الكاتبة: بسمة الشوّالي
لم تُحْكِمْ غلق الباب. تركته مواربا لفضوليّ تستدرجه رائحة غيابها أو لصّ ربّما.. قرّرت أنّ كلّ ما في الشقّة صدقة، والدّخولَ إليها متاح كدعوة عامّة لأمسية شاي، فمن شاء أن يأخذ شيئا فليفعل، مرفوعة عنه تهمة الاقتحام أو السّطو. سمعت صوتا هاتفا ينادى من الغيب لكن في العصر، لا في السّحر، عند منحدر السّاعة باتجاه الغرب، إلى حيث غادر الهادي الدّار بلا رجعة.
هي لن تذهب بعيدا، فقط مسافة ما يفصلها عنه. في غيابها، لم تشأ أن تسبّب للجيران حرجا من عفونة وطنين، ولطخة سوداء في سيرة ابنها البيضاء، هي لم تقل لأحد إنّه يدعو النّاس إلى برّ الوالدين ويهمل أمّه العجوز تموت وحيدة في الشقّة.. سيتحمّل اضطراب الذّاكرة عنه وزر ما قد يؤول إليه مصيرها.
صعدت إلى الطابق العلويّ. تعدّ البناية سبعة طوابق وأزيد بمصعد عجوز. شهقة شهقة يصّاعد المصعد لاهثا متقطّع الحشرجات، مثلها. “عجوزان نحن، وآن للعمر أن ينام.” تربّت على بابه حين تغادره كأنّما تشكره أن أوصلها سالمة إلى الأعلى. وتُسِرّ في نفسها: ” ما حاجة الرّوح إلى مصعد كهربائيّ خرِف؟”.
على السّطح، الأمر مختلف عمّا هو عليه العالم الذي تركته تحت بما فيه من مساكن ذات طوابقَ ودرجات، وأخرى غائرةٍ كالأقبية، وغرفٍ متجاورةٍ تفشي الأسرار، وبشرٍ وشكاوى ومرتزقةٍ يعتاشون على فيْء الرّحمة الإلهيّة.. ينتمي السّطح إلى جميع سكّان البناية، وإلى اللّاأحد في آن. هي حرّة أكثر في هذا المكان، أخفّ رُكبة وأقرب إلى الله. السّماء تواضعت أكثر. قاب قبضة، أمست، وساكنةَ مثلها لا تفعل شيئا سوى أنّها تنتظر جابي الأرواح الطيّب. سيأتي قريبا، لقد هاتفها أنْ وافيني عند أعلى نقطة من البناية فتكبّدت لأجله رُهاب المصاعد.
هي تحبّ السّماءَ إذا تقاربت منها على خبب الحنين. في الواقع لم يسبق لها أن كانت في مكان مرتفع كهذا أو تدانت منها السّماء إلى هذا الحدّ. لطالما عانت من دوار المرتفعات والغثيان النّاجم عن فرط الوحدة المعرّضة إلى الهواء الطّلق. المكان المغلق يليق أكثر بالوحيدين، يقول طبيب نفسها لنفسها. لا تشعر الآن بأيّ دوار. من أين ينبع شعورها بالحنين؟ هل صعدت من قبل إلى السّطح ونسيت أم هل يحنّ أحد ما إلى ما لم يكن؟ نقطة السؤال تربك حركة المرور المنتظمة في مدينة الذّاكرة: هل دعاها الهاتف أن تصعد إلى السّطح أو أن تنزل إلى الحديقة؟
” لا يهمّ، هنا أو هناك، إن هي إلاّ محطّة وقتيّة للعبور” غمغمت. جلست بين أطباق الهوائيّات تحكم حول كتفيها لحافا صوفيّا فترتعش أكثر بألق غامض ومضيء، والسّماء التي كقطعة أرض برّيّة يغازلها الرّبيع تتهادى متبرّجة باتجاه حرف الغروب النّاريّ. يرتسم على جدار غيمة بيضاء وجه الهادي وردة متوهّجة. تبادله التحيّة فتتورّد الصّفرة على خدّيها وتنتعش الرّوح الذّاوية.
سقط الغروب في الجرف الخلفيّ للجبل المقابل، تلاشت الألوان لونا فآخر، وظلّ الأفق يتسلّى بتقشير قلوب عبّاد الشّمس السّوداء فتتناثر القشر على جسد الأرض كجيش من ذباب. تمِض لُمَع النهاية المشتهاة على قسماتها الفاترة. تبتسم لخيال يراود خيالها. لم يعد شيء يسعدها أو يؤذيها. صار وجودها حديرا زلِقا لا يثبت عليه شيء من فواصل الزّمان أو غبار الأمكنة. والذّكريات !؟ تركتها في الشقّة لابنها وأحفادها. وما كان لها منها خاصّا بها وحدها تصدّقت به على عجوز مثلها، على وجه الدقّة أوصت به لجارتها وهيبة.
“لكنّ وهيبة ماتت منذ سنة يا أمّي، غسلت جثمانها بنفسك ” أوشك ابنها يقول ثمّ استدرك.
كم السّاعة الآن؟
انتبهت إلى أنّ الليل يطرق باب العالم. تلفتّت حولها فلم تعرف أين هي ولا طريق الرّجوع إلى الشقّة..