حسني عبد الرحيم
تبدو الصهيونية كأيدلوچية وكحركة منظمة منذ حوالي قرنين من الزمان أكثر غموضآ وضبابية بمقدار إتساع تدوال أسمها في الأحاديث العامة والحوارات الخاصة والتغطيات الصحفية والإعلانات السياسية! وقد انتشر في الإمبراطورية القيصرية الكتاب المعروف «برتوكولات حكماء صهيون» وهو مجموعة من القصص حول مؤامرة عالمية تحاك في الخفاء يقوم بها عدد من حكماء اليهود الأشرار لإفساد المجتمعات المعاصرة تمهيدآ للسيطرة على العالم !وقد قام الدارسون بألبحث عن مصدر هذا العمل وتتجه غالبية الإستنتاجات لباحثين يُعتد بهم!أن البروتوكولات من تأليف العميل في البوليس السياسي القيصري(أوخرانا) «ماثيو غولوڤينسكي» ضمن حملة لمعاداة السامية شملت روسيا وعدد من بلاد أوربا الشرقية منذ نهاية القرن التاسع عشر! وهي الحملة التى في بعضها تعتبر اليهود الليبراللين والثوريين هم سبب الاضطراب في أوربا وبألأخص في روسيا حيث كان الثوريين اليهود من قيادات حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي والبلاشفة(تروتسكي-كامينيف-زنوفييف- راديك- دزرجينسكي-برنو براجينسكي- تومسكي وآخرين)!فيما بعد سماهم»ستالين» في حملته على المعارضة» العناصر الكوزموبوليتانية»! في المانيا الهتلرية أُستخدمت البروتوكولات لتبرير» الهولوكوست»ورجع لها هتلر في كتابه» كفاحي».. صدرت البروتوكولات في العشرينات في أمريكا وقام بتمويل طباعتها( 500.000 نسخة
الر أسمالي الأشهر»هنري فورد»شخصيآ.. ترجمتها للعربية بألقاهرة عام 1951 أثر النكبة وحرب فلسطين بواسطة «محمد خليفة التونسي» مع تقديم ل»عباس محمود العقاد» وكانت ضمن مقررات الجماعات القومية!
توقع المؤرخ الإسرائيلي المُراجع (Revisionist) والأستاذ السابق في جامعة حيفا والحالي في جامعة «أكستر»البريطانية»إيان بابي»بأن المرحلة الحالية بعد 7 أكتوبر 2023هي بداية النهاية للصهيونية السياسية وهو الأمر الذي لم يكن ينتظره غالبية المراقبين قبل عام واحد اذ كانت حكومة «بنيامين نتانياهو» تُحرز تقدمآ كبيرآ في التطبيع مع الأنظمة الحاكمة في الجزيرة العربية وفي المغرب بعد أن قامت منذ عقود من القرن الماضي بعد كامب ديفيد ثم أوسلو بالتطبيع مع مصر والنظام الملكي في الأردن ونقل التمثيل الدبلوماسي للقدس كعاصمة موحدة وإعتبار المستوطنات شرعية من قبل حكومة ترامب وحلفائها وبداية التخطيط للسلام الإبراهيمي وحل المسالة الفلسطينية كمشروع عقاري (كوشنير)!وكذلك مع نمو إقتصادي غير مسبوق في إسرائيل (أرض اللبن والعسل!) وخاصة مع التقدم الكبير في الإقتصاديات المرتبطة بألتكنولوچيا الرقمية وإكتشاف حقول الغاز في المتوسط وتوسع الإستيطان في الضفة الغربية و التوسع في إستجلاب قوة العمل سواء من الضفة أو غزة أوحتى من دول أسيوية (الفلبين وتايلاند)!كان كل شئ يوحى بأن الدولة الصهيونية ستصبح الإمبريالية الصغرى في الشرق الأوسط!كان هناك شبه إجماع بأن إسرائيل التي يحكمها تحالف حزبي من اليمين واليمين المتطرف على وشك إنهاء المسألة الفلسطينية!
للرجوع للتاريخ في محاولة للحكم على تنبؤ البروفسير»بابي» من المهم تناول الحركة الصهيونية منذ بدايتها حتى عاصفة طوفان الأقصى وتتابعاتها على المستوى الدولي والمحلي وهو على مايبدو تحول جوهري..
