spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

معرض القرآن الكريم في عيون الآخرين جولة بين مخطوطات أندر المصاحف مع الأستاذ خالد كشير

إعداد سعدية بنسالم

على صوت المقرئ الشيخ علي البراق يتلو بصوته القريب من القلب سورة النجم يفتح معرض القرآن الكريم في عيون الآخرين أبوابه لزائريه في رحاب دار الكتب الوطنيّة، تونس، ولقد رافقنا الأستاذ الدكتور خالد كشير، مدير دار الكتب الوطنية، في جولة بين أجنحة المعرض، ووفّر لنا فرصة الاطّلاع على مكنونات ما يوجد من نفائس مع عرض شيّق يعود بنا إلى قرون خلت، رتّب القائمون على المعرض موادها بصفة تجعلك تَعْبُر معها من عصر إلى آخر متبيّنا التحوّلات الطارئة في الخطوط وفي الزخرف، فالحروف تكشف أسرار العصر. بين الخطّ المزوّق والطباعة يمتد الزمن وتتجاور النفائس ويرافقنا الأستاذ كشير في جولة بينها ونستمتع بسرده، فيحدّث قائلا:

تعود فكرة المعرض وإقامته في تونس إلى فترة طويلة وقد قضينا سنتين نعدّ له، وهو من تمويل الاتحاد الأوربي، والحقيقة أنّ الاتحاد الأوربي لا يهتم كثيرا بالجوانب الثقافية، ولكن هذا المشروع استرعى اهتمامه، فانخرط في تمويله منذ البداية التي كانت سنة 2019، في شكل بحوث وندوات ومعارض، واستمرّ التمويل إلى هذه السنة 2025، سنة اختتام المشروع. أما الإنجاز فكان بالشراكة بين دار الكتب الوطنية والمعهد الوطني للتراث ومعهد الدراسات المغاربية المعاصرة. وقد قُدّمت في هذه المرحلة الختامية مشاريع بحثيّة من باحثين من مختلف الأعمار والرّتب العلميّة والبلدان، خلال ندوة علمية انتظمت يومي 13و14 فيفري 2025، بالتوازي مع مائدة مستديرة حول كتاب جديد عنوانه “مكتبات تونس المفقودة. ثقافة الكتاب في إفريقية الحفصية والمخطوطات العربية في أوروبا بعد نهب مدينة تونس (1535)“.

 

المعرض يسمى معرضا متنقلا، وفي الحقيقة فإنّ البلاد التي يلتئم فيها المعرض يكتسي فيها خصوصيات، فكما يعلم الجميع، إنّ نقل المخطوطات والوثائق بين البلدان أمر مكلف جدّا ودقيق في الوقت ذاته، وبالتالي لا يمكن جلب مخطوطات من أماكن بعيدة لذلك تعرض كل بلاد ما توفر لديها من مخطوطات وتجلب نسخا مما عرض في البلدان الأخرى وهو ما قمنا به في تونس. أردنا أن نبرز ما يتوفر في البلاد التونسية من مخطوطات فريدة لا توجد في أيّ مكان غيرها.

بدأ جولتنا من الجناح الأول الذي تعرض فيه مخطوطات لمصاحف نادرة لا توجد إلاّ في تونس، فهذان المخطوطان هما لأسرة أندلسية، ابن غطوس وابنه، يعود المخطوطان إلى القرن السادس للهجرة/ القرن الثاني عشر ميلادي، ونلاحظ أنهما كتبا على الرقّ والخط الذي كتبا به خطّ أندلسيّ غاية في المتعة والجمال. وهو خطّ متفرّع من المغربي المتفرّع بدوره من الكوفي. وكانت أسرة ابن غطوس مختصّة في تدوين المصاحف، فكانت تخطّ وتذهّب وتزوّق، وقع طردهم من الأندلس، ثمّ عادوا إلى هناك قبل أن يستقروا ومصاحفهم بيننا. وكان الناس يتهافتون على اقتناء المصاحف منهم، ونقرأ في خاتمة (حرد) المصحف: “تمّ هذا المصحف بعون الله بطلب من ياسين بن ياسين…”

المخطوط الموالي ورقيّ، افترضنا أنه لابن غطوس أيضا، وما زال النقاش والبحث متواصلين لتحديد ما إذا كان المخطوط الورقي لابن غطوس أيضا او لغيره في فترة أقرب زمنيا.

في المجموعة الثانية نجد أقدم مصحف أنجز في القيروان من طرف فضل مولاة الأمير الأغلبي أبي أيوب، بإمضائها وتاريخ إنجازه، 295هـ/907م، أي قبيل سقوط الدولة الأغلبيّة، وقد رُسم بالخطّ الكوفي القديم الذي سيولّد بعد ذلك الخطّ المغربي، والمعروض منه ورقة مضاعفة من ستّة أسطر تتميّز بجمال حروفها واستقامتها، تزينها نقاط حمراء تمثل حركات الإعراب وقد كتبت هذه النسخة قبل ظهور الإعجام ولعلّه أقدم مصحف أنجز في إفريقية.

