
بقلم: الأستاذ عادل الحدّاد متفقد عام للفلسفة، متقاعد
طالعتني هذه الأيام تدوينات لبعض الأصدقاء تكرر نشرها تضمنت قولا لعلي شريعتي حول الثورة والظلم: “لا تنجح أغلب الثورات، لأننا نغير الظالم ولا نغير الظلم”. وفي الواقع أيقظنا ما يجري في ربوعنا وخاصة ما يجري في سوريا الحبيبة (مع الفارق في الدرجة) على فواجع جمة وانتهاكات فجة نكشف عن ظلم تكثف حتى أحدث رجة في الضمير الإنساني وثقافتنا الكونية بلغت بنا درجة من التظنن لم تشهدها من قبل.
استوقفتني هذه التدوينات لأني أعرف أن من بين هؤلاء الأصدقاء من قرأت لهم تمجيدا ومباركة لما يتعرض له طيف من المواطنين التونسيين من “مظالم” (هذا في تقديري طبعا) ويُفرِطون في مباركة ذلك ويدفعهم حماسهم احيانا إلى استهجان ما يدعو إليه البعض حين المطالبة “بمحاكمة عادلة” لهؤلاء المتهمين (وأنا من دعاة المحاكمة العادلة وقرينة البراءة)
هناك أمر ما لا يستقيم في وعينا بالظلم وإنها لمفارقة غريبة تجعلنا نراوح بين الاحتجاج ضد الظلم وبين استحسانه وتبريره. هناك “ظلم صامت” بتّار قابع في أعماقنا (“ظلم في غمده”). يمكن أن نتوجه إلى كل طغاة العالم بهذه الرسالة التي أسوقها معتذرا لعنترة وللوأواء الدمشقي:
كل السيوف قواطع إن جردت
وحسام “ظلمك” قاطع في غمده.
فالظلم ظلم في الواقع وفي الاستعارة، ظاهر للعيان بعنفه كان أو خفيا في غمده. ومعنى هذا أن الظلم لا يُختزل في وجهه البشع الذي يجسمه قطع الرؤوس أو ذبح الرقاب بل يتعداه إلى كل وجوه القهر المختلفة.
ما الذي يمكن أن يكون هذا الظلم “الذي في غمده”.
لم تفعل الثورات في الغالب غير استبدال ظالمين بظالمين قد يكونون أكثر عنفا وشراسة ذلك أننا نحتج ونثور في وجه الظالمين بما هم أشخاص بعينهم في مواقع بعينها بحيث كثيرا ما تؤول هذه الثورة إلى ممارسة انتقامية ثأرية تستهدف استئصال الظالمين مع المحافظة على آليات الظلم واعتمدها رغم وعينا السابق بأنها وراء كل المظالم. وقد خبرنا ذلك من خلال تجاربنا القديمة والحديثة والتي نحن بصدد عيشها الآن. يبدو أن مشكلنا قائم مع الظالمين لا مع الظلم الذي ما أن نعزم على ممارسته حتى يصبح “عدلا” وأحيانا يصبح “عدلا وطنيا” أو حتى “عدلا ربانيا مقدسا”. نفهم من هذا أن “ممارسة ما” أسميها “ظلما” حين تستهدفني أو تستهدف المماثلين لي وأسمّي نفس الممارسة “عدلا” عندنا تستهدف خصومي (نا) وأعدائي (نا). ألا نكون بذلك مشاريع “ظَلمة” لا يفصلنا عن الظَلمة الذين ندينهم إلا تملّك قدر من السلطة والنفوذ ومن القدرة على الفعل. إننا ندين الظالمين ونحتج عليهم ولكن اختلافنا عنهم يبقى كالنية الحسنة والفرضية الأخلاقية سرعان ما نتخلى عنها حين تتيسر لنا أسباب الغلبة في هذا المجال أو ذاك. ليس لنا موقف مبدئي من الظلم ويندرج موقفنا منه ضمن صنف “الأوامر الشرطية” (بالمعنى الكانطي) وبالتالي يختلط عندنا الظلم بالعدل ويستغلق علينا باب التمييز الجذري بينهما. لقد حملنا داخلنا إرث ثقافتنا فطبعنا مع الظلم وتمثلناه وصار جزءا من “تركيبنا الجيني” وإذا خيرتنا الظروف بين أن نكون من بين المظلومين أو الظالمين اخترنا بلا تردد أن نكون من الظالمين. وهكذا تفشى الظلم وأصبح آفة من أخطر آفات الاجتماع الإنساني. ترسب كل ذلك في نفوسنا وارتبط بأكثر ما فينا من بؤس المشاعر والأهواء والانفعالات ودناءتها: الحقد، الحسد، الثأر، الشماتة، وطوّر ذلك فينا ضربا من النرجسية المقيتة التي هي بمثابة العائق النفسي الذي يمنعنا من الاعتراف بأننا ارتكبنا ظلما ويحرمنا من فضيلة الاعتذار للمظلومين ويجعلنا نستحسن الظلم ونبرره حين نشعر أننا مستفيدون منه ونستهجن العدل حين نستشعر أن خصما لنا سيستفيد منه. عطلت فينا هذه النرجسية الشجاعة على إدانة العنف بلا شروط ودون النظر إلى ضحاياه من يكونون.