الحركة الصهيونية والتي نشأت في وسط وشرق أوربا كانت في البدأ تيار دعائي مسيس نشأ في البلاد التى شهدت إنبعاث قومي متأخر(الصربيين والمجريين والأرمن..الخ) في نهاية القرن التاسع عشر و الحركة الصهيونية السياسية كانت إحدي النواتج الإيدلوچية لهذا الإنبعاث القومي بألذات في أوربا الشرقية والوسطي بعد تفكك الأمبراطوريات المتعددة القوميات (الهنغارية النمساوية والروسية والعثمانية)! وجدير بألذكر كذلك كان هناك ظهور مانسميه «الصهيونية الثقافية» بإحياء اللغة العبرية على يد اللغوي» اليعازر بن يهودا»(1858-1922) وهو ليتواني هاجر لفلسطين فيما بعد، والعبرية هي اللغة التي كانت حتى بداية القرن العشرين مجرد موروث ديني موجود في الكتابات التوراتية القديمة بينما كانت اللغة الأكثرية بين «الإشكناز» هي «اليديشية» وهى لهجة مشتقة من اللغة الألمانية ولغات أخرى بولندية رومانية وروسية وكتب بها أدب مُهم ومُعتبر وكانت لغة التخاطب في الجيتو! كان كتاب «تيودر هرتزل (بنيامين زئيف )-مواليد بودابست-»الدولة اليهودية»(1895) والذي صدر بألألمانية قبل وعد بلفور هو الإطار المرجعي الأول للحركة الصهيونية بُعده عُقِد الموتمر الدولي الصهيوني الأول (1897)في بازل بسويسرا و كان تحت رعاية»روتشيلد»وماليين يهود آخرين ثم»الصندوق القومي اليهودي»(1901)بڤيينا والذي كانت مهمته الرئيسية شراء الأراضي بفلسطين من المالكين العرب وبناء كيبوتزات زراعية(أشتروا حوالي1% فقط من أرض فلسطين) وإستقدام المهاجرين الذين قُدمت لهم إغراءات مادية وكذلك ساعدت موجة معاداة اليهود (اللاسامية) والمذابح العنصرية لهم في شرق ووسط أوربا في تسويق حلم الخلاص القومي في فلسطين وكانت هناك مصلحة لبريطانيا والمانيا وفرنسا في إنهاء»مسألتهم اليهودية».
الصهيونية السياسية ذاتها كان منقسمة بين صهيونية عمالية(بورشوف-بن جوريون) وصهيونية برجوازية-شبه ليبرالية- (تيودور هرتزل-ناحوم جولدمان)وصهيونية برچوازية صغيرة فاشية (يوسف شتيرن-جابوتنسكي)! على العموم غالبية المؤسسين للحركة كانوا
«لا دينيين» لكن إستخدامهم للأساطير الدينية كان فعالآ لتعبئة اليهود الفقراء للهجرة كما يسخر الصحفي الإسرائيلي اللامع «جدعون ليڤي»(لا يؤمنون بوجود إله!لكنهم يزعمون بأنه وعدهم بأرض إسرائيل)!قامت تيارات الصهيونية المختلف بالتحالف مع قوى دولية متنوعة بدءآ من الشيوعية (چوزيف ستالين)حتى الفاشية(موسوليني) مرورآ بالليبرالية (ونستون تشرشل) لكن التحالف الذي سيطر بمرور الزمن هو مع القوى التى انتصرت في الحرب العالمية الثانية! في ذلك الوقت إفتقدت الحركة الفلسطينية القيادة السياسية وكان تحت سيطرة مفتي القدس الحاج»أمين الحسيني «والذي قام بتحالف ساذج وكارثي مع هتلر معتبرآ الشعار الفاشل-عدو عدوي صديقي -مع تبعات ذلك على الدعم الدولي للمسألة الفلسطينية بعد الحرب!
تشكيل فرقة يهودية ضمن جيش الحلفاء في الحرب العالمية الاولى والثانية كان تحول هيكلي للحركة وتشكيل العصابات المسلحة بعدما ازدات الهجرة المنظمة لفلسطين برعاية الوكالة اليهودية.
اليهود كانوا يشكلون في كل المجتمعات التى تواجدوا بها أقليات وكانت مواقعهم السياسية بجانب تلك الاقليات خاصة في الولايات المتحدة بين الحربين -حركة الحقوق المدنية (مارتين لوثر كينج)- والحركة النقابية وكانوا على العموم على اليسار!لكن تشكلهم كأغلبية في دولة إسرائيل بعد إعلانها-14 مايو 1948- على أرض فلسطين وهزيمة الجيوش العربية ممثلة لأنظمة شبه إقطاعية وبداية النكبة التى تم بموجبها طرد المزارعين الفلسطينيين من أراضيهم وتحولهم للاجئين فس سوريا ولبنان والاردن ! كانا تحولآ هائلآ في المزاج العقلية السائدة في التجمعات اليهودية بمختلف بلاد العالم شرقه وغربه.