المصحف الثاني هو مصحف المعز بن باديس بعد القطيعة مع الفاطميين، وهو مصحف آية في الجمال كتب على رقّ جيّد، وهو مذهّب يتميّز بلمعته.

المصحف الموالي مصحف ورقيّ بالخطّ الكوفي، تاليا، نجد أقدم ما نملك في دار الكتب الوطنية، وهو جزء من مصحف على الرّق بخطّ حجازيّ ومازلنا مختلفين حول تاريخه رغم أنّ الآراء تتجه إلى أنه يعود إلى ما بين القرنين الثاني والثالث للهجرة إلاّ أنّي أرجّح أنه أقدم من ذلك، أي أنه من القرن الأول للهجرة. تتميز حروف الحجازي بالاستقامة وكبر الحجم.

الرواق الثاني خصّصناه إلى ما يعرف بالكارثة، وهو هجوم شارل الخامس على مدينة تونس وتدمير جانب كبير من المكتبات التونسيّة في نوع من التشفيّ، ومن المتعارف عليه في الحرب قديما أنّ المدينة التي تقاوم تستباح ثلاثة أيام عند سقوطها، وهو ما حدث، وتمثّله الجدارية المعروضة أمامنا وهي نسخة رقمية للوحة توثّق استباحة شارلكان لمدينة تونس بريشة رسّام كان قد اصطحبه معه للغرض، وهي مشاهد من لوحات ضخمة من الورق المقوى (15X 8 م) ثم جُسِّدت على سلسلة من السجادات تمسح في مجملها 310 م2 وتمثل مجموعة كاملة توجد في بلجيكا والنمسا، وقد انتقينا منها للعرض بعض الأجزاء. وهي تتميّز بالواقعية في فنّ عصر النهضة، التي توثق للمعركة التي دارت في البحيرة ضدّ الأسطول العثماني قبل الوصول إلى مدينة تونس التي تظهر في أفق اللوحة بأسوارها المكتملة ثمّ استبيحت ويُذكر أنّ الجنود اقتحموا بخيولهم جامع الزيتونة ونهبوا ما فيه من كتب وذخائر نفيسة، وأطلق على ذلك اليوم “خطرة الأربعاء”(21 جويلية 1535)، في تلك المعركة نهب الغزاة كل ما له قيمة، المصوغ، والذهب، والأقمشة الفاخرة، والكتب.

في الجناح الموالي عرضنا تبعات نهب المدينة، حيث نجد عيّنات من الكنوز المنهوبة التي استولى عليها الغزاة وهي موجودة اليوم في المتاحف والمكتبات الأوروبية المختلفة، في هذا المعرض لم نحصل على الأصول وإنما على نسخ مصورة عالية الجودة من تلك الكنوز التي نجد مُدوَّنا عليها اسم من امتلكها بعد نهبها، ويروى أنه عثر في غرفة شارل كان بعد موته نسختين من أفخم المصاحف احتفظ بهما غنيمة حرب.

نجد من بين النفائس المعروضة، مصاحف نذرها أصحابها إلى مساجد بعينها في ما يعرف بـ”الحبس”، وقد كان عدول الإشهاد يوثقون عملية “التحبيس” تلك.

تكشف العناية بالمصاحف اهتمامات التونسيين القِرائية والتي كانت تحتفي بالمصاحف وكتابي، صحيح البخاري والشفاء للقاضي عياض، ولذلك كان التونسيون يقسمون بـ”الشفاء والبخاري”، نظرا للمنزلة التي يحتلها الكتابان في وجدان التونسي وفكره حينها، توجد النسخ الأصليّة الآن في المكتبة الوطنية الفرنسية.

من المصاحف الثمينة التي نهبت والمعروضة في معرض المصاحف بدار الكتب الوطنية “المصحف الأحمر”، وهو مصحف صبغت ورقاته باللون الأحمر وكتبت آياته بماء الفضة وفصل بينها بماء الذهب، وقد حاولنا أن نستنسخه ولم نتمكّن من ذلك. والسؤال المطروح، ما مدى إمكانية استرجاع هذه الكنوز المنهوبة.

الأثر الموالي المعروض، الجزء الرابع من صحيح البخاري وهو نص مذهب، وأهمية هذا الأثر تكمن في التحبيس المرتبط بهذا الأثر ففيه يحدّد تاريخ تأسيس العبدليّة، فنقرأ في التحبيس، يقول السلطان الحفصي ” الحمد لله، هذا ممّا حبّس عن أمر المقام العليّ السلطاني المجاهديّ… على المقصورة جديدة الإنشاء بمرقبيْ جامع الزيتونة على جامع الزيتونة على صفة تذكر في غير هذا بتاريخ أواخر رمضان المعظم عام 900هــ “مع توقيع شاهدين. وهذا المخطوط يوجد حاليا في مكتبة الفاتيكان.