كل هذا يجب ألاّ يستمر لأنه يمهد لخراب الديار بعد خراب النفوس. يجب أن يتحول موقفنا من الظلم إلى موقف مبدئي وتصبح إدانة الظلم بالنسبة إلينا من “الأوامر القطعية” (بالمعنى الكانطي) بحيث لا نقبل أيّ صورة من صوره حين يتسلّط على الذات الإنسانية ولا نهتم لهوية ضحاياه أو مكانة مقترفيه ومنزلتهم وأن لا نقبل مستقبلا مهانة لأحد مهما كان دينه أو طائفته أو جنسه أو لونه أو قناعته.
ما الذي يستوجبه القطع مع الظلم وكيف يمكن أن نثور عليه دون أن تفضي ثورتنا إلى تغيير ظالمين بظالمين جدد أكثر بأسا؟
لنتفق أولا “أنّ الظلم السياسي” هو اختزال مكثف لأصناف ظلم وأشكال قهر لا تكاد تُحصر وتُعد: فزيادة على ظلم الحاكم للمحكومين نجد ظلم رئيس الإدارة لمرؤوسيه، وظلم صاحب العمل للعمل، وظلم الأب لأبنائه، وظلم الأخ الأكبر لإخوته، وظلم الزوج لزوجته، وظلم المعلّم للمتعلّمين، ظلم السجان المسجونين إلخ. باختصار يوجد ظلم هناك حيث توجد إمكانية للسلطة وقدرة على ممارستها مهما كان نوعها، وهذا يعني أنّ كلّ مجالات حياتنا مليئة بالظلم وترشح ظلما. إنّنا نحتاج لثورة ضدّ الظلم تستهدفه في ذاته بما هو ظلم وذلك برسم خطة تقيم ثقافة “تحويلية” تغير وجودنا الاجتماعي والنفسي وذلك عبر:
– تكفل النخبة بدراسة الظلم وتفكيكه وتشخيصه والوقوف على آلياته لكشفها وعلى الممارسات التي تدل عليه لإدانتها والإشارة إليها ومتابعتها، على أن يفضي كل ذلك إلى ضرب من الميثاق السياسي- المواطني يضبط واجبات كل القوى وحقوقها.
– مراجعة القوانين الجائرة واستئصالها ووضع التشريعات الكفيلة بتفكيك آليات الظلم والاستبداد والتعهد بمراجعتها دوريا وكلما اقتضى الظرف الطارئ.
ـ إرساء “منظومة القضاء العادل” في استقلال عن كلّ ضغوطات خارجية وجعله “سلطة على نفسه” يمارسها بما يحفظ كرامة المواطنين.
– إنشاء مرصد مستقل للمظالم وتمكينه من شروط العمل الفعّال على أن تتعهد به منظمة وطنية مختصة ويعمل تحت رقابة مجتمعية مواطنية.
– التأسيس “لأخلاق جديدة” تتطهّر من خلالها نفوسنا من ضغائنها وأحقادها وتتخلّى بذلك عن تعلّقها المرضي بالثأر وميلها إلى الشماتة والتلذّذ بعذابات الآخرين وتجعلنا نتجنب ارتكاب الظلم بقدر الإمكان في حياتنا الخاصّة والعامّة.
– إرساء تربية على استهجان الظلم والإعلاء من قيمة العدل والمساواة والإيثار، ترسخ في الناشئة وتجذر فينا جميعا ثقافة الاعتراف والاعتذار بما يعزز كرامة الجميع ويحفظ حقوقهم. نحتاج ثقافة تربي المواطنين والمواطنات على المسؤولية وتحمل أعباء المواقف التي نتخذها والسلوكيات التي نأتيها.
هذه بعض الأفكار الحالمة التي يمكن لكم ردها إلى ضرب من الطوباوية الفكرية … نعم يمكن أن يكون في هذا بعض الحلم الذي قد لا يتحقق، ولكن نعلم جميعا أن كلّ ما تحقق كان يوما ما حلما. ومع هذا أرى أننا لم نبلغ بعد موقف الشاعر الفرنسي “فيكتور هوجو” الذي جاء فيه ” يناسبني أن أكون بين الناس الذين يموتون، وأشفق عليك أن تكون مع الملوك الذين يقتلون.”