ففي دولة إسرائيل ومع تزايد أعداد المهاجرين»السفارديم»من دول عربية- المغرب واليمن أساسآ-ومن إثيوبيا(الفلاشا) والمهاجرين «الإشكناز» الجُدد من روسيا وجمهوريات الإتحاد و حلف وارسو السابق بعد»البروسترويكا»(حوالي 100,000) بدأت التيارات اليمينية تتعزز حتى تشكل «الليكود»(شارون) وهذا عمل من ناحية على تدعيم تحالف جديد مع اليمين واليمين المتطرف فيما بعد(ناتنياهو) وظهور إنشقاق بين اليهود المندمجين في الدول الغربية تجاه التصاعد لليمين الإسرائيلي! وهو مانشاهد آثاره في المعارضة اليهودية سواء من يهود متدينين أو ليبراليين لخطط اليمين الاسرائيلي في الحكم وخاصة بعد أحداث غزة.
ظلَ الفهم المنتشر في البلاد العربية عن الصهيونية هو مفهوم المؤامرات الغامضة السرية كما رويت في البروتوكولات وهو ما ساهمت في ترسيخة الحركات القومية العربية من البعث للناصرية للقوميين العرب متماشية مع الميراث المُزعج للحاج «أمين الحسيني» رحمة الله عليه! لم يكن «باراديجم» القوميين العرب المؤامراتي يسمح بغير ذلك ولم تتجاوز الحركات الوطنية العربية هذا الوهم سوى بتشكل تجمعات يسارية في الستينات بدأت في النظر للصراع مِن جوانب أخرى طبقية وتاريخية ومع توفر أدبيات متنوعة في هذا النطاق ودخول الحكومات العربية القومجية في أزمة تاريخية بعد النكسة وتحول العديد من مجموعات القوميين للماركسية(الحزب الإشتراكي اليمني-الجبهة الشعبية- چورچ حبش-)!وكذلك كتاب مرموقين ك»أميل حبيبي»و»غسان كنفاني».
سبق ذلك إصدارات بألعربية ك «الصهيونية أعلى مراحل الإستعمار1956»للماركسي المصري «فتحي الرملي»وكذلك كتابات يهود يساريين ( المصري أحمد صادق سعد والتونسي چورچ عدا والمغربي إبراهام السلفاتي) ظلت متداولة ومؤثرة في وسط محدود.
في المجال الفلسطيني(السبعينات والثمانينات) وبفعل علاقة اليسار الفلسطيني بتيارات يسارية غربية ساهمت بعض الإصدارات بمجلتي «الحرية» و»الهدف» في توضيح تناقضات الحركة الصهيونية ونذكر على سبيل المثال إصدار كتابات المنظمة الإشتراكية الإسرائيلية (ماتسبن) بواسطة مركز الدراسات الفلسطينية التابع لمنظمة التحرير وترجمة كتاب مهم ل»إسحاق دويتشر» (اليهودي اللا يهودي)(ترجمة الصحفي المصري في مركز الدراسات الفلسطينية «مصطفى الحسيني»)..
