حسني عبد الرحيم
لا يحتاج المرء لحصافة وألمعيّة فكرية كي يرى المشترك بين تأسيس الولايات المتحدة ودولة إسرائيل! فمن النظرة الاولى كلاهما نشأ بواسطة مهاجرين كانوا يتعرضون لاضطهاد منطلق من دعاوى دينية مختلفة وفي الحالين كان هناك سكان أصليون في الأماكن التي اختاروها لهجرتهم تم إبادة معظمهم في أمريكا الشمالية وتم تهجير غالبيتهم في فلسطين لدول مجاورة ومخيّمات حدوديّة! في الحالة الأمريكيّة كان المهاجرون الأوائل من المسيحيين البروتستانت واللذين اعتبروا امريكا هي الارض الموعودة وفق التفاسير الألفية للكتاب المقدس وفي الحالة الثانية كان المهاجرون من اليهود الذين اعادت الحركة الصهيونية قراءة للتوراة لكي تجعل فلسطين وعدا إلهيّا لليهود!
لم تكن الهجرة الأمريكية مقتصرة على ديانة أو عرق معيّن فهناك موجات هجرة الكاثوليك الإيرلنديين ثم الإيطاليين وهناك العبيد المستجلبين من أفريقيا للعمل في مزارع القطن في الجنوب منهم الوثنيين والمسلمين وبالتالي صارت أمريكا مع الوقت دولة متعددة الديانات والأعراق! ودولة علمانية على الرّغم من تدين أغلب سُكّانها بالمسيحيّة البروتستانتية المتعدّدة الكنائس والنّحل وعلى الرّغم من المناقشات الدينيّة الطّقوسيّة في الصّراعات السياسية الأمريكية والتنظيمات الدينية الواسعة والمؤثرة فالدولة محايدة بين كل الديانات والنحل والأعراق في صراع بين أغلبية من “الواسب” وأقلية معتبرة سوداء (أغلبها بروتستانت) منذ إعلان الاستقلال حتى الآن.
المسيحية الصهيونية سابقة على اكتشاف الأمريكيّتين وغالبا ترجع إلى العصور الوسطى إذ تشكلت نواتها الجوهرية في مقولة تخليص بيت المقدس من أيادي الكفار(المسلمين) وبالتأكيد باعتبارها مبرّرا للتخلّص من فائض سكاني (عِطالة جماهيرية) بإرساله للمشرق تحت إشراف مباشر من أمراء إقطاعيين ومباركات من بابوات وأبرشيات كانت حتى ذلك الحين تعتبر اليهود قتلة المسيح! وكذلك للحصول على مزايا طريق التجارة الدولية بين الشرق الأقصى وأروبا البادئة بعصر البرجوازية التجارية في سواحل إيطاليا والبلاد الواطئة! لكن الهجرة للأمريكتين التي كانت كذلك مغلفة بنوازع دينية وحيث تمت العديد من التصفيات العرقية بمباركة الربّ! لكن جوهرها كان البحث عن الذهب والمزارع الشاسعة والخروج من الركود الإقطاعي في القارة العجوز! وهذا لم يمنع المستوطنين الاوائل من تصور أنهم في مهمة مقدسة لهداية شعوب كافرة! ويمكن فقط تتبع ذلك في الإحتفالات الدينية الأمريكية كعيد الشكر وغيره! لكن الهجرة للأمريكيتين تنوعت بعد استجلاب الأفارقة ليكونوا عبيدا في مزارع الجنوب وكذلك الهجرة من بقاع أخرى كاثوليكية كإيرلندا وإيطاليا وأسبانيا وهى مناطق كانت تعمّها المعاداة للسامية التعبير الإقطاعي لرفض الرأسمالية وممثليها الاوائل من المرابين اليهود! ولهذا فهناك اختلاط في الأميركتين بين معاداة السامية الكلاسيكيّة والمسيحية الصهيونية!
