بقلم علي بوبكر
لا تزال فلسطين منذ نكبتها الأولى تُبكينا بالدّم القاني ولا يزال الشعر ديوانها الأول منذ حلّ بها نحس شذّاذ الآفاق ونفايات العالم ومنذ نجاسة هرتزل وشؤم بالفور ، ولا تزال فلسطين عجيبة العجائب السبعة مذ كانت قيامة عيسى عليه السلام ومسرى محمد صلّ الله عليه وسلم… كانت فلسطين من أقدم المدائن فأصبحت منذ قرار التقسيم وفشل العسكر العربي “دولة إسرائيل” … وكان شعبها الفلسطيني فصار أقلية بعد أن قطع العدو أوصالها وهجّر أهلها …
وكان الفلسطيني “الساكنة الأصليّة ” فأصبح غريبا يتخفى من شيء شُبّه بإنسان قادم من أساطير التلمود ومن سفر تكوين العهد القديم . لا يزال الفلسطيني يعتصم بحد السيف منذ مجزرة كفر قاسم بعد مذبحة دير ياسين … تمرّس بالحصار يطوق الأحياء والقرى وتدرّب على الرخصة العسكرية تفرض على المتنقل مسافة متر….ومنها تعلّم مسافة الصفر… لا يزال الفلسطيني يرى أرضه تمزّق وشعبه يفرّق ودُورهُ تحتل وحقوله تستعمر بدعوى التوراة وهو يرى معالم فلسطين الحضارة تُمحى وتُمسخ واسمه العربي في الشارع والمنطقة والمدينة يُفسخ …
كلّ ذلك رآه الفلسطيني بعين مفتوحة وعجز إلا عن شدّ أسنان وتكوير قبضة في صمت مغلوب على أمره لكنه على غُلبه صمد في عناد بعد أن رسم فلسطين على النحو الجغرافي الآتي : جزيرة عربية في بحر من الصهاينة . وتيقّن الفلسطيني أن كل نجاة من عاصفة القتل أو التهجير – وقد نفخت رياحها أفواه شتّى- هي مقدّمة لموجة التهويد تمتحن هويته امتحانا لا يطاق في ظل احتلال من شرّ ما عرف التاريخ الحديث والقديم. تقرأ سيرة فلسطين فلا تراها مستقلة عن سيرتنا نحن العرب الباقية أو اللاجئة أو المهاجرة ولا ترانا غير مقبلين على غوث إخوتنا كرّة بعد كرّة لكننا سرعان ما ندبر مسرعين كرها في حرب الأيام الستة بعد العدوان الثلاثي وباحتلال الضفة الغربية وغزة بعد احتلال النقب والجليل وعكا وحيفا وبضم الجولان بعد ضم القدس عاصمة أبدية ل”إسرائيل” وأصبح لبنان شظايا وتبخر مفاعل تموز وفرّطنا في فلسطين من خلال”برقية ” مساندة هنا أو تضامن هناك وهي برقية لا تعدو ان تكون غير حيلة من حيلنا الحمقاء إلى التحرر من فلسطين و”أهلها” فأحيينا ذكرى تلّ الزّعتر الأحمر بعد أيلول الأسود وفاوضنا تحت راية معسكر داود وبينها وبين الراية الأخرى نجمة داود الزرقاء تركنا أهلنا في فلسطين يخوضون المعركة تلو الأخرى مع أحرار لبنان في بيروت …خذلناهم وتركناهم للذئاب الصهيونية يسفكون دمهم في صبرا وشاتيلا وفي حمام الشط وفي غزة .
