spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

حوار مع الحمائم البيض «تسمح السلطة للثقافة أن تعمّ حين تحتاجها وتغلق عليها حين تنتفي منها حاجتها».

أجرى الحوار سعدية بن سالم

  قليل منّا من تساءل عنهم فرادى، ما كان يعنينا ونحن نتابع عروضهم إلاّ أنهم «الحمائم البيض»، ما كانوا جمعا، أو هكذا شُبّه لنا، كانوا في وجداننا مفردا متنوّعا، وحين التقينا»هم» في هذا الحوار، كانوا أيضا مفردا- جمعا.. ظاهرة قد لا تتكرر كثيرا، استمرّت وتستمرّ منذ خمس أو ستّ وثلاثين سنة وتعد بالاستمرار ونطلبه لها ومنها، هم أربعة وخامستهم الموسيقى وسادسهم الحلم وسابعتهم الحريّة، هم عمار القاسمي، محاورنا الأساسي، وزكرياء وإلياس وحشّاد، هم أربعة في واحد، إذا تحدّث أحدهم فقد عبّر عن فكر الجميع وضمائرهم،  وبدأ الحوار بخطأ في التوصيف إذ ذكرنا لفظ فرقة في التّعبير عن المجموعة، فكان التصحيح وكان الحوار:   

– نحن لسنا فرقة ففي الفرقة فُرقة وفراق وتفرقة وفي الفرقة صرامة العسكري وما نحن كذلك، نحن مجموعة بما في المجموعة من جمع والتقاء وترابط، نحن مجموعة بما في المجموعة من تلاحم وتآزر وتوزيع للأدوار وغياب لمركزية القرار والفعل، نحن جسد واحد كلّ يقوم بوظيفته لما فيه خير الجسد ونجاعته، ونحن لا  نغنّي ففي الغناء انضباط وتكرار لا يمكن أن نعيشه. فما نقوم به ليس غناء على ما تعارف الناس الغناء وإنما هو أداء حالةٍ محكومة بالزمان والمكان والسياق وطبيعة الجمهور الحاضر، غايتنا أن نعقد ميثاق حياة ونعيش حالة إبداع جماعيّ، لذلك فالقضية ليست العرض في ذاته وإنّما القضية ماذا نعرض، نحن لا نؤلف أغانيَ ولا نردّدها إنما نشارك المتلقي في حياةِ، لذلك لا نكرّر ما نقدّم مرّتين فلكل إنجاز خصوصيّة باعتبار السّياق الذي خُلقت فيه، الزمان والمكان والسياقات الحافّة تغيّر العرض وتمنحه روحا خاصّة به. ولا يعنينا أن يكون عملنا أمام جمهور قليل العدد، فالأهمّ من العدد هو في تفاعل الحضور مع ما يسمعون وفي تمكّننا من تغيير شيء ما في وجدان الحضور، في تمكّننا من غرس بذرة وبناء ذرّة، في تمكّننا من حملهم على المبادرة والاكتشاف أيّا كان مقدار هذا الاكتشاف. إنّا نعزف لنستمتع ونُمتع ونفتح أفقا للتغيير والاكتشاف وهذا التغيير وذاك الاكتشاف هو جزء من العرض فليس أمامنا إلاّ أن نتجدّد كلّ مرّة وفي هذا الإطار يدخل اعتناؤنا بإشراك الأطفال الصغار في العرض حيث نمنحهم فرصة المشاركة حين يصعدون إلى الرّكح ويدقون على الآلات التي نوفرها لهم ويشعروا بفاعليتهم في المجموعة فيُبذر داخلهم حلم. وكم من طفل غدا موسيقيّا مشهورا كانت بدايته بالمرور من الحمائم البيض. نعزف لنحيا ونتفاعل.. كل من مرّ بالحمائم ترك أثرا وحمل الحمائم معه ليخلق تجربة جديدة.

*هل معنى ذلك أنّ وظيفة الفنّان أن يبثّ الوعي ويغيّر الواقع؟

– لا، ليس بهذا الشّكل وليست وظيفتنا فنحن لا نعزف لنكيّف وعيا ونغير عالما، نحن نعزف لنحيا ولنعبّر عن حرّيتنا، نفتح كوّة على الحياة لذلك فنحن لا نعتمد الكلمة بالدّرجة الأولى، نعم نختار كلماتنا ولكنها ليستْ الهدفَ في ذاته، بل نحن لا نتقيّد بكلمات الأغنية ذاتها في عرضين مختلفين، نحن نعبّر عن الحريّة ولا يمكن أن نطوّع الوعي لقوالب معينة والحال أنّنا نتمرّد على القوالب، وهو تمرّد يدرك في طريقة عرضنا وفي الموسيقى التي نعزفها، فلا أحد من الموسيقيين، غير الذين مروا بالحمائم، يمكن أن يعزف ضمن مجموعة الحمائم البيض ولا أحد من مجموعتنا يمكنه أن يعزف مع  الموسيقيين «العاديين» فتقنيا نحن نعزف موسيقانا التي تختلف في «نوتاتها» عن الموسيقى العادية ولذلك لا تجد لنا علاقات متينة مع الموسيقيين على خلاف علاقتنا بالمسرحيين مثلا.