الحرب العالميّة الأولى كانت نقطة تحول في تشكل الصهيونية السياسية بمؤتمر بال في سويسرا وكذلك الصهيونية الثقافية بإحياء (إعادة اختراع معجمي للغة مندثرة) اللغة العبرية! الصهيونية السياسية كانت ضمن الانبعاثات القومية في أطراف الإمبراطوريتين القيصرية والنمساوية المجرية! لكن مجمل هذه الانبعاثات القومية كانت لديها شعوب ذات ثقافات منسجمة نوعا ما (لغة يومية وكنائس قوميّة) وكذلك أرض مشتركة وكان ينقصها علم ونشيد وطني ودولة قومية! ما كانت تفتقده الحركة الصهيونية هي هذه العناصر فيهود “الجيتو” كان يتحدثون تنوعات من اليديشية (المانية محرفة) واليهود موزعين بين كل مدن نهاية العصور الوسطى في وسط وشرق أوربا! كان خيار فلسطين ليس الخيار الوحيد المطروح على الصهيونيين الأوائل. كانت هناك أوغندا وبعض الجزر في المحيط بينما كان اتجاه الهجرة الرئيسي لليهود ذلك الحين لأمريكا الشمالية المتبرجزة باندفاع دون معوقات قبل رأسمالية!
بين الحربين كان الصعود المرعب للقومية الإمبريالية الألمانية وكانت النتيجة احتلال ألمانيا الهتلرية لمعظم القارة وحملتها على اليهود باعتبارهم غرباء. فتم تجميعهم في معسكرات في بولندا ذروة اللاّسامية الحديثة كتعبير كان عداء الرأسمال القومي للرأسمال المرابي اليهودي بالأساس وشمل ذلك الإنتلچينسيا اليهودية (المنزوعة الجذور) والتي كانت بمعظمها علماء ألمان ونمساويين وبولنديين (أينشتين -أوبنهايمر – …وأخرين) حققوا إنجازات علمية مشهودة وكثير منهم (آل فتجنشتاين وغيرهم) كانوا تحولوا للبروتستانتية وتكيفوا ضمن رأسماليات امبريالية صاعدة وخاصة في القطاع المالي (كآل روتشيلد وغيرهم)! وضمت هذه الهجرة الإجبارية مثقفين مرموقين كذلك (حنا آرندت- ادورنو – هوركهايمر – ماركوز.. وأخرين)! أصبحت الولايات المتحدة تضم مجتمع يهودي منقسم فالكثير من المثقفين والعلماء ذو منحى تقدمي بينما الغالبية تحت تأثير قوي من الصهيونية التي تحولت لحركة سياسية أساسا بعد وعد بلفور والحرب العالمية الأولى وبداية عمل المنظمة الصهيونية العالمية على دفع فقراء اليهود من أوربا الشرقية للهجرة إلى فلسطين بدعم مالي من أثرياء اليهود.
ما بين الحربين جوهري في العالم فأوّلا أصبح النفط هو المصدر الأهم للطاقة وثانيا رثت الولايات المتحدة الهيمنة عن بريطانيا وبالتالي على الشرق الأوسط النفطي وثالثا ظهور المعسكر الاشتراكي الذي أصبح يمثل “محور الشر” وبدايات الحرب الباردة!
في الولايات المتحدة كان صعود للمسيحية الصهيونية ،وكان “هاري ترومان”-الذي أمر بضرب اليابان بالقنبلة الذرية- وهو البروتستانتي من ” المعمدانية التدبيرية” والتي تحظ بالألفية وعودة المسيح وإعادة بناء الهيكل ومملكة إسرائيل في أرض الميعاد والشعب المختار ..إلى آخر هذه الأساطير الألفية والتي كانت الكنيسة الكاثوليكية قد اعتبرت نفسها هي ارض الميعاد واختيار الرب وليست فلسطين التوراتية !كان اعتراف ترومان بدولة إسرائيل حتى قبل كل الدول الأوربية ومن بينها بريطانيا بتأثير مباشر من خلصاء صهاينة كانوا من المقربين له! ولكن هو تمثيل لمصالح أمريكية أرسخ في الشرق العربي وحاجتها لوكيل لها في منابع النفط والتي تحولت الشركات الأمريكية لتحل “شيل” محل “بريتيش بتروليوم” وتبدأ سلسة القواعد العسكرية من المحيط للخليج والأسطول السادس في البحر المتوسط والدخول في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956 وإخراج الامبرياليات القديمة بخفي حنين! يصبح السرق الأوسط لاحقا لمسرح للحرب الباردة بين المعسكرين.
