
الكاتب والشاعر: شاهين السّافي
يذكر أنها تلقت أغرب طلب زواج يمكن أن يحدث لأي امرأة.
هي السيدة آني هوفا. ولدت في الدانمارك، في سياق عالمي مشحون بالتناقضات، ونشأت في وسط عائلي ثوريّ، إذ كان جدّها من أوائل الديمقراطيين الاشتراكيين في الدانمارك، وكان والدها شيوعيّا وقد انتسب إلى الحزب الشيوعي الدانماركي، ثمّ التحق بصفوف المقاومة ضد النازيّة وقاتل مع رفاقه من أجل تحرير بلاده من الاحتلال الألماني.
بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة وسقوط النازيّة، مثّل إعلان قيام ما يسمى “دولة إسرائيل” حالة من الارتياح لدى قطاع من الرأي العام الأوروبي، بما في ذلك الدانمارك، فقالوا أخيرا صار لليهود مكان آمن في هذا العالم. ولكنّ الأقدار شاءت أن تلتقي الشابّة آني هوفا بمجموعة من الطلبة الفلسطينيين خلال مؤتمر طلابي انتظم في يوغوسلافيا في مستهل الستينات، وهناك اكتشفت جانبا آخر كان مخفيّا من الحقيقة، وهو أنّ هذا “الملاذ الآمن” لليهود كان على حساب شعب آخر اقتلعوه من أرضه وصارت أعداد كبيرة منه تعيش في مخيمات اللاجئين في المنافي: إنه الشعب الفلسطيني.
******
وقفت آني أمام مرآة ذاتها تعاتبها، وكيف لا وهي الشابة التقدميّة التي نشأت وترعرعت في محيط ثوري. كيف يحدث أن يعيش شعب ما في هذا العالم مأساة بهذا الحجم وهي لا تعرف؟
أحست أنّ قوّة دعائيّة أخطبوطيّة جبارة قد فعلت فعلها ونجحت في بثّ تصوّرها عمّا يدور ويجري من وقائع وأحداث في تلك الرقعة الجغرافيّة من العالم، والتي كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين، ثم عقدت العزم أن تعرف ما خفي عنها، أو بالأحرى ما أرادت الدعاية الصهيونيّة إخفاءه عنها وعن غيرها من الأوروبيين، الواقعين تحت سطوة عقدة الذنب نتيجة الجرائم النكراء التي ارتكبتها النازيّة في حقّ اليهود.
في بيروت التقت آني بغسان كنفاني. لم يكن اللقاء الأوّل لطيفا. فحين قدّمت نفسها له وطلبت منه زيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، رفض كنفاني طلبها وقد بدت عليه علامات الغضب. كان واعيا -وهو الثوري وابن المخيمات- أنّ ذلك النوع من التعاطف الإنساني البارد المثقل بالحياد، والذي لا يضع الإصبع على الداء ولا يميّز بين الضحيّة والجلاد، لا يمكن أن يقدّم شيئا يذكر للفلسطينيين وقضيتهم. قال لها قبل أن تزوري المخيمات يجب أن تعرفي كل شيء عنها، وأن تكوني على بيّنة من حقيقة كل ما حدث.
******
بعد فترة قصيرة توطّدت علاقتها مع غسان، وقد تسلل الحبّ إلى قلبيهما. دون سابق إنذار، فاجأها -كما يفاجئ قراء أقاصيصه ورواياته ببعض الأحداث أو النهايات- بطلب الزواج. في حوار لها مع مجلّة “الآداب” (تموز/جوان 1992) أجراه معها الراحل سماح إدريس، روت آني بعض التفاصيل عن تلك الحادثة، فقالت: ” لقد دعاني إلى العشاء بعد أسبوعين على لقائنا، وكان ذلك في مقهى الغلاييني. جلس. وقال: “قبل أن نغادر هذا المقهى، عليكِ أن تجيبي عن سؤالي: هل تتزوجينني؟” ثم أردف قائلًا: “لكنني فقير، لا مال لديّ، لا هويّة. ثم إنني أعمل في السياسة، لا أمانَ لي. وأنا مصاب بالسكّري.” جرت العادة في مثل هذا المقام أن يكون الرجل أكثر لطفا، كأن يذكر بعض محاسنه، أو درجة استعداده لخوض غمار تجربة الزواج، أو أن يقدّم بعض الوعود بحياة ملؤها السعادة والهناء والوفاء إلخ.. ولكن غسان وقف على النقيض من كل ما جرت به العادة، فكانت كلماته صادمة..