* أليس من المنطقي أن تكونوا أقرب إلى الوسط الموسيقي منكم إلى الوسط المسرحي؟ فلماذا هذا العدول عن المفترض إلى واقع آخر؟

– من حيث نمط الموسيقى نحن نعزف موسيقى مختلفة ولا تخضع إلى مقاييس الموسيقيين، رغم تكويننا الموسيقي العالي، وربما مكّننا ذلك التكوين من التصرّف في الموسيقى بأكثر حريّة، علاقتنا بالمسرحيين والسينمائيين أمتن، منذ بدئها كانت أمتن، فحين ضاقت بنا سلطة الإشراف وأغلقت الأبواب أمامنا ولم نجد مكانا نتدرّب فيه، فتح لنا المسرحيون فضاءاتهم لنتدرّب، فتحها «عز الدين قنون» حين أهدانا مفتاح الحمراء ولم يكن فضاء الحمراء قد اكتمل بناؤه بعد وكنّا نتدرّب وسط الرّكام رغم أنّنا لا نعرض، ولكنّنا نتدرّب دون انقطاع. وكنّا نعيش مع المسرحيين أعمالهم ونحضر تدريباتهم قبل أن نضع الموسيقى المناسبة، نحن نتشارك مع المسرحيين والسينمائيّين إحساسهم وانفعالاتهم وحلمهم وحين نضع الموسيقى تكون هي الموسيقى الوحيدة المناسبة. وضعنا بين عشرين وثلاثين قطعة موسيقيّة لمسرحيات. عملنا مع أسماء مميّزة في تاريخ المسرح والسينما في تونس مثل عز الدين قنون ورضا بوقديدة ومحمد الزّرن وغيرهم، ولم يكن هاجسنا الرّبح المادي فكلنا موظّف (مربّ) وناجح في عمله وليس الربح المادي هدفه لذلك كثيرا ما عملنا دون مقابل أو بمقابل رمزيّ، ولأنّنا لا نبيع بضاعة فإنّنا لا نقدّم إلاّ ما يناسب العرض فإذا لم يستوجب المنتج المسرحي موسيقى، عزفنا أن نفعل وهو ما حدث مع إحدى المسرحيات التي اكتفينا فيها بوقع نعل في حالات مختلفة وكانت تلك الموسيقى الوحيدة المصاحبة للعمل.

*ألا يفسّر وضعكم المادي المريح حريتكم في اختيار عروضكم وعدم اللهث وراء وزارة الثقافة مثلا؟

– نعم، وضعنا المادي مريح ونحن لا نسعى إلى الرّبح المادي، لأنّا مكتفون وما نقوم به من موسيقى هو للمتعة وللحريّة، نحن منظمون على مستوى التسيير ولا أحد من المجموعة غير إلياس على دراية بوضعنا المادي مثلا، فنحن، بقية المجموعة، لسنا على علم بما نملك وما لا نملك لأنّ المسألة المالية من اختصاص إلياس شأن المسألة التقنية التي من مهام حشّاد. وهذا الوضع يجعلنا في وضع أفضل من غيرنا الذي يتكسّب من الفنّ وليس له مورد آخر غيره.    

*الحمائم والسلطة، أيّة علاقة؟

– السلطة تملك الفضاءات وتملك مقاليد الثقافة وهي من تفتح إمكان العروض وتغلقها. وإذا نظرنا في الّرسم البياني لعروضنا منذ خمس وثلاثين سنة من النشاط نجد أنّها بلغت 500 عرض وهو عدد قليل مقارنة بغيرنا وبالزمن الذي قضيناه إلى حدّ الآن، ولكنّا ما كنّا نعمل لنسترزق.. فتمرّ علينا سنوات دون عروض دون أن يعني ذلك أن نتوقف عن التدريب. وقد مرّت عروضنا بمدّ وجزر في مستوى عددها والأمر راجع إلى سياسات الدولة، فهي تغلق باب الثقافة والعروض إذا انتفت حاجتها إلى توظيف الثقافة محليا أو دوليّا وتطلق يدها فتفح دور العرض وترخص في الأنشطة إذا أقبلت على انتخابات مثلا أو استضافت مؤتمرات دوليّة، لذلك حاصرتنا السّلطة بعد أحداث الخبز نتيجة للمناخ السياسي السّائد وأطلقت سراح نشاطنا نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ثمّ عادت وأوصدت الأبواب بعد انتخابات 1994، وهكذا، تسمح السلطة للثقافة أن تعمّ حين تحتاجها وتغلق عليها حين تنتفي منها حاجتها.