حرب يونيو 1967 نقطة تحول جوهرية فقد انهزمت الأنظمة القومية العربية هزيمة ساحقة وأضحت العسكرية الإسرائيلي لها اليد الطولى في ردع وتأديب الأنظمة المارقة وحماية الأنظمة المحافظة التي تقوم على حراسة منابع النفط وتأخذ من الإدارة الأمريكية المعونة الخارجية الأكبر في العالم والتسليح المتقدم بيننا الأسطول السادس والقواعد العسكرية الامريكية تؤمن الدولة الصهيونية إستراتيجيا. رعت تلك العلاقة الخاصة هـيئة مشكلة من مشرعين ورجال اعمال وصحفيين هي “الإيباك” والتي تعمل الى الدفاع عن متطلبات إسرائيل لدى الإدارة وتمل الحملات الانتخابية لعدد من المرشحين من الحزبين الديموقراطي والجمهوري اللذين يساندوا مطالب إسرائيل ويتحصلون على ميزانية ضخمة من تبرعات رجال أعمال صهاينة يهود وغير يهود!
صعود” رونالد ريجان” وما يسمّى بـ”الانتصار في الحرب الباردة” وتفكك الكتلة الشوقية والإتحاد السوفيتي -محور الشر! – كان مؤشر لصعود غير مسبوق لليمين المسيحي الصهيوني وخلال تلك المرحلة، كان وجود بنيامين بن صهيون نتانياهو” في مؤسسة “بوسطن أنفستمنت” بمجاورة المياردير” ميت رومني” حاكم ماتستوتيش لاحقا والمرشح سابقا للرئاسة عن الحزب الجمهوري. ثم أصبح نتانياهو سفيرا لإسرائيل في واشنطن ولعب دورا جوهريا في هندسة العلاقة بين اليمين الأمريكي واليمين الإسرائيلي الذي تحول برئاسة نتانياهو “لليكود” للقوة المهيمنة في السياسة الإسرائيلية خلال عقدين!
كان النفوذ الأكبر للسياسة الإسرائيلية وللوبي الصهيوني المرتبط بها أساسا في النواب والشيوخ من الحزب الديموقراطي بينما في اليمين الأمريكي هناك مجموعات قومية معادية لليهود (لاسامية) وكانت ولايتي “بوش” الأب والابن فترة ذهبية لصعود اليمين المسيحي الصهيوني والعلاقة الأوثق مع الإدارات اليمينية ، وأتى هجوم 11ديسىبمبر على مركز التجارة العالمي بنيويورك وعلى البنتاجون ليتبعه حملتي أفغانستان ثم العراق وتتشكل سردية جديدة هي “صراعات الحضارات”( صامويل هتنجنتون) والخطر الإسلامي في مناخ تصاعد الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط وفي العالم بشكل عام وخاصة في أفريقيا وشرق آسيا وفي المهجر كتعبير مُتوقع بعد هزيمة الأيديولوجيا الاشتراكية والتنمية المعاقة بقيادات قومية وديكتاتورية، وكمظهر لرد فعل لعملية العولمة (الأمريكية) التي من ناحية وطدت الهيمنة الأمريكية ومن ناحية أخرى فرغت المراكز الصناعية الأمريكية التقليدية و بالذات الصلب من المصانع التي انتقلت لشرق آسيا بحثا عن العمالة الرخيصة و هربا من الضرائب المرتفعة على الارباح الرأسمالية. وصارت القوى العاملة المعطلة في بعض الولايات مجال خصب سواء لليمين المتطرف وللدعاية المسيحية الخلاصة والمسيحية الصهيونية! لكن اليهود الأمريكيين في أغلبهم بقوا أميل للحزب الديموقراطي بفعل عوامل تاريخية من ناحية مثل خوفهم من القومية المتطرفة التي يحملون ذكريات مؤلمة عنها من المانيا وشرق أوربا وكذلك بفعل مستوى التعليم المرتفع وتأثير الإنتلچينسيا اليهودية الليبرالية!
