
الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم
عندما فرض الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من دول كثيرة.. العديد منها تاريخيّا حليف للولايات المتحدة وتربط بالضّبط ككندا والمكسيك باتفاقيات تكامل اقتصادي (نافتا).. اعتبر البعض هذا تراجع عن العولمة الاقتصادية والتي دشنت آخر مراحلها الولايات المتحدة باتفاقية الجات ثم اتفاقيّة التجارة الحرة وكذلك باتفاقيات ثنائية مع “كندا” و”المكسيك” (نافتا) !الرسوم المفروضة وبالذّات على السيارات ومكوناتها والتي تشكل حوالي 60% من السيارات المباعة في أمريكا سواء كاملة أو كأجزاء ويعتقد اقتصاديو اليمين بأنّ هذا الإجراء يمكن أن يعيد صناعة السيارات للنمو في الولايات المتحدة بعد ركود أستمر ثلاثين عاما لكن الحقيقة بآن هذا لن يحدث وإن حدث سيستغرق وقتا طويلا تتغير خلاله شروط مؤثرة في الاقتصاد الدولي! ستقوم الدول التي فُرض على منتجاتها الرسوم بفرض رسوم على السلع الأمريكية وحتى في حالة كندا على الكهرباء التي تمدّ ثلاثة ولايات أمريكية هامة بالطاقة مما يشكل ضربة كبيرة للصناعة في ولايات صناعية حول البحيرات الكبرى! كل الدول التي فُرضت الرسوم الجمركية عليه ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة لصالحها -حتى إسرائيل-وخاصة الصين والتي هي الشريك التجاري الرئيسي وكل الدول تستعد لتنفيذ ردود بفرض ع الرسوم الجمركية على السلع الواردة من الولايات المتحدة وهو أمر سيُدخل مجمل النظام الاقتصادي الدولي في حالة فوضى غير مسبوقة وربما انهيار أكبر من أزمة الثلاثينات مع تداعيات سياسية وعسكرية! أزمة الركود الكبير في الثلاثينات نتج عنها بشكل مباشر الفاشية والحرب العالمية الثانية! أمريكا لا تقبل إزاحتها عن المركز الأول وهو ما قد يستدعي استخدام لعناصر قوتها غير الاقتصادية للحصول على احتكار لموارد طبيعية جوهرية للصناعات التكنولوجيّة كما تحاول مع أوكرانيا وكذلك كندا وجزيرة جرينلاند من مشتملات ومملكة النرويج للحصول على المعادن النادر الضرورية للصناعات الإليكترونية.
هل ستستخدم الولايات المتحدة تفوقها العسكري لإجبار الخصوم والحلفاء على الرضوخ لتفوق أمريكي مزعوم؟ هل يمكن لاكتشافات تكنولوجية حاسمة تحققها الولايات المتحدة – كما فعلت القنبلة النووية- اكتشاف مصدر جديد للطاقة غير الأحفورية، اختراعات في مجالات الحاسوب نوعية-تعطيها مكان المقدمة على منافسيها الحاليين أو المحتملين! لكن الشكوك تتزايد حول إمكانية أن تحقق أمريكا التفوق في هذه المجالات! ربّما تلحق بها الصين أو أوربا موحدة بأثر الضغوط الأمريكية وكذلك للاحتياجات الحيوية للغاز الروسي والمتوسطي وخاصة لألمانيا قاطرة الاقتصاديات الأوربية والتي يجتاحها يمين قومي متصاعد وتغيير جوهري للعبة السياسية وحتى مواجهات مع حاميها القديم .
العولمة قديمة جدّا ولكنها ليست أقدم من الرأسمالية.. ويمكن تأريخ بداياتها بالمركانتيلية البريطانية وعلى “رأسها شركة الهند الشرقية” والتّركات مهمتها الرئيسية التجارة بين الشرق الأدنى والجزيرة البريطانية وهو شركة كانت مندمجة بالتّاج البريطاني وحققت جزء كبير من التراكم الأولي للرأسمال مما مكن الانطلاق للرأسمالية الصناعية في صناعات الآلات والنسيج التي اعتمدت على الحصول على القطن من المزارع الامريكية ثم الهندية والمصرية عندما تعطلت الملاحة في المحيط الأطلسي بسبب الحروب الأمريكية!
