spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

الثقافة في تونس اليوم : تراكم المُشكلات وإرجاء الحلول.. لماذا؟ وإلى متى؟

مصطفى الكيلاني

1   ثقافة التلهية بالأمس واليوم؟

الخلط قائم اليوم استمرارًا لما كان بالأمس بين المنظور الاستراتيجيّ والصفة القطاعيّة للثقافة في تونس، وهو خلط متعمّد في السابق كي لا تنزاح الثقافة عن هيمنة الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وعن ديمقراطيّة الواجهة وثقافة الواجهة أيضا في الحقبة النوفمبريّة (نوفمبر 1987) بدافع البحث عن شرعيّة جديدة آنذاك، شرعيّة «الإنقاذ»، كما رُوّج لها بعد الشرعيّة التاريخيّة المهترئة بحكم التقادم والجمود، وخلط ناتج في اللاّحق عن التردّد بين العادة القديمة الموروثة للتفكير في الثقافة وممارستها وبين غياب البديل منذ 10 ديسمبر 2010 – جانفي 2011 إلى اليوم، وإنْ تغيّرت العناوين والشعارات خلال الأعوام الأخيرة.

فارتباك القيم المرجعيّة وغياب برامج العمل الثقافي الواضحة ماثلان بقوّة في واقعنا الثقافيّ الراهن. أمّا المشترك بين السالف والحادث فإنّه يظهر في انتهاج سبيل التلهية، كما لو أنّ مهمّة الثقافة تنحصر في الاحتفالات والمهرجانات الموسميّة وبعض الأنشطة الثقافيّة في مختلف القطاعات.

إلاّ أنّ ثقافة التلهية اليوم تختلف عن ثقافة التلهية بالأمس لتراجُع ألق الاحتفالات والمهرجانات لما توفّر للفرد من وسائل ترفيه حادثة بما شاع من وسائل اتّصال جديدة، ولعزوف عدد كثير من الأطفال والشّبان وحتّى الكهول عن دور الثقافة وتفضيلهم التوجّه إلى فضاءات أخرى تُروّج للاسترخاء والاستهلاك.

وكما نعيش اليوم وضعا استثنائيّا بين جمهوريّة أولى آفلة دستورا، إلاّ أنّ ظلالها مازالت جاثمة على واقعنا الراهن، وبين جمهوريّة ثانية هي مشروع منبثق من دستور جديد (جانفي 2014) الدّاعي إلى الديمقراطيّة التشاركيّة والمواطنة الحرّة المسؤولة وحقوق الفرد مع التنصيص أيضا على واجباته تشهد الثقافة هي الأخرى في تونس وضعا استثنائيّا، إذْ تُواصل مؤسّساتها العمل بالقديم (ثقافة التلهية) ولا تسعى إلى تجاوزه بمفهوم جديد يسعى إلى التثقيف بدلا عن مُطلق الثقافة.

2   الحاجة اليوم قصد التثقيف المجدي إلى الفصل بين الاستراتيجيّ والقطاعيّ. 

فَتَسْتدعي ثقافة التثقيف في هذه المرحلة الوصل والفصل منهجا للتفكير بين القيميّ المرجعيّ الاستراتيجيّ وبين القطاعيّ.

ولكنْ كيف التفكير والتخطيط لثقافة جديدة إنْ لم يُدْع إليها أبرز مفكّرينا ومبدعينا؟ وهل الاستمرار في ممارسته السياسيّين والإداريّين بالمؤسّسة الثقافيّة نفوذهم المطلق واستخدامهم لآليّة الاستشارة الشكليّة سيُؤدّي القصد النبيل الداعي إلى المراجعة والمتابعة والإصلاح بوضع خطّة تثقيفيّة جديدة وآليّات تنفيذها بمختلف القطاعات؟ وهل الهيكلة الإداريّة الراهنة لوزارة الثقافة قادرة على أداء مثل هذه المقاصد الجديدة أم يستلزم الأمر مراجعة بناء هذه الهيكلة؟

فالخطر، كُلّ الخطر اليوم، ماثل في مواصلة العمل بثقافة التلهية، على غرار خدمة الإعلام الذي كان خاضعا هو الآخر إلى سياسة الحزب الواحد والزعيم الأوحد ثمّ لسياسة الحزب الواحد أيضا بمعارضة كرتونيّة له والحاكم الأوحد «منقذ البلاد» ولأيقونة الثورة الّتي تحوّلت اليوم إلى ما يشبه الصنم لكثرة استخدامها الدعائِيّ لهذا الحزب أو ذاك ضمن سياسة تلهية عامّة بأساليب تحريضيّة انتخابويّة.