الإتحاد السوڤيتي برئاسة «چوزيف ستالين» كان الدولة الأولى التى تعترف بدولةإسرائيل قطعيآ -17 مايو 1948-وحتى قبل الولايات المتحدة! الموقف السوڤيتي تغير بعد حرب 1967 أثناء تصاعد الحرب الباردة ووضوح الوشائج العضوية بين دولة إسرائل والإمبريالية الأمريكية والبريطانية!أصدرت دارالنشر»نوفوستي»كتيب بعنوان «حذار الصهيونية»ل»يوري إيفانوف» الذي يعرفها بأنها «أيديولوجية، ومنظومة مُتشعّبة من المنظمات وممارسة سياسية للبرجوازية اليهودية الكبيرة، التي اندمجت بالأوساط الاحتكارية في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الإمبريالية الأُخرى»! الحركة الصهيونية نفسها تحركت يمينآ بعد حربي 1967-1973 وخروج اليسار الصهيوني من الحكم (جولدا مائير٠٠شيمون بيريز)!وصعود الليكود (شارون -نتانياهو) وتزامن ذلك مع سيطرة أكبر لمصالح المجموعات المالية اليهودية على خطاب الصهيونية السياسية في الغرب وبألتحديد في أمريكا وظهور التأثير الكبير لإعلام «روبرت ماكسويل» و روبرت ماردوخ».. في نفس الوقت أحتفظت الإنتلچينسيا الليبرالية(توماس فريدمان- جون ستيوارت-راشيل مادو) والتي كانت مؤيدة للديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط !الإنشقاقات اليسارية بمسافات متفاوتة من الأيدلوچية الصهيونية وخاصة اليمينية وخاصة بعد تزايد نفوذ اليمين المتطرف في إسرائيل وتحالفه مع اليمين المتطرف العالمي(ترامب -مودي-بولسينارو) !يشكل خطاب السيناتور(تشاك شومر) الأخير وهو اليهودي الديموقراطي الأقدم في الحكومة الفيدرالية وزعيم مجلس الشيوخ المخضرم والذي يدعو للتخلص من حكم نتانياهو مؤشر كعملية إخراج للعلن لإنشقاق كبير داخل اليهود في الولايات المتحدة ويأتي بعد ذلك تشكيل تحالف ضد»الإيباك» يضم منظمات تقدمية وقوى يهودية منظمة بعضها ديني وهو تحول كبير من قطاع هام ومؤثر ضمن الطائفة اليهودية الأمريكية ضد سلوك دولة إسرائيل وضد الصهيونية السياسية!كما يشكل موقف السيناتور اليهودي الديموقراطي»بيري ساندرز «مع مواقف مجموعة الديموقراطيين «Squad» في الكونجرس دعم حازم ومؤثر للمطالب الفلسطينية ! ويقف على أقصي اليسار مثقفين يهود مرموقين ك»نعوم شومسكي» الجذري وكذلك المخرج والكاتب البريطاني التقدمي «جوناثان جلازر» الحائز عن فيلمه
(zone of interest)»الأوسكار2024») والذي ألقى خطبة بليغة في حفل تسلمها حظيت بتصفيق مدوي من النجوم وصانعي السينما العالميين الحاضرين (كثير منهم يهود) يدين فيها إستغلال ذكرى «الهولوكوست»ومعاناة اليهود التاريخية لتبرير تصفية عرقية تقوم بها دولة إسرائيل !لايمكن تسويغ الهولوكوست بإرتكاب هولوكوست جديد!
ما نستنتجه من التاريخ المعقد للحركة الصهيونيه ليس المؤامرة الصهيونية- الموجودة بألفعل- لكنها لا تفسر شئ على الإطلاق والتي تتواجد مثيلاتها في كل الحركات المشابهة، لكن هناك تكوين متناقض للحركة الصهيونية والتي كانت قاعدتها الأولية برچوازية صغيرة وحتى عمالية -الفاشية كذلك-ولكنها مع الزمن إندمج قطاع كبير منها بألرأسمال المالي والإعلامي خاصة مع نجاحات اليهود المشهودة لهم دائمآ في تلك الأعمال والمتداخلة مع مصالح الإمبرياليات !
زبدة القول أن الصهيونية متعددة المراحل كحركة تاريخية كان تتشكل في بداياتها من قطاعات شعبية(برجوازية صغيرة وعمالية) ودعمها عدد من بارونات اليهود ك «روتشيلد» وتبدلت هذه قاعدتها مع الزمن و مع إعلان دولة إسرائيل المدعومة من الإمبريالية لتصير جناح من الرأسمال المالي الصهيوني العابر للحدود و المندمج مع الإمبريالية .
ينشق منها و عنها بمسافات متنوعة و مختلفة إنتلچينسيا يهودية مازالت تدافع عن مواقف إنسانوية وتقدمية وتدين العنصرية ودولة إسرائيل و خلال شهور «التصفية العرقية»( Genocide) الحالية لشعب غزة قامت هذه المجموعات بألوقوف بشجاعة وذكاء منقطع النظير في الجامعات والمحافل والمظاهرات في كل عواصم الغرب حتى الإعتصام بألكونجرس الأمريكي، وفِي الميديا الدولية مازالوا في الحقيقة من يقدمون فيي تدخلاتهم التدليل العقلاني والاخلاقي الأوضح والمُقنع لإدانة نتانياهو وحلفائه من عرب و إسرائيلين وفلسطينين وغربيين .