*اليوم بعد 14 جانفي، كيف ترون استراتيجيات الثقافة؟ هل هي مسؤولية السلطة أم مسؤولية فاعل ثقافيّ آخر؟

– السلطة اليوم لا قدرة لها ولا رؤية لإرساء تصور ثقافيّ  وإن شاءت، السلطة تسيّر الشأن المؤسّساتي ولكن لا مشروع لها، ونرى أنّ المسألة الثقافية اليوم مسؤوليّة ثلاثيّ من المفترض أن يأخذ على عاتقه وضع مشروع (أو مشاريع) ثقافيّ وطنيّ بديل عن السّائد في طبيعة طرحه وطبيعة مكوناته، هذا الثالوث هو الاتحاد العام التونسي للشغل، والجبهة الشعبيّة والاتحاد العام لطلبة تونس. فأمّا الاتّحاد فقد كانت لي (عمار القاسمي)، تجربة معه في بعث مهرجان الإبداع  الثقافي للاتحاد العام التونسي للشغل وتصور برامج وتكوين مبرمجين ولكنّ ما حدث بعد ذلك من سوء إدارة وتصرّف وقفز أشخاص لا صلة لهم بالثقافة الإبداع وتكريم وجوه تكرّس الثقافة السائدة لا الثقافة الوطنيّة التي يدافع عنها الاتحاد (أو من المفترض أن يدافع عنها) جعلت التظاهرة تفقد معناها وتفشل في إدراك غاياتها. وأمّا بالنسبة إلى الجبهة الشعبيّة، فلا نجد تصوّرا حقيقيّا للثقافة في الأرضية التي تنطلق منها وتكتفي بترديد بعض الشعارات التي لا امتداد لها على أرض الواقع وتكتفي باستدعاء الثقافي في المهرجانات الخَطابيّة دون تصوّر ودون روح، فقط لتسجيل نشاط، وهذا توجّه لا يمكن أن يرسي ثقافة وطنيّة في البلاد. ولهذا السّبب رفضنا المشاركة على هامش المهرجانات الخَطابية للجبهة الشعبيّة.

أمّا ثالث الثالوث فهو الاتحاد العام لطلبة تونس الذي يحمل مسؤولية نشر الثقافة البديلة بين عموم الطلبة وحمل المسألة الثقافية في الجامعة على عاتقه، وهذا الثالث لا يختلف عن  غيره ولا تعدو المسالة الثقافية في برنامجه تسجيل نشاط لا غير وكثيرا ما نلبّي دعوات الاتحاد العام لطلبة تونس دون مقابل ونُفاجأ بالمنظّمين للحفل في ذاك الفرع من الجامعة لم يكلفوا أنفسهم مشقة الإعلان عن العرض لجلب الطّلبة وأستثني من ذلك فرع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة «فلوجة الجامعة التونسيّة» الذين هم على درجة كبيرة من التنظيم ويعرفون ما يفعلون.

وعليه فالمسألة الثقافية تبدو غائبة تماما عن برامج الجميع، وإذا أردنا تحديد المسؤوليات فهي مسؤولية الثالوث سالف الذكر وعليهم أن يغيروا من رؤيتهم وتصوراتهم وخططهم ويتحمّلوا مسؤولياتهم التاريخيّة.

ولسائل أن يسأل، أين المجتمع المدني؟ وأيّ دور له؟ وفي الحقيقة، لا وجود لمجتمع مدنيّ حقيقيّ في الفعل الثقافي، وليس هذا إحباطا وإنما توصيف للواقع لا غير بحثا عن حلول مناسبة للوضع الراهن المتّسم بالانقسام والتناحر وتدمير الذات في غياب هدف جماعيّ تدافع عنه القوى الوطنية وتضع له الخطط لتحقيقه بصدق ومحبّة وثقة. وهو ما ذكره أولاد أحمد في قصيدة غير منشورة توصّف واقع التشظّي وغياب الهدف المشترك.

*ما الحلول الكفيلة بتغيير الواقع الثقافي الرّاهن نحو الأفضل؟

– الحلول موجودة، قدرنا أن نكون على ما نحن عليه وقدرنا أن نواصل على هذا الخط وقدرنا أن ننجح، إن لم ننجح اليوم سننجح غدا أو بعد غد، لأننا في المستقبل سنجد شبابا ينتجون مسرحا جيّدا مثل غازي الزغباني ويديرون فضاءات جيّدة مثل صالح حمودة.

*هل ترى أنّ التاريخ أنصف الحمائم البيض؟

– أنتج عن الحمائم البيض شريطين وثائقيين، وقد شاهدت (عمار القاسمي)، شريط رفيق عمراني عن الحمائم البيض، وشخصية في رواية، وشخصية في شريط سينمائي، ويحدّثك أحدهم من أمريكا اللاتينية ليستأذن في استغلال موسيقاك في برنامج موكّلته، حين تلصق بك امرأة مثل «كورين كومار» تهمة الحكمة، عندما يتسبب لك فلان الفلاني في ثلاثة أيام في بوشوشة لأنّك أقلقت راحته، عندما يرفض طرف سياسيّ أن يحضر في مناسبة عندما يعلم بوجودك فيها.. عندما يحدث كل هذا في حياتك فهو الدليل على النجاح ومبعث للفخر. وستجد زوجاتنا ما تحكيه لأحفادهنّ عن جدودهم لاحقا. لقد حققنا إنسانيّتنا.

spot_imgspot_img