ولعلّ حصولنا على هذه النسخ المصورة يعود إلى أنّ باحثة سويسرية-ألمانية (لاورا هنريشن) التي أنجزت أطروحة دكتوراه غاية في الدقّة والجودة، موضوعها مخطوطات هذه المصاحف الموزعة على كامل أروبا فدرست 87 مخطوطا، وطبعت أطروحتها ونشرت ووجدت صدى طيّبا، وتوجد في المعرض خارطة تبين توزّع المخطوطات في مكتبات أروبا ومتاحفها، بين برلين وأكسفورد وغيرها من المدن.

يحمل الجناح الموالي ملامح الخصوصية التونسيّة، ويكشف عراقة الكتاب والمكتوب، ويتكون من شاهدَي قبرين نقشت عليها آيات قرآنيّة، ونلاحظ كتابة بالخط الكوفي على الرخام، أحدهما ناتئ والآخر غائر، وما يلاحظ في تلك المنحوتات التقارب الموجود في الزخارف بينها وما يوجد في الزخارف الاقدم في التاريخ على غرار المنحوتات الموجودة في قرطاج القديمة، ويبدو أنّ الأمر جدير بالدّراسة والتتبع والمقارنة.

في معلبات العرض البلورية نفاجأ بتشكيلة من المحابر وهي آيات فنية، اثنان منها في شكل مستطيل وهما الأحدث زمنيا، والثالثة دائريّة وهي الأقدم وجيء بها من متحف دار بن عبد الله، للفنون والتقاليد الشعبيّة. أما المكعَّبة فهي تعود إلى القرن الثالث وهي من بين الأقدم في العالم لا في تونس فقط، مصنوعة بالجبس ثمّ نقشت، وأهمّ من المحبرة نفسها هي الريشة الموجودة فوقها، وهي اكتشاف في الحقيقة، ففي القيروان اكتشفت الريشة النحاسية أو البرنزية منذ القرن الثالث للهجرة، استجلبناها من متحف الفن الإسلامي برقادة، القيروان فهي ليست من القصب ولا من ريش الطيور مثلما اعتدنا في تلك الأزمنة، أما الأخرى؛ ويروى أن المعزّ بن باديس هو من اكتشف قلم الحبر.

في الجهة المقابلة للمحابر، تعرض الألواح الخشبيّة المعدّة لكتابة القرآن عليها بنية الحفظ، في الكتاتيب.

خصّص الجناح الأخير من المعرض، لوقع وتأثير القرآن في الثقافة الأوروبية التي كان يعتقد أنها مسيحية فقط، ولكن ثبت أنّ عمليّة النّهب التي تعرّضت لها النفائس التونسية قد أثرت عميقا في الثقافة الأوروبيّة وكان لها دور كبير في ظهور الاستشراق والاهتمام بالحضارة العربية الإسلاميّة، وصولا إلى بلاشار وفلوغل الألماني.

منذ القرن السادس عشر، أثارت تلك المخطوطات حيرة رجال الكنيسة، فكانت محاولة فهمهم لتلك “المنهوبات” بوّابة تأثرهم بالحضارة الإسلاميّة، وكانوا في البداية يخلطون بين المصاحف وبين كتب الحديث والتفسير، ومن الطرائف أنّنا وجدنا صحيح البخاري، المعروض حاليا، ضمن المصاحف عندهم ما دفعنا إلى التصحيح. ومن الطرائف أيضا أنهم كانوا يتصفحون المخطوطات من اليسار إلى اليمين. وأكّدت “لاورا هنريشن”، أنّ أحد المتأثّرين بزخرفة المصاحف المنهوبة، نسخ مصحفا كاملا بدقّة متناهية دون أن تكون له دراية باللغة التي ينسخ عنها ولا قواعدها.

تعود ملكية الكتب المطبوعة الواردة في هذا الجناح إلى دار الكتب الوطنيّة، وبينها أقدم ترجمات للقرآن الكريم إلى الفرنسية تحت عنوان (قرآن محمد، سنة،1652) وإلى اللاتينية (للقس ماراتشي، 1698).

إلى جانب المخطوطات والمطبوعات والمنحوتات، نجد في المعرض لوحة ضوئية للخط العربي يعرضها فنان إيراني، ومجموعة من الفيديوهات لملخصات محاضرات قيّمة في نشأة طباعة القرآن وفي مختلف ما يتعلّق بالمخطوط وخاصّة مخطوطات المصحف.”

يستمرّ المعرض في رحاب دار الكتب الوطنية إلى موفى شهر أفريل، ومن يفوّت المعرض فقد فوّت فرصة ثمينة للاطلاع على مرحلة تاريخية ثرية من تاريخ البلاد.

spot_imgspot_img