فبأي البليتين فلسطين أشقى : بعداوة إسرائيل أم بإخوتنا العربية ؟ بليّة بلا مبالغة يسكبها تميم البرغوثي في قصائده وفق مبدأ التضاد والمفارقة وهي لعبته الشعرية الأولى يستحيل فيها الصمود خيبة وترقى فيها الخيانة إلى مرتبة الملحمة وتتحول الحياة إلى موت والموت إلى حياة من خلال تعادلية تعود بالفلسطيني إلى المقاومة خياره الأول والوحيد حتى لا يقتله العدو الضاري . ومن خلال التضاد يتشكل شعر تميم ألبرغوثي وهو تضاد ولد من رحم التناقض بين قوتين لا سبيل إلى التوفيق بينهما : إسرائيل وفلسطين ، اسمان من الأضداد لا يجتمعان إلا على الصراع وينصرفان في كل شعر تميم ألبرغوثي إلى مجموعتين متعاكستين يشكلان معا ما نسمّيه شعرية المقاومة، وتفصيلها : شعرية في العتبات و الأسماء والأحداث والألحان والأوزان والتراكيب والمعاجم وسجلات القول والصور الشعرية والمعاني … شعرية المقاومة عند تميم ألبرغوثي وسنهتم في هذا السياق في هذا المقام وقد عزّ توقيته بشعرية عتبات العنوان أو مفاتيح العودة ، وشعرية بناء القصيدة/ الوطن ، وشعرية الرّمز. .
تلك رحلة تميم في القدس نسج خيوط عودته نغما شجيّا وغصّة في حلقه، حلما يراوده وكابوسا يؤرّقه، هاجسا يتلبّسه في يقظته ومنامه ويلازمه في حلّه وترحاله، وينتصب أمامه في غفوته وصحوته. وهل يُشفى العاشق المتيّم من حبّ حبيبته؟ تمحورت جميع من في القدس حول أناه في فلسطين الّتي صوّرها تميم البرغوقي فأحسن تصويرها وتفنّن في إبداعها فأجاد فبدت، من خلال هذه القصيدة وغيرها، تتراوح من الموجود إلى المنشود وتعتريها حالات مختلفة متعدّدة. فهي بلاد مقدّسة مدنّسة، وهي أرض مسلوبة مطلوبة، وهي أمّ سباها المغير فهبّ الفادي لتحريرها، وهي عشيقة خُطفت من الشّاعر فلجّ في حبّها وجدّ في الوصال. وهي قصيدة تُكتب باستمرار. فلسطين هي إذن وطن على الأرض وفي النّفس وفي الشّعر.
انتهت معارك التاريخ الفلسطيني الحديث بنكبة او تهجير او قصف متعمد او فيتو أمريكي أو رشّاش يطلق رصاصة من فوهة فدائيّ مجهول لا نعرف غير كنيته : أبو غزّة ملثّما لا وقت له لمكياج وجهه قبل ظهوره على شاشة مقهى شعبي في سوق النّخاسين … انتهت كل المعارك مجتمعة لتبدأ معركة تميم يشيّد اركانها وخطتها الحربية بواسطة الكلام وقد عدل به عن وظيفته التعبيرية القريبة فلثّمه بلثام الاستعارة والرمز وفتح من خلاله طريق العودة الى فلسطين طريق العشق والفناء والدّم والفداء …
كان التاريخ قاس عبّد طريق التهجير القسري اضطرارا فكتب على حائط مبكانا لا مبكاهم الوهمي شعب فلسطين هم” شُرَّدٌ من أهل الطّريق لا أرض لهم يرجعون إليها، قوم شأنهم السّفر قبله سفر، بعده سفر، لا يقرّ لهم قرار إلاّ أيّاما هنا وهناك من المكان، ثمّ يعبرون، وكثيرا ما يطردون” وكان الشعر رحيما جعل طريق العودة اختيارا وكان الثمن غاليا ….
فمع كل شهيد تنبعث الحياة من الدم ويتجدد الفناء في فلسطين: فناء تميم في القدس وهو” شريد كَهُمْ طريد، يرحل كما يرحلون، ويغنّي كما يُغنّون، ومثلهم يهوى ومثلهم يُصرع من أجل “الحبيبة”، ولا حبيبة إلاّ” بلاد بعيدة” اغتصبت منه فهجرها كُرها وما فتئ يحنّ إلى لقياها، أرض لا موجودة ولا مفقودة، موعودة في أفق التّيه والفناء” ولا فناء دون صلابة وشدّة وهي المعنى القريب لعبارة تميم وهل يوجد أسمى من فنائنا في أصلنا الاول تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان من ذرية نبي الله إسماعيل بن إبراهيم.