spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

جبّار في أربعينيّته.. جبّار..

الشاعر والكاتب: شاهين السّافي

كلّما تعلّقت همّة البعض بالإعداد لأربعينيّة فقيد من رموز الأدب أو الفكر أو الفنّ، تعالت أصوات تضع مسألة “الأربعينيّات” هذه -برمّتها- على محكّ السؤال. ففي تقديرهم استحالت هذه الفعاليّات إلى تقليدٍ بليدٍ بلا روح، يحجّ إليها الأدعياء والمنافقون ليقدموا “كلمات” تعدّد المناقب وتحجم عن الأخطاء، ويختلقون فيها -وبرقعة صحيحة- ذكريات وهميّة تجمعهم بالفقيد، ثمّ تُلْتَقَطُ الصّور و”السَّلاَفِي” -جمع “سِلْفِي”- لتزّين صفحات التواصل الاجتماعي فيما بعد، ولا تنسَ نصيبك من “البوز كافي”، فمن غابَ غابَ سهمه كما يقول الأوّلون. وبعدها يُنسى الفقيد تماما كما لو أنّه لمْ يكن.

في الحقيقة إنّ في هذا القول وجاهة، فهذه الفعاليات التي يفترض أن توضع في خانة الوفاء لذكرى فقيد عزيز، بات الوفاء فيها عزيزا، ولكنّ السؤال الذي يطرح في مثل هذه الحالة: هل العيب في “الأربعينيّة” -أي كامن فيها- أم العيب في القائمين عليها؟

****

افتتحتُ هذه الورقة بطرح هذه المسألة الخلافيّة، لا بغاية المضيّ فيها لتكون المحور الرئيس، ولكن بغاية الحديث عن الراحل عبد الجبار العش في أربعينيّته.

أوّل مفتاح في تنظيم أيّ “أربعينيّة” هو العائلة: عائلة الفقيد. وهنا تتكثف أحيانا صورة المشكلة، فقد يكون الفقيد في وادٍ وعائلته في وادٍ آخر، كأن يكون قضى حياته تقدميّا يساريّا ولكنه ينتسب إلى عائلة محافظة، وهذا حتما ما سيلقي بظلاله على الفعاليّة ككل، ولا داعي هنا للخوض في التفاصيل.

حين التقينا بالأستاذة حميدة الشايب زوجة الراحل عبد الجبار العش، وقد تعلّقت همتنا جميعا بتنظيم الأربعينيّة (المندوبيّة الجهويّة للشؤون الثقافيّة بصفاقس وعائلة الفقيد وثلة من أصدقائه)، قالت بالحرف الواحد إنّها تريدها “احتفاءً بالحياة والجمال..” وبهذا الشكل فقط نكون أفياء لذكرى جبّارنا العزيز، وهو الذي قضى حياته عاشقا للحياة متيّما بها، وكارها للموت وثقافة الموت مؤمنا بالفنّ وقدرته على نشر قيم الحريّة والعدل والمساواة والجمال في هذا الكون.

هنا “قضي الأمر الذي فيه تستفتيان”، فهذا الانسجام بين ملامح الفقيد وما تطلبه العائلة يفتح الباب أمام تنظيم فعاليّة ثقافيّة فنيّة نؤثّثها بالشعر والموسيقى والشهادات الحيّة والمعارض التي توثق مسيرته.

*****

ثمّة مهمّة عسيرة وهي اختيار الأسماء التي ستؤثّث هذه الفعاليّة. فمسيرة جبّار ليست خطيّة ففيها الكثير من الانعطافات وبعضها مطبوخ على نار هادئة وبعضها مفاجئ، وهي ليست أحاديّة الوجهة ففيها أولاد الحومة ورفاق الهوامش واليتامى والندامى والصعاليك وأصحاب ربطات العنق وأهل الأدب والفن والسياسة والنقابة والحقوق، وله في كلّ من هذه الوجهات أحبّة قاسمهم الماء والملح والمحبّة وثمّة من وفى وثمّة من خان، وكذا هي الحياة.

كان علينا أن نختار ونحن نمشي على رمال متحرّكة، والمهمّ هو ألاّ نظلم جبّارنا، أي أن نتصرّف كما لو كان موجودا بيننا، فنجعله محاطًا بأناس أحبّوه وأحبّهم، وأن نحفظ مقامه كقامة أدبيّة ونضاليّة، وبهذا الشكل فقط نضمن ألاّ تكون الفعاليّة منبرا لمن يدّعي أو يكذب أو يختلق أو يتاجر. لا شكّ في مثل هذه الحالة أنّنا سنظلم الكثيرين ممن يستحقون اعتلاء المنبر، ولكن من المستحيل أن يعتليه جميعهم فكان لابدّ من الاختيار.