المملكة المتحدة والتي كانت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس خاضت حرب الأفيون في الصين تحت شعار التجارة الحرة في الوقت الذي فيه تفرض حواجز جمركية على استيراد السلع التي تتنافس مع مثيل لها في الجزيرة البريطانية وحتى في أمريكا كانت ضريبة الشاي هي المُفجر لحرب الاستقلال الأمريكية! كانت حرية التجارة تٌستخدم في الحالات التي توفر للمتروبول شروط أفضلية لتحقيق التراكم والسيطرة الاقتصادية.
الكينزيّة جاءت بعد أعقاب الركود الكبير في الثلاثينات -الذي عمقه في الولايات المتحدة الحمائية الديوانية بفرض رسوم على المستورد – بمقولة الأعمال العامة واتفاقات الدولة لتحفيز السوق وامتصاص البطالة: “أعطي الناس فلوس ليحفروا حفرة ومن بعد يردموها يصير لديهم أموال ليشتروا السّلع وتعمل الأسواق”(New Deal) !ما يُقدم علية ترامب بإشراف إيلون ماسك هو العكس تماما وهو تسريح مئات الألوف من العاملين في وكالات فيدراليّة وبعضها وكالات حساسة ك”ناسا” تحت دعوى الكفاءة الاقتصادية أو تخفيض تكاليف العمل البشري كما لو أن المجتمع يُدار كما تدار شركة مساهمة! التعليم مثلا والذي ألغيت الوزارة الفيدرالية للتعليم ليس له مردود اقتصادي مباشر ولكن مردوده استراتيجيّ في الاكتشافات التكنولوجيّة ونجاعة الموظفين وتقليص معدلات الجرائم المٌكلفة اجتماعيّا كما أن مئات الآلاف من المعلمين والأساتذة لا يمكن أن يُعاد تدويرهم في وظائف أخرى صناعيّة وبالتّالي سينضمون لجيش العاطلين عن العمل! ساهمت الكنزية في الثلاثينات في الخروج من الكساد الكبير وخطة ترامب ستعمق الركود وربما تؤدي لأزمة كبرى في سلاسل التوريد ولن تؤدي لإعادة التصنيع للولايات المتحدة وقد تودي لحروب في مناطق مختلفة ستكون آثارها كارثية على الاقتصاد العالمي ككل فطبيعة الحال لن تقف أوربا والصين مكتوفة الأيدي بل سترد بما تملكه من أدوات اقتصاديّة وغيرها وحتى المملكة المتحدة الحليف الأقرب لأمريكا قد تعيد حساباتها بشأن الانصياع الكامل لإدارة ترامب وخاصة بسبب التأثيرات البالغة الضرر على بورصة لندن والاقتصاد البريطاني ككل.
الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تعمل على بناء تحالف من اليمين المتطرف شبه الفاشي حول العالم بتصور أن المواجهة مع الصين وآسيا كما المواجهة مع العالم الإسلامي كما تصورها “صمويل هتنجنتون” في “صراعات الحضارات” هو الطريق لاستمرار هيمنتها عالميا وليس المنافسة الاقتصادية في عالم مفتوح وهى تفقد قوتها الناعمة والتي ملكتها بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك ضمن الحركات الحقوق الإنسانية بينما تحكم استخدامَ قوتها العسكرية موانع لا يمكن تجاوزها إلا في عملية انتحار جماعي او كما عبر أحد كتاب مجلة” السياسة الخارجية” مشروع “نيرون” الذي أحرق روما ستكون الولايات المتحدة من يحترق بنيرانه..
في تاريخ الولايات المتحدة هناك سوابق لـ”ترامب” في نهاية القرن التاسع عشر عمل “ويليام ماكينلي” على انتهاج سياسة اقتصادية حمائية وسياسة خارجيّة تدخلية امبريالية لكي ينتهي الامر باغتياله (1901) ويحل محله “تيودور روزفلت “بسياسة اقتصادية مختلفة! هذا مع العلم بان شبكات التزويد الدّوليّة لم تكن قد وُجدت وكذلك كانت الصناعة الامريكية تعمل لسوق داخلي وكانت امريكا مُصدر أساسا لسلع زراعية! لقد لاحظ العديد من المحللين الأمريكيين ان “ترامب” يقرأ من كتاب” مكانلي “! (النيويورك تايمز).
