها من حرب عنصرية.
انطلاقا من مبدأ راسخ لدينا وهو أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن البشر في كل الأزمان قادرون على إعادة تكرار وصياغة الأحداث مستعينين بالتجارب التاريخية. ونتيجة لصحوة شعوب إفريقيا جنوب الصحراء وبداية رفضهم لكل نفس استعماري، وأمام تهرّم المجتمعات الغربية وبروز شبح الهيمنة التكنولوجية، هل سيستلهم الخبراء العالميون حلولا تاريخية للأزمات الاقتصادية الحالية؟ وهل سيعيد العالم تجربة وضع اليد على الثروات البشرية والثروات الطبيعية الإفريقية من خلال افتعال حدث «الهجرة الكبرى»؟. كيف ستواجه تونس وشمال إفريقيا أمرا أصبح واقعا وهل ستوحد سياساتها لمواجهة تيار الهجرة العالمي أم ستنساق خدمة لمصالحها الاقتصادية الاستراتيجية واستثمارا في الأزمة العالمية لفك عزلتها؟
تونس أرض عبور، التوافد الكثيف لسكان جنوب الصحراء عابر، التوطين والاستيطان أمر واقع، الأرقام تتفاوت ولكنها تعد بالآلاف، المنظمات تندد وتستنكر لكنها لا تقر بما تعلمه من حقائق، … واقع لم يعد يقبل الاحتراز، نحن أمام حدث تاريخي عالمي مفتعل، وقد تأكد وثبت بأن الشعوب في النهاية لا تملك الحق في تقرير المصير ولا يزال المصير بيد القوى الاقتصادية التي تقرر من له الحق في امتلاك الثروة. نرجو ونأمل ألا نعيد صنع وتكرار السياسات الاستعمارية والعبودية المقنعة ويبقى هامش ولو بسيط للشعوب كي تقرر جزءا من مصيرها.