****

كانت الفعاليّة يوم السبت 2 نوفمبر 2024 بالمركب الثقافي محمد الجموسي، وكانت على قسمين: قسم للشهادات الحيّة وقسم للشعر والموسيقى. وقد انطلقت بكلمة افتتاح للسيد محمد الخراط المندوب الجهوي للشؤون الثقافيّة بصفاقس، وأدار القسم الأول منها الأستاذ عبد الواحد المكني، وكانت البداية مع الأستاذة حميدة الشايب، زوجة الفقيد، التي قدّمت ورقة باسم العائلة كتبتها بدموعها وصاغت كلماتها على وقع لوعة الفقد، فكنّا أمام سرديّة أخرى تحكي عن جبّار الذي قارع الموت منذ لحظة ولادته، منذ حادثة “الجفنة” حين “قلبت على جسده قصعة معدنيّة” حتى يختنق فيموت، “كانت ولادة جنائزيّة” -كما ذكرت- ولكنّه عاش وكان جبار الذي نعرف، جبار الذي سيحيى في قصائده وروايته. كانت الأستاذة حميدة واعية بعسر مهمّتها قبل كتابة كلمتها وأثناء تلاوتها وبعد الفراغ منها، فكتبت فيما بعد على صفحتها:” كتبت اليوم لجما لبعض الأصوات الخبيثة الذين أذوا جبار في حياته وهم يقرؤون الآن ويتذكرون ما فعلوه بي وبه، فمات يبكي جرحا عميقا وقهرا مما ارتكبوه في حقه استغلالا لمرضه وهشاشته..”

تداول على الكلمة بعدها كلّ من رفيق درب الفقيد المناضل محمّد الجربوعي والأستاذ خالد الغريبي والأستاذ عبد الحميد الفهري، وكلّ تناول شخصيّة الفقيد من زاوية ما. فالمناضل محمد الجربوعي رافق جبار خلال محنة المرض واستذكر ما عاشه في الماضي مع عشيره الراحل حسن المسلمي حين قال: ” جبّار سأبدأ من الفصل قبل الأخير لرحيلك وأنت مقيم بالمستشفى في قسم الجهاز الهضمي بالغرفة الثالثة شمالا عند الدخول والسرير رقم واحد، وهي نفس الغرفة والسرير أين أقام المناضل والعشير حسن المسلمي، وكأن القدر شاء أن يعيد إليّ ذكرى تؤلمني” .ثمّ عدّد المحطّات النضاليّة السياسيّة والنقابيّة في مسيرة جبّار منذ انتدابه للعمل مدرّسا للرياضة بقابس إلى أن تفرّغ تماما للكتابة الأدبيّة شعرا وسردا، ولكن ظلّ مهتما دائما بالشأن العام بروحه اليساريّة التقدميّة.

أمّا الأستاذ خالد الغريبي فتجمعه بجبار رحلة عمر طويلة في الحياة الثقافيّة، بكلّ مصاعبها وتقلّباتها، رفقة آخرين منهم من فارقنا مثل الشاعر محمد البقلوطي والشاعر عبد الرزاق نزار والشاعر نور الدين بوجلبان، وقد استعرض في كلمته مجمل المراحل التي مرت بها تجربة جبار الأدبيّة في الشعر وفي الرواية مبيّنا خصائصها الفنيّة والجماليّة ومدى تواشجها مع ما يؤمن به وما يريد قوله فيها.

لا يمكن ألا يكون للأرخبيل كلمته حين يتعلّق الأمر بجبار. كذا كانت مهمّة الأستاذ عبد الحميد الفهري. كانت كلمة مكثّفة دقيقة شجيّة مؤثّرة افتتحها بقوله: “جبّار لماذا اخترت أن تأتينا متعبا مرهقا يائسا حانقا؟”. أزعم أنّ الأستاذ الفهري كان يطرح هذا السؤال -حقيقة لا مجازا- نيابة أهل الأرخبيل كلهم، فجبّار الذي ركب البحر ليستقرّ هناك في تلك الربوع ويتفرّغ لكتابة بعض أعماله الروائيّة لم يكن بخير. لم يكن جبّار الذي يعرفونه. لم يكن بخير ولم يكن يريد أن يكون بخير. قال: ” وتشهد الأيام أن الرفاق احتضنوا جبارا بلا شرط سوى أن يقبل بالمداواة والاقلاع عن قضاء النزع الأخير من الليل يتناول المشروبات الروحية إلى حدّ هتك جسده المنهك أصلا فصار لا يسأل عن قوت وكأنه لا يجوع”. ينقل الأستاذ الفهري حوارا دار وبينه وبين جبار حول روايته الجديدة التي لم تكتمل قائلا على لسان الفقيد: ” في محاكمة كلب عريّت نفسي وجلّدتها، أمّا في هذه الرواية فأنا أعريهم “هم” أفضحهم أكشفهم “هم”. وتبقى “هم” مبنية للمجهول إلى أن ينشر رفاقه روايته إن أوصى بذلك…”

المهمّ أنّ الـ”هم” لم يعتلوا ذلك المنبر في أربعينيّته، وهذا جزء من الوفاء لذكرى جبار.