مرة أخرى في معمعان الركود الكبير “هربرت هوڤر” (1930) وفي محاولة لتمويل الميزانية الفيدرالية وتحت ضغط المزارعين الكبار فرض رسوما جمركيّة وكانت تداعيتها تعميق الركود كما نشاهد في الرّوايات والأفلام المرعبة ك”عناقيد الغضب” وتحوّل الملايين إلى متشردين. وأصبح” السيد هـوفر” يٌضرب به المثل في الإدارة السيئة لأزمة اقتصادية دورية. والعولمة الاقتصادية تم هيكلة الشركات العابرة للقوميات على أساسها وخلق شبكات توريد ضخمة لها لا يمكن إيقافها بقرارات إداريّة .
العولمة الاقتصادية الشاملة بلغت من العمر حوالي ثلاثة عقود واكتملت المنظومة الهيكلية لها عبر اتفاقية الجات وتحويرها في اتفاقية التجارة العالمية بدفع من الإدارة الامريكية وتحت وصايتها والاقتصاد الدولي الآن على نسقها ولا يمكن عكسها بإجراءات تنفيذية لرئيس الولايات المتحدة ومساعدوه!
وحتى اليساريين المعاكسين للعولمة كانوا يتحدثون عن عولمة بديله! بمعني ليس فقط حرية انتقال رؤوس الأموال والسلع بل أيضا قوة العمل وفرض حد أدنى عالمي للدخل يضمن الحياة الكريمة في حالات التسريح وأسبوع عمل من 35 ساعة وإلغاء الديون على الدول الفقيرة والتي نهبها حكام ديكتاتوريين!
العولمة كانت مرادفا وصنوا للرأسمالية وليست اختراعا لبعض السّاسة والمفكرين الاقتصاديين وتشعبت في مناحي الحياة المختلفة بفعل الاكتشافات التكنولوجية فأصبحت أسواق المال معولمة والميديا والتعليم والفنون والثقافة والتعليم والرياضة وحتى الجنس معولمة !كل مجالات الحياة صارت ما بعد قومية ولا يمكن الارتداد إلاّ بتحطيم النظام كله! وهذا لن يفيد منه أحد على وجه الأرض وربما بهذا المعني يعمل الألفيون المهووسون. إننا مضطرون موضوعيا للعيش ضمن النظام الرأسمالي العالمي والنضال ضمنه -جماعات وطبقات ودولا وأشخاصا-لتحسين أوضاع الناس والعاملين بالأجرة والمزارعين والطلاّب والمثقفين لكن النظام باق وليس هناك دلائل موضوعية على رحيله قريبا.
“بيتر ناڤارو”ه و اقتصادي من “هارڤارد” ورئيس المستشارية التجارية لترامب وهو رجل سبعيني حاول مرات كثيرة الترشح لكراسي محلية وفيدرالية ويعتبره الكثيرون من الاقتصاديين الأمريكيين “مهرجا” مسكونا بحالة حمائية تجارية (ماركانتيلية) تجاه كل الاطراف وخاصة الصين (كتابه “الموت بواسطة الصين”) ويعتبر سلعها الاستهلاكية المدعومة من حكوماتها السبب الرئيسي لانحسار الصناعة الأمريكية!
يعتبر الاقتصاديون المهمون أن الميكنة المتزايدة هي السبب الرئيسي لانخفاض العمالة الصناعية. المنظّر الترامبي وكتبه ومقالاته الصحفية وتحولاته السياسية من ديموقراطي سابق لجمهوري حالي.. كانت دائما موضع تشكيك في صدقيّتها المعلوماتية! لكنّه بتبسيطات شعبوية أصبحت” المنافيستو” للمقاول “دونالد ترامب” والعديد من الجمهوريين!، ويدير الحرب التجارية معه وزير التجارة البليونير العجوز المحافظ” ويلبر روس” (87 عام)! وكلاهما ينتمي لعصر مضى! ينافحان من أجل حرب تجارية مع الصين! ويتشكك غالبية المحللين أنها ستلاقي نجاحا بالذات في مسألة تشجيع عودة الصناعة الأمريكية القديمة!، تدريب ملايين من العاملين وإنشاءات متنوعة وتغيير في نظم الإدارة!
حتى حرب دولية لا يمكن أن تعكس هذا المسار كليّا، فقط قد تعيد توزيع القوى داخله وهي (الحرب) ما يبدو مستحيلا حتى في أسوأ السينيايوهات كابوسية. حتى الآن لا يوجد بديل وهذا الشعار الذي أطلقته العجوز “مارجربت تاتشر “بدوافع ولأهداف رجعية محافظة يمكن تصوره على العكس في حالات تعبئات جماهيرية ومواطنية فعالة.