فالتأسيس لثقافة جديدة لا يكون بالتلهيَة والظهور الواجهاتيّ والضجيج الإعلاميّ، بل يَقتضي التثقيف التعدُّد ضمن مرحلة التأسيس الفعليّ للديمقراطيّة التشاركيّة والمواطنة الحرّة المسؤولة ومقاومة ثقافة الواحد بمختلف مراجعها الإيديولوجية وتعبيراتها السياسويّة، ثقافة الاستئصال والإقصاء والتخوين والتكفير.

ولأنّ ثقافة التلهية السائدة إلى اليوم انتفاعيّة انتهازيّة واجهاتيّة تُخاطب الحواسّ أكثر من مخاطبتها للعقل والوجدان فهي عاجزة بخِفّتها وسطحيّتها عن مواجهة شتّى الأفكار الدوغمائيّة.

فهل بالتهريج والخفّة والسطحيّة نقاوم اليوم العنف الدينيّ وغيره من أصناف العنف الأخرى؟

وهل بالارتجال وغياب الخطّة العامّة والبرامج التثقيفيّة في مختلف قطاعات العمل الثقافيّ؟ وهل بالاستهانة برأس مال تونس الرمزيّ ممثّلا في مفكّريها ومبدعيها، كالذي حدث لهم ومازال من تهميش وإهمال إلاّ ما ندر، وبتوظيف سياسويّ لا تخفى مقاصده عن أيّ عاقل يقظ؟ وما الّذي قدّمناه لنخبتنا المفكّرة والمبدعة عند الشيخوخة والمرض، ولغيرهم من مساعدات وتسهيلات للتشجيع على الإبداع والإشعاع؟

3   حاجتنا الملحّة اليوم إلى مجلس أعلى للثقافة ومجالس تفكير جهويّة ومحلّيّة.    

بناءً على السابق تعرض عدّة إشكالات لا بُدّ من الخوض فيها قصد النهوض بالثقافة في تونس اليوم، ومن أبرزها، كما أسلفنا، الفصل المنهجيّ بين إستراتيجيا العمل الثقافيّ وآليّات اشتغاله القطاعيّ.

أمّا الاستراتيجيّ فيستدعي التوقّف المتأنّي عند القيم المرجعيّة الّتي بها تُعرّف الثقافة الوطنيّة تشميلا وكُلّ من الثقافة الجهويّة والمحلّيّة تخصيصا بمفهوم «الأكبر» (macro) الّذي يفتح الثقافة التّونسيّة على مجالاتها الجغرافيّة القريبة والبعيدة مغاربيّا وعربيّا وإفريقيّا ومتوسّطيّا وعالميّا في زمن من العولمة الّذي نعيش اليوم وزوال الحدود الفاصلة بين البلدان بالاقتصاد المُعَوْلم ووسائل الاتّصال الحديثة، وبمدلول «الأصغر» (micro) ممثّلا في المخزون التراثيّ الجهويّ والمحلّيّ المادّيّ واللاّ- مادّيّ.

فما ابتدأه وزير أو وزيران سابقان انقطع أو كاد اليوم، كأن نُشير، على سبيل المثال، إلى جهود تفكير سابقة كان لنا شرف المشاركة فيها وتحديدا خلال سنة 2012، وقد تجسّمت نتائجها، على وجه الخصوص، في الدعوة إلى إنشاء مجلس أعلى للثقافة ومحاولة فهم مُحيّن لدور الثقافة ووزارة الثقافة في هذه المرحلة الاستثنائيّة بالذات التي نعيش، والقصد من إنشاء مجلس أعلى للثقافة هو التأسيس لثقافة جديدة تقطع مع إرث ثقافة الواحد والتلهية والموسميّة والاحتفاليّة الساذجة والتهميش والانتهازيّة الإداريّة والتشرذم القطاعيّ.

إنّ الحاجة اليوم ماسّة إلى تحويل وزارة الثقافة إلى وزارة سيادة لأهمّيّة العمل الثقافيّ في مواجهة كُلّ من العنف الدينيّ والعنف السياسيّ والعنف الاجتماعيّ وترسيخ مفاهيم المواطنة الحُرّة المسؤولة والإسهام الفاعل اليوميّ في إنجاز الديمقراطيّة التشاركيّة.

لذا فإنّ دور المجلس الأعلى للثقافة ينبغي أن يكون أكثر من استشاريّ، كأن يضع الخطط والبرامج الكبرى، ووزير الثقافة يُختار من بين أبرز أعضائه.

فتوضيح القيم وبلورة المفاهيم المرجعيّة الثقافية وتطوير أساليب اشتغال العمل القطاعيّ الثقافي تعود بالنظر إلى مفكّرين ومبدعين كبار أكفّاء وليس إلى شخص أو وزير الثقافة لوحده وعدد من الإداريّين التابعين له.