خلال العقدين الماضيين يسترعى الانتباه عدد من الفضائح والجرائم والمحاكمات التي طالت عدد من الرأسماليين اليهود خلال السنوات الماضية في الولايات المتحدة ( برنارد مدوف أستولي على مليارات مودعين مشهورين ومؤسسات من خلال استثمارها ببونزي شيما..”چيفري أبستين مستثمر كبير وصديق ترامب وهـيلاري كلينتون وزوجها -“جيفري واينشتين” مالك “ميراماكس “واحدة من أكبر شركات الإنتاج بهوليوود -كان حاصل على أوسمة عديدة-“جوسيلين ماكسويل “أبنة “روبرت ماكسويل” امبراطور الصحافة الصفراء وعشيقة “أبستين “وهى مسجونة لعمليات قوادة جنسية ) وكلهم من المناصرين الأشداء لدولة إسرائيل وحتى والد جوسلين وهو مورد الكثير من الأسلحة لإسرائيل ومنها الطائرات الحربية ومعدات نووية وبرامج تجسس ..والذي يُقال أنه أنتحر غرقا في المحيط وهو على ظهر يخته وهو كان إمبراطور الصحافة الإنجليزية الصفراء و حاصل على وسام بطل من الدولة الصهيونية. وكلهم تحوم شبهات حول علاقاتهم المخابراتية والمالية بدولة إسرائيل) ولا يمكن في هذه العجالة إلا ذكر “مريام أديلسون “الإسرائيلية/الأمريكية أرملة ووريثة مليارات “شيلدون أديلسون “ملك ملاهي القمار في” لاس فيجاس” وهي من أكبر ممولي حملات ترامب الانتخابية! والمشرفة على فريقه الانتقالي للبيت الابيض في 2016 والحاصلة (من ترامب) على اعلى وسام تعطيه الدولة الأمريكية (وسام الحرية)!
الوجود المؤثر للصهاينة أيضا في المجال الأكاديمي والإعلام وصناعات الترفيه لا يمكن إلا أن يؤثر على صناعة القرار في الولايات المتحدة وحتى وجود عدد غير متناسب من الصهاينة كنواب أو شيوخ أو حكام ولايات! هذا ليس بواسطة مؤامرة يهودية متخيلة، ولكنه نتيجة طبيعية للثروة التي تتحول إلى نفوذ والشهرة التي تنتج ثروة!
منذ الستينات وقبلها كان هناك عدد من الكتاب اليهود والمثقفين الأشهر ضمن تيار “التقدمي” في الولايات المتحدة وكذلك الطوائف اليهودية الأرثوذكسية ( الحارديم) والتي لا تقف مع دولة إسرائيل وترفض مقولة أنها دولة يهودية بل فقط صهيونية وهذا التيار يرجع للقرن التاسع عشر في معارضته للصهيونية السياسية والثقافية! ومنذ حملة 2008 للرّئاسة الأمريكية تكونت منظمة من المثقفين اليهود “جويش ستريت “ضد” الإيباك” وتمتلك موارد ونفوذ كبير داخل الطائفة اليهودية العلمانية مع مؤيدين لها من مشاهير في الإعلام كالكاتب” توماس فريدمان” والبروفسور “بول كروجلمان”-نوبل في الاقتصاد والسينمائي “وودي آلان”! وعشرات غيرهم في المسرح والسينما يقفون بتماسك كبير ضد دعاوي إسرائيل الصّهيونية التوسّعيّة وخاصة سياسة اليمين الصهيوني وهم، بالطّبيعة، مندمجون كمواطنين وولاؤهم للولايات المتحدة الأمريكية.
