
بقلم:
سالم بوخداجة *
في شهر رمضان يصوم المسلمون، ويعتبرون الصوم واجبا دينيا وركنا من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتمّ الدين إلا بها. وقد فرض الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة أي بعد قرابة ثلاث عشرة سنة على بداية الدعوة المحمديّة بمكة سنة 610 م، وهذا يعني أن النبي صام تسع سنوات فقط في حياته. لكنّ المصادر القديمة تؤكّد أنه كان قبل ذلك يصوم على نحو آخر وبطريقة غير مسترسلة. كان النبي قبل السنة الثانية للهجرة، حسب كتب السيرة النبويّة، يصوم يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع. ولم يزعم القرآن أن الصوم بدعة إسلامية لا عهد للناس بها من قبل، بل نجده يؤكّد أن الصوم موجود من قبل.» يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون أياما معدودات « (البقرة.183) دون أن يحدّد بدقة من هؤلاء الذين كتب عليهم الصيام من قبل؛ وقد صار المفسّرون إلى أن المقصود بذلك اليهود والنصارى. لذلك رأينا أن نعود في هذا المقال السريع إلى صوم هؤلاء الذين أشار إليهم القرآن لنقف عند أنواع صيامهم وكيفية تحقيق هذا الطقس الموغل في القدم المنتشر في مختلف الحضارات ومتعدّد الأديان. وسنبدأ بالصوم الهندي لاعتقادنا أنّه من أقدم أنواع الصوم الطقوسي التي عرفها الإنسان.
الصوم في الأديان الهندية
الظاهرة الدينية في شبه القارة الهنديّة ظاهرة معقّدة قديمة، بل لعل أصل الأديان عائد إلى هذه البقعة الشاسعة من الأرض.إ نّ تعدد الديانات الهنديّة لا يعني ،حسب الباحثين المختصين ،وجود قطيعة بين السابق منها و اللاحق.( الفيدية و البراهمانيّة والهندوسيّة). فعقيدة التناسخ هي الأساس الجامع والرابط المشترك بين هذه الأديان فضلا عن وجود طقوس جامعة من بينها الصيام.
سجلّ العالم المسلم أبو الريحان البيروني (توفي 440 هـ) في كتابه الشهير « تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» (طبعة عالم الكتب 1983م) ملاحظاته التي استفادها من إقامته الطويلة في الهند وتوقف عند الظاهرة الدينيّة الهندية ففصل القول في العقائد وانتقل لتناول الطقوس ومن بينها الصوم: أنواعه ومواقيته
أنواع الصوم لدى الهنود: أشار البيروني في مستهل حديثه عن الصيام لدى الهنود إلى أنّ « الصيام كلّها (هكذا) عندهم تطوّع ونوافل ليس منها شيء مفروض» مقارنا ضمنيا بين صوم الهنود وصوم المسلمين المفروض/ المكتوب (القرآن يستعمل فعل كُتب مبنيّا للمجهول. وهو استعمال يحتاج تدبّرا. وسنعود إليه لاحقا) .ثمّ عرّف الصوم تعريفا عاما وهو «الإمساك عن الطعام مدّة ما» دون تحديد للمدّة لأنها ليست موحدة بل تختلف باختلاف النوع من الصيام المراد. لكن ما يلفت الانتباه في التعريف الذي قدّمه البيروني هو أنّه يخرج من متطلبات الصوم شرب المياه و ممارسة الجنس على سبيل الذكر لا الحصر بما أنّ الصوم عندهم إمساك عن الطعام فقط. بعد التعريف العام ذهب البيروني إلى التفاصيل، فوصف كيفيّة أداء هذا الطقس التطوّعي و تحدّث عن الصوم « المتوسط» حسب عبارته وهو الذي « تحصل به شريطة الصوم « فكأن هذا الصوم هو المعيار أو الحد الأدنى الذي لا يكون الصوم صوما إلاّ به. ويتمّ ذلك بأن