تواصل آني روايتها للحادثة فتقول: ” كنتُ أستمع إلى كلّ تلك النقاط السود (وهي تقصد: الفقر، انعدام المال، السياسة، السكري إلخ..)، ثم قلتُ له: “عليّ أن أفكّر في عرضك.” وكنّا نصعد الدرجَ المفضي إلى فناء المقهى. لكنّني قبل أن أصل إلى الدرجة العليا قلتُ: “نعم سأتزوّجك..” فكأنها كانت تردّ على المفاجأة بمفاجأة أكبر لتضفي على الحكاية لذة أوفر.
******
صحيح أنّ كلمات غسان كانت صادمة في ذلك المقام، ولكنّنا إن تأملناها خارجه سنقرّ بلا تردّد أنّه كان صادقا في كلمة قالها. فحياته لم تكن أبدا حياة سهلة مرفهة، وإنما كانت مليئة بالمصاعب والتقلّبات، وللنزوات فيها نصيب. فهو الكاتب الملتزم بقضيّة شعبه والصحفي المقاوم الذي رفض أن يحمل سلاحا آخر غير قلمه، والسياسي المنتسب إلى فصيل ثوريّ وهو الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين التي كانت تحارب العدوّ أينما كان، ولها صيتها في عمليات اختطاف الطائرات التي تقلّ على متنها ركابا من الكيان الغاصب خلال تلك الفترة.
كانت آني صامدة. يبدو أنّها تعشق الصعاب أو اعتادت عليها أو هي جزء من ذاكرتها وتركيبتها وشخصيتها. فمنذ كانت طفلة في الدانمارك وهي ترى المقاومة جزءا من حياتها العائليّة، فلا شيء تغيّر إلا الجغرافيا، ولكنّ المظالم هي نفسها فالنازيّة كانت تعربد هناك، في الغرب، في بلادها، والصهيونيّة تقترف أعظم الجرائم هنا، في الشرق، في فلسطين.
يبدو أنّها حين أحبّت غسان أحبت كلّ ما يمثّله، وأحبّت الأرض التي أحبّها وقاوم مغتصبيها من أجل أن تعود إلى أهلها، حتى أنها باتت ترى نفسها واحدة منهم.
******
نجح العدو في تصفية واحد من أشرس مقاوميه، رغم أنّه لم يحمل يوما سلاحا. يذكر رفيق الشهيد وصديقه الراحل ماهر اليماني (قياديّ في الجبهة) -في شهادة له- أنّه حين استشعر خطرا على حياته حاول تسليمه مسدّسا (فَرْدْ) ولكنّ غسان رفض ذلك بشدّة وقال: “شو بدّي فيه”.
لا شكّ أنّ دوي انفجار السيارة التي كان يركبها غسان مع لميس ابنة أخته كان مفزعا، مثقلا برائحة الموت. كان من الممكن أن تنتهي القصّة هنا، في هذه اللحظة، كأن تعود الأرملة الشابة مع طفليها إلى الغرب، إلى الدانمارك، وتواصل حياتها هناك في بلدان الرفاه. ولكن يبدو أنّ القصّة التي شرع فيها الشهيد غسان كنفاني لا تريد أن تنتهي، أو لنقل لا تريد أن تكون كذا نهايتها.
هي بداية جديدة شرعت فيها آني منذ تلك اللحظة. فقد أرادت أن تكون استمرارا لغسان وأن تحفظ ذكراه في آن معا. آني في الماضي هي نفسها في “الآني”، فلا شيء تغيّر إلاّ طرائق الدفاع عن الحق الفلسطيني، فكلّ من موقعه يسهم في الذود عن القضيّة ورفع رايتها وتحقيق غايتها.
******
هي ليست كاتبة أو صحفيّة مثل غسّان، ولكنّها قادرة على تقديم يد العون للكثيرين من أبناء المخيمات التي نشأ فيها غسان، تلك المخيمات التي جاءت من آخر بلاد الدنيا لتزورها وتكتشف حقيقة ما يدور بعيدا عن زيف الدعاية الصهيونيّة، تلك المخيمات التي كانت سبب معرفتها بغسان.
آني هي اليوم رئيسة مؤسسة ثقافيّة واجتماعيّة تحمل اسم الشهيد غسان كنفاني: “مؤسسة غسان كنفاني الثقافيّة”، وهي تقوم بمجهودات عظيمة داخل المخيمات الفلسطينيّة في لبنان (“برج البراجنة” و”عين الحلوة” و”البدّاوي” والراشدية” و”نهر البارد” و”مارلياس” إلخ..)، خاصّة في مجال التربية والتعليم والفنون، إذ ينتفع آلاف الأطفال بما تقدّمه من خدمات جليلة في هذا المجال الذي يقطع الطريق أمام الجهل والأميّة، ويفتح أبواب الأمل في التحرر والانعتاق..
ما كان يحلم به غسان، ها نحن نراه في كَنَفِ الآني..