إلاّ أنّ المجلس الأعلى للثقافة مهدّد هو الآخر بالمركزيّة المقيتة والانغلاق إنِ لم ينفتح على مجالس تفكير جهويّة للثقافة وأخرى محلّيّة للانتقال بالفكر والعمل الثقافيّيْن في تونس من تشميل المطلق الفضفاض إلى التخصيص، وبذلك يتّسع مجال الشامل ويعمق ويستثري بالخاصّ المتعدّد جهويا ومحلّيّا.

4   القطاعات الثقافيّة بين واقع الشتات ومفهوم الدعم؟

فالخروج بمختلف القطاعات الثقافيّة من وضع الشتات إلى حال الانتظام الفاعل المجدي مشروط بآليّة التفكير الاستراتيجيّ في العمل الثقافيّ واشتغال مؤسّسة التَفكير الوطنيّة (المجلس الأعلى للثقافة) ومؤسّسات التفكير الجهويّة المحلّيّة بديناميكيّة الذهاب والإياب بعيدا عن المركزيّة المجحفة في اتّجاه وفوضى الشتات في اتّجاه آخر.

ولكنْ كيف نصل ونُفارق منهجا بين مختلف قطاعات العمل الثقافيّ؟ وكيف نعمل على توصيف المشكلات والمُعوّقات وتمثّل الحلول لها؟

أ- الكتاب.   

شهد هذا القطاع بعض النموّ قبل ديسمبر 2010- جانفي 2011، وقد تراجع في الأعوام الستّة الأخيرة لتراجع الدعم، وسببه ميزانيّة الدولة العامّة وميزانيّة وزارة الثقافة تحديدا.

فكيف يتمّ الدعم اليوم؟ ولصالح مَنْ؟ هل لصالح الكاتب في المقام الأوّل أم الناشر أم القارئ أم الثلاثة معا وبالتساوي؟ وما هي مُشكلات توزيع الكتاب داخل تونس وخارجها؟ وكيف تُدارُ معارض الكتاب على المستويَيْن الوطنيّ والجهويّ؟ ولِمَ لا تقام معارض كتاب محلّيّة إلاّ نادرا؟ ومن المستفيد الفعليّ من هذه المعارض؟ وماذا عن ترجمة الكتاب التونسيّ إلى اللّغات الأخرى؟ وماذا، وكيف، ولمن نترجم؟

ب- المهرجانات والندوات.

هي كثيرة ومتشابهة إنْ لم نُسلّم بتماثلها، فهل يعني هذا التشابه أو التماثل هدر المال العامّ في غياب خطّة عامّة للعمل الثقافيّ في مختلف القطاعات؟ فكيف نعمل على ترشيد الإنفاق في هذا الشأن لنتفادى التكرار والارتجال والسطحيّة بالسعي إلى الاختلاف الوظيفيّ القائم على خصوصيّات الجهات والمحالّ والتوّثيق لها بمختلف الوسائل الطباعيّة والسمعيّة والبصريّة والتأسيس لذاكرة ثقافيّة وطنيّة راهنة ومستقبليّة؟

ج- دعم الفنون

فهل يُفهم الدعم، هنا، التمويل أو المشاركة في التمويل؟ وهل يتساوى عند الدعم الجيّد والرديء؟ وما هي آليّات متابعة الدعم في مختلف القطاعات من مسرح وسينما وموسيقى وغيرها؟ وهل يُراد بالدعم التشجيع على التواكل والمحسوبيّة وتصفية حسابات عَدَد من الإداريّين ضدّ عَدَد من المبدعين لأسباب شخصيّة ضيّقة ممّا يُشجّع على انتشار الفساد داخل المؤسّسات الثقافيّة عامّة؟

5  واقع الكتاب والقراءة هو مقياس رفعة الثقافة في بلد مّا أو انحطاطها.

لسنا من دعاة الانتصار لفنّ على آخر، ولقطاع ثقافيّ على قطاع، إذ الإبداع ماثل هُنا وهناك لا تفريق ولا تمييز.

إلاّ أنّ الكتاب يظلّ مقياس رفعة الثقافة في بلد مّا أو انحطاطها، لأنّه أساس التثقيف الأوّل، وليس بإمكان قطاع ثقافيّ أن يستغني عن ثقافة الكتاب.

لذا يستدعي واقع القراءة في تونس اليوم التوجّه بالدعم إلى القارئ أوّلا ثمّ الكاتب والناشر، ولا تمييز بينهما ضمن برنامج «القراءة للجميع»، مع وجوب تشجيع الكتابات والإبداعات الشبابيّة الجيّدة يليها الجيّد من سائر الأعمال.

لذا فلا جدوى من الدعم اللاّمشروط الّذي يُساوي بين الجيّد والرديء، وكذا الشأن بالنسبة إلى الإبداع في مختلف الفنون، إذ القصد الأوّل والأخير هو تحقيق الانتقال النوعيّ من ثقافة التكرار والاتّباع والتقوقُع  في الداخل إلى ثقافة الإبداع والإشعاع.            

spot_imgspot_img