يعيّن من ينوي الصيام « اليوم المصوم ويضمر لمن يتقرّب به إليه ويصام لأجله من الله أو أحد الملائكة أو غيرهم» ونتبيّن من خلال هذا القول إنّ الصيام عند الهنود طقس فردي وليس من الطقوس الجماعيّة. وبهذا يختلف عن صوم المسلمين الجماعي، ولا نجد تحديدا ليوم الصوم، بل الصائم هو من يتولّى القيام بذلك فيعيّن يوم الصيام و « يضمر» كما قال البيروني لمن يتوجه بهذا الصوم. وكأن تعيين المقصود بالصّوم يظلّ أمرا خفيا لا يعلنه الصائم، بل يضمره إلى حين. وقد اضطرّ البيروني لاستعمال مصطلحات إسلاميّة مثل «الله / الملائكة» والحال أن الـأمر متعلّق بديانات وثنية. ثم تولى البيروني وصف كيفية هذا الصوم تفصيلا. يقول ثم يتقدّم هذا الفاعل ويجعل طعامه في اليوم الذي قبل يوم الصوم عند الظهيرة، وينظّف الأسنان بالتخليل والسّواك، وينوي صوم الغد، ويمتنع من وقتئذ عن الطعام، فإذا أصبح يوم الصوم استاك ثانية و اغتسل و أقام فرائض يومه، وأخذ بيده ماء ورمى به في جهاته وأظهر اسم من يصوم له بلسانه، وبقي على حاله إلى يوم غد الصوم، فإذا طلعت الشمس فهو بالخيار في الإفطار إن شاءه في ذلك الوقت و إن شاء أخّره إلى الظهيرة». هذا الصوم كما نلاحظ يمتدّ من الظهيرة إلى الظهيرة في شكل امتناع عن الطعام فقط، لكن يمكن قطعه قبل الظهيرة عند طلوع الشمس. ترافق هذا الصوم طقوس منها تنظيف الأسنان بالسواك مرتين متباعدتين والاغتسال. لكن البيروني لم يحدد بدقة كيفيّة الاغتسال وهل أن المقصود به ضرب من الطهارة يتمّ بها الصوم أم هو مجرد تنظيف للبدن، ونجد عملا طقسيا آخر هو أخذ الماء باليد والرمي به وإظهار اسم المصوم له بعد أن كان مضمرا. ولا نعرف على وجه الدقّة ما المقصود بهذا الفعل المتمثل في رمي الماء. هذه الطقوس إضافة إلى النية هي التي تجعل الامتناع عن الأكل من الظهيرة إلى الظهيرة صوما لأن « الأكل من الظهيرة إلى الظهيرة» يسمّى حسب البيروني « يكْ ندْ « ولا يسمى صوما. أي أن الامتناع عن الطعام وفق نظام غذائي يقوم على الأكل من الظهيرة إلى الظهيرة لا يسمى صوما. لأن الامتناع عن الطعام إنّما يصير صوما بجملة من الشروط و الطقوس ومن أهمها تعيين» المصوم له» .لكن هذا الشكل « المتوسط» لا يعني عدم وجود أشكال أخرى من الصوم وصفها البيروني . فمن ذلك نوع من الصوم يبدأ بالأكل وقت الظهيرة وفي اليوم الثاني يكون الأكل وقت العتمة وفي اليوم الثالث لا يأكل إلا ما يدفع إليه غير مطلوب. ثم يصوم في اليوم الرابع. والنوع الثالث يكون بتناول الطعام عند الظهيرة لمدّة ثلاثة أيام متتالية، ثم يحوّل طعامه إلى وقت العتمة ثلاثة أيام متتالية. ثم يصوم ثلاثة أيام متتالية لا يفطر فيها البتة . ويبدو هذا النوع من الصيام شاقا بالقياس إلى النوعين الأوّل والثاني. ثم يذكر البيروني نوعا آخر من الصيام وهو « أن يصوم بالوصال أيام شهر متتالية لا يفطر فيها البتة» و يبدو هذا النوع قريبا من الصوم الإسلامي، لكن البيروني ترك الأمر غامضا إذ يبدو لنا قوله ملتبسا و خاصة منه « لا يفطر فيها البتة» فهل المقصود بذلك الامتناع عن الطعام طوال شهر كامل- وهو أمر صعب مرهق – أم المقصود به ممارسة الصوم الموصول مدة شهر مع تناول الطعام في أوقات معلومة.