هناك عنصر جديد وهو الهجرة العربية منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين وخاصة في ظل الاضطرابات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط وتعاطف المهاجرين الجدد مع الشأن الفلسطيني وظهور كتلة من النواب من أصول مهاجرة حديثا منتقدة بشدة لعمليات التصفية العرقية وهى الكتلة في مجلس النواب (الإسكواد) على رأسها “إلهام عمر” و”رشيدة طالبي” والزعيمة” الإسكندرية كورتيز” وآخرين ، ومعهم في مجلس الشيوخ السيناتور ” بيرني ساندرز ” ..ومعهم الجناح التقدّمي في الحزب الديموقراطي والذي يصدر رسالة يومية وتحليلات ومواقف باسم (أمريكان بروسبيكتف) وهذه الكتلة ذات تأثير متنام في صفوف الحزب الديموقراطي! وخاصة منذ انتخاب “باراك حسين أوباما” وإعادة انتخابه أول رئيس أسود للولايات المتحدة، الأمر الذي تمخض عنه رد فعل لاحق بتشكل الحركة اليمينية وتوسّعها ” أمريكا عظيمة ثانية) وهى التي رفعت المقاول والتلفزي السابق “دونالد ترامب” ليكون رئيسا بدعاو شبه فاشية ومعادية للمهاجرين وللتحالف الأطلنطي.
تنتهج الحركة الأقليّة السّوداء ومنذ الستينات، تنتهج يساريّا متسارعا بالدّفاع عن الحرّيات المدنية والمساواة بين الأعراق والتضامن مع القوميات المضطهدة وخاصة خلال التضامن ضد العزل العنصري في جنوب أفريقيا سابقا والذي انتهى وأصبحت دولة جنوب أفريقيا من المدافعين الأبرز عن الحق الفلسطيني واستطاعت هذه الحركة إيصال عدد من الممثلين للمجالس المنتخبة وحكام الولايات وتشكيل قطاع هام في الإعلام المقروء والمرئي (أوبرا وينفري وغيرها) وأصبح تجمّع النواب السّود في مجلس النواب الأمريكي(بلاك كوكس) قوة لا يستهان بها وعلى الصعيد الشعبي كانت مظاهرات (حياة السود مهمة) من أكبر التحركات الجماهيرية في تاريخ الولايات المتحدة. ويناضل في صفوفها عدد من الفاعلين اليهود المعروفين بنقدهم الصارم لليمين الصهيوني سواء الإسرائيلي أو الأمريكي!
تمثّل الحركة المعارضة للحرب في أهم الجمعات المشهورة (هارفارد وكولومبيا) وفي أغلبية الجامعات الأمريكية عنصرا هاما في ميزان القوى الحالي وهي لم تأت من العدم فبعد عشرات السنين من العمل والدعاية والتحليل الذكيّين من عدد من الأكاديميين المرموقين كـ”ادوارد سعيد” و”رشيد خالدي” وكانت الثمرة الطيبة للعمل المخلص والدؤوب! ولا يمكن تجاهل الأثر البالغ للإعلامي والممثل الفكاهي الدكتور “باسم يوسف” المصري/الأمريكي والذي تحولت عروضه الجماهيرية في أوربا وأستراليا وأمريكا لمنصّة للدفاع عن الحق الفلسطيني وإظهار الوجه البشع للعنصرية الصهيونية، وهو الأمر الذي ساهم فيه بشكل كبير ظهوره في برنامج ” عرض آخر الليل” للكوميدي الأمريكي اليهودي الأمريكي التقدمي الأشهر “جون ستيوارت”.