*****

في القسم الثاني من الأربعينيّة، كانت الكلمة للموسيقى والشعر. وقد افتتحها الفنان محمد بحر بكلمة مقتضبة تحدث فيها عن ذكرياته مع جبار وكيف كان يفرح كما طفل حين تتحوّل قصيدته إلى أغنية، ثمّ غنى من كلمات جبار أغنيتين الأولى مهداة إلى روح الشهيد محمد هماني ابن الأرخبيل، والثانية “يا أحبابي”. أمّا الفنّان خميس البحري فقد استعرض بعض ذكرياته مع جبار بشكل سريع قبل أن يقدّم مداخلة موسيقيّة غنّى فيها أغنية “أحمد الدرة” وهي من كلمات الفقيد ومن ألحانه وإنتاج مجموعة “عيون الكلام”، وقد أدتها سابقا باقتدار الفنانة أمال الحمروني التي تغيبت لأسباب قاهرة عن الأربعينيّة.

في الشعر كان البداية مع الشاعر آدم فتحي الذي استهل مداخلته بكلمة مؤثّرة قال فيها: “يظلّ عبد الجبار جبارا في صناعة الضحكة حتى وأنت على رأس اليأس.. ويكفي أن نرى هذه البهجة ونحن في لحظة وداع حتى نتيقّن أنّ جبار وأمثاله قد زرعوا فينا هذا الإحساس أنهم الباقون..” ثمّ قرأ على مسامعنا قصيدة قال إنّ جبار كان يحبّها كثيرا ويطلب منه دائما قراءتها وقد أورد مقطعا منها في روايته محاكمة “كلب”، وقد جاء في ختامها:

..لكنّني لن أتوب

إلى أن تتوب الفجائع

أو يستجيب القدَرْ

أو أن أموت أحاول

أو ننتصرْ

أحيلت الكلمة إلى الشاعر ياسين الرواتبي الذي لازم جبار خلال فترة المرض في سوسة ومواظبا على زيارته في صفاقس، فقرأ بعضا من أشعاره التي كان الفقيد يطلبها منه باستمرار، ثمّ كانت الكلمة للشاعر الناصر الرديسي الذي تجمعه بجبار ذكريات في مسيرة طويلة فيها النضالي وفيها الإنساني وفيها الأدبي، واختتم القراءات الشعريّة الشاعر وحيد القريوي، وهو يمثل جيلا آخر من الشعراء وهو من المنتسبين إلى مجموعة “أفلاك المدينة” في مستهل الألفيّة، وهي مجموعة خارجة من السرب آنذاك وشبه “محظورة”، وكان جبّار ضمن القلّة القليلة من المتعاطفين معها.

قدّم الفنّان نبراس شمّام هديّة تذكاريّة لعائلة الفقيد تسلّمتها الأستاذة حميدة الشايب نيابة عن العائلة، وذلك قبل أن نصل إلى مسك الختام مع آخر الفقرات ضمن الفعاليّة، وهي المداخلة الموسيقيّة التي قدّمتها مجموعة “البحث الموسيقي” بكامل عناصرها، في بهو المركب الثقافي محمّد الجموسي محاطين بصور عبد الجبار وبالمعرض التوثيقي الذي يحكي مسيرته منذ ولادته، وقد تفاعل الحاضرون مع ما غنته المجموعة من كلمات جبار: “لن يمروا” و”قسما أبدا لن ننسى” و”نشيد الأمميّة”..

وأسدل الستار على الأربعينيّة..

******

كانت الأربعينيّة مفعمة بالصدق، والحب والوفاء والبهجة.

لكن…

هل انتهى الأمر؟ هل كانت هذه الفعاليّة مجرّد واجب أو تقليد أم هي منطلق لإحياء الذكرى والتخليد؟

حين نعلم أنّ مجموعة من الطلبة في كليّة الآداب بصفاقس قد تعلّقت همتهم بتأسيس ناد أدبي يحمل اسم عبد الجبار العش، وحين يدعونا الصديق الإعلامي فيصل القاسمي للمشاركة في سهرة إذاعيّة حول مجمل مسيرة جبّار عبر أمواج إذاعة صفاقس، وحين يبلغنا الصديق الكاتب يونس سلطاني مدير “بيت الرواية” أنّه بصدد الإعداد للقاء حواريّ حول تجربة جبار الروائيّة، وحين نرى ضمن برنامج تظاهرة “الأقلام الواعدة” بدار الثقافة باب البحر بصفاقس عرضا مسرحيّا مستوحى من رواية “محاكمة كلب”، وحين يسلّمنا ذلك الرجل الصامد ناجي مرزوق صاحب دار “صامد” مع زوجته السيدة سعاد مرزوق نسخة من كتاب جبار المصادر “قصائد للعراق” (مستهل التسعينات)، وهي نسخة نجت بأعجوبة من عملية المصادرة، وحين يهاتفنا الشاعر الناصر الرديسي ليبلغنا أنّ الأصدقاء في قابس بصدد الإعداد لفعاليّة ثقافيّة حول المسيرة الأدبيّة لجبّار..

حين نرى كلّ ذلك، ونستشعر روح الاستمرار في الاهتمام بما خلّفه جبار، سنتيقّن أنّ الأمر لمْ ينته، بل إنّه ابتدأ لتوّه وسيستمرّ، وجبار بكلّ ما في مسيرته من أحداث وإبداع خليق بكلّ ذلك وبما يزيد عنه..

spot_imgspot_img