لم يهمل البيروني ذكر ما يناله الصائم من «ثواب « في تصور الهنود. يقول ثمّ « يفصلون ثواب هذا الصوم في الشهور عند العود بعد الممات». وهو لا يقصد بالعود بعد الممات البعث كما هو الحال لدى المسلمين، وإنما يقصد بذلك التناسخ الذي هو أساس الديانات الهندية والعقيدة الجامعة بينها. والتناسخ كما عرفه البيروني في فصل آخر من فصول كتابه هو»علَمُ النحلة الهنديّة فمن لم ينتحله لم يك منها و لم يعدّ من جملتها» وملخص عقيدة التناسخ هو أنّ «الأرواح الباقية تتردّد في الأبدان البالية « . و تساعد أشكال الصوم على تحسين الحياة القادمة حتّى يكون « التردّد من الأرذل إلى الأفضل» كما يقول البيروني. للصوم ثواب يختلف باختلاف الشهر الذي يتم فيه و يبدو الثواب ماديّا حينا (نال اليسار/ نال الغنى و المواشي/ أصاب أموالا لا تحصى) معنويّا أحيانا أخرى( جلّ في الأعين ونال إرادته / نال الحسب الرفيع/ عاد محبّبا)
لا يبدو الصوم عند الهنود واجبا دينيّا مفروضا عليهم فرضا بل هو تطوّع يتمّ عن اختيار واقتناع من الصائم، والأهمّ من ذلك أن هذا الصوم يظل فعلا فرديّا و لم يتحول إلى طقس تؤديه الجماعة مع بعضها وتحرص على أن لا يخلّ به فرد منها مستعملة في ذلك آلية العقاب المادي أو المعنوي. ولا يرتبط الصوم بوقت محدّد مغلق مضبوط يتم فيه مثل شهر رمضان في الإسلام، بل هو مفتوح على كل الشهور وقد يمتد أحيانا على سنة كاملة كما يقول البيروني «ومن واصل جميع الشهور فلم يفطر في السنة إلا اثنتي عشرة مرة مكث في الجنّة عشرة آلاف سنة وعاد منها إلى أهل بيت ذي شرف ورفعة و حسب». لكن البيروني لم يقدّم تفاصيل عن هذا الصوم الغريب و لم يفسر المقصود بقوله « فلم يفطر في السنة إلا اثنتي عشرة مرة» . فهل يعني ذلك أن الصوم عن الطعام يمتد مدّة شهر كامل متواصل؟ لكن عدم ربط الصوم الهندي بشهر معين وجعله مفتوحا على كامل السنة لا يعني عدم وجود مواقيت للصوم عندهم؟
ب – مواقيت الصوم: خصص البيروني فصلا ثانيا من كتابه للحديث عن الصوم الهندي. وفيه تحدث عن « تعيين مواقيت الصوم».
اليومان الثامن والحادي عشر من النصف الأبيض (ضوء القمر) من كلّ شهر صوم، وقد بين البيروني أنّ لليوم الحادي عشر علاقة بباسديو. إذ عندما ملك باسديو حمل الناس على صوم اليوم الحادي عشر ليكون الصوم باسمه هو. و يؤكّد البيروني وجود صلة وثيقة بين الصوم الهندي ومنازل القمر المختلفة ،فلكل منزل من منازل القمر صوم خاص .ولكن يوجد كذلك عندهم صوم باسم الشمس « فاليوم السادس من جيتر( شهر هندي)صوم باسم الشمس .ويوجد صوم خاص بالنساء دون الرجال . « في الثالث من ( ماك) صوم للنساء دون الرجال.
إنّ ما يلفت الانتباه هو الارتباط الوثيق بين الصوم ومنازل القمر ومواقع الشمس عند الهنود وهذا شبيه إلى حدّ ما بالّإسلام فالصوم مرتبط بظهور الهلال أي بالقمر في شهر معلوم (رمضان)
وقفنا في هذا القسم من مقالنا عن الصوم باعتباره ظاهرة انثربولوجيّة كونية عند أقدم أشكال الصوم في أقدم الديانات التي عرفها الإنسان أي الأديان الهنديّة .وقد أسعفنا كتاب العلامة المسلم أبي الريحان البيروني الذي خبر الهنود و تمكن من التعريف بأديانهم وعقائدهم بمادة هامة حاولنا استثمارها رغم نقصها أحيانا وغموضها أحيانا أخرى ، و لعل ما يلفت الانتباه في نص البيروني ابتعاده عن الأحكام المعياريّة و المفاضلة بين الأديان. فلقد تعامل مع ظاهرة الصوم الوثني لدى الهنود تعاملا موضوعيا قام على الوصف والكشف ملتزما بما كان قد قطعه على نفسه في بداية كتابه وفيه يقول: «وأنا في أكثر ما سأورده من جهتهم حاك غير منتقد إلا عن ضرورة ظاهرة»
فكيف مارست الأديان الفارسية و أديان الوحي ( اليهوديّة/ المسيحية/ الإسلام ) هذا الطقس الذي يبدو لنا أنه كان في الأصل من قبيل الممارسات الصحيّة الطبيّة العلاجية قبل أن يتطوّر ليصبح طقسا دينيا وقد ظلّ عند الهنود مجرد تطوّع فردي لكنه سيصبح في ديانات أخرى واجبا جماعيا لتوحيد الجماعة والتقريب بينها كما يذهب إلى ذلك علماء الاجتماع
*القيروان