الحملة الانتخابية الحالية (2024) لانتخاب رئيس للولايات المتحدة وانتخاب نصفي للمجلسين أظهرت خطا واضحا للانقسام في السّياسة الأمريكية فعلى اليمين يقف “دونالد ترامب” وحلفاؤه في الاقتصاد والإعلام وبعض حُكام الولايات لتأييد خط اليمين المتطرف الاسرائيلي ومشروع إسرائيل الكبري والحلف الإبراهيمي المزعوم وتنظيف (بحسب نسيب ترامب ومستشاره كوشنر) غزة والقطاع من ساكنيهم الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات والحرب العاجلة الشاملة ضد إيران وحلفائها من أجل شرق أوسط جديد وإسرائيلي. تهيمن علية إمبريالية صغرى صهيونية متطرفة ويدعمه العديدون من رجال الأعمال والصحافة اليمينيين سواء اليهود الصهاينة أو المسيحيين الصهاينة وهو حلف طبقيّ واضح ورجعي وعدواني.
الجانب الآخر، تمثله النائبة الحالية للرئيس “بايدن” المرشحة للرئاسة “كاميلا هاريس” وابنة لاقتصادي ماركسي مرموق ومهاجر جاميكي أسود وأم طبيبة هندية، وكاميلا متزوجة من رجل أعمال يهودي ولم تنجب أطفال. وقد تولت منصب المدّعي العام سابقا لكاليفورنيا وكذلك سيناتورة منتخبة لأكبر الولايات ذات النزعة التقدمية ثم نائبة منتخبة لـ”چوزيف بايدن” ويقف خلفها تحالف ديموقراطي واسع يضم يسار الحزب الديموقراطي (التقدميين) والطيف الواسع من الحركات الاجتماعية التقدمية بما فيه من عرب وسود ويهود ومسلمين ومسيحيين ولاتينيين وكذلك رجال أعمال ومستثمرين كبار! وتصريحاتها كنائبة للرئيس إنها تعمل من أجل وقف إطلاق فوري في غزة وحل الدّولتين يعارضها كلا من اليمين الاسرائيلي والأمريكي بشدة وكذلك قطاع من يمين الحزب الديموقراطي.
هناك تغير جوهري في الرأي العام الأمريكي منزاح بمسافة واضحة عن التقاليد الامبريالية التقليدية للخارجية الأمريكية الموروثة عن الخارجية البريطانية وهو تغير لا يمكن إلا ملاحظته والعمل على توسيعه دون أوهام.. ذلك لأنّ الولايات المتحدة الأمريكية مازالت القوة الإمبريالية المهيمنة في العالم ومصالحها تتقاطع مع دولة إسرائيل، ولكنها ليست متطابقة معها وخاصة حول خطة اليمين الإسرائيلي لبناء مجال ل”إمبريالية صغرى «في الشرق الأوسط لا تتماثل مع متطلبات الامبرياليات الكبرى في أمريكا وأروبا!
التوقعات المعقولة بفوز الحزب الديموقراطي والمرشحة “كاميلا هاريس” في الانتخابات ربما تكون رافعة هامة لوقف مدّ اليمين المتطرف في الغرب وكذلك سقوط اليمين المتطرّف في إسرائيل وليس بعيد المنال الدّخول في عملية تستهدف خلق دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة والقطاع وتكوين قيادة فلسطينية جديدة قادرة على استثمار الإنجاز الكبير الذي مثلته المقاومة الفلسطينية منذ السادس من أكتوبر 2023.
في تاريخ الولايات المتحدة انعطافات سياسية كبرى.. خذ مثلا إلغاء العبودية وحركة الحقوق المدنية والوقوف متأخرة معاكسة للفصل العنصري (أبارتايد) في جنوب افريقيا وحتى موقفها من العدوان الثلاثي على مصر في 1956! طبعا هذا لا يؤدي أوتوماتيكيا لاستنتاج بسيط وسطحي حول تغيير جوهري للتوجهات الاستراتيجية للإمبريالية الأمريكية لكن يمكن التأثير فيها والضغط عليها والمساومة معها بالعمل مع قوى مختلفة ومتنوعة لخصناها فيما سبق وخاصة في ظل خطر كبير يتهدد مصير الشعب الفلسطيني وربما شعوب المنطقة العربية بأكملها هو خطر التوسع الصهيوني .