« لم يُقدِّم العلماء الذين ملأوا بلاط السلاطين والولاة خلال القرون الماضية أي مراجعات نقدية للتراث وتلفيقات الرواة بما يتناسب مع خلفياتهم السياسية، إلى أن جاء مفكروا الحداثة العرب في الربع الأخير من القرن العشرين، وقاموا بنقد التراث مستخدمين مناهج التحليل العلمي التي لا يفهمها العامة، فلم يتمكنوا من الوصول إلى الشارع الديني الذي يملك مشايخ النقل منابره، فظلوا أسرى التراث في دعوتهم للحداثة، كما حصل مع حسن حنفي، ومحمد عمارة، وحسين مروة، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد…
بمعنى أنهم أرادوا تحديث التراث وليس التخلي عنه، تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل -نبيل صالح-
في هذا المشروع حاورنا أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية عمر بن بوجليدة الذي يمثل مصدرا مهما في المواضيع التي تطرحها الفلسفة من عدة زوايا وخاصة في ما يتعلق بعلاقة الفلسفة بالسلطة والمجتمع وعلاقة الفلسفة بالفضاء العام بتعريفاته المتعددة والمتنوعة في واقع يتصف بالعنف ونمو الجمود الفكري وأزدهار فلسفة القوة.
الأستاذ عمر بن بوجليدة له عديد المقالات المحكمة نشرت في أهم الدوريات كما شارك في عديد الندوات المهتمة بسؤال الفلسفة.
صدر له :
*الحداثة واستبعاد الأخر.
*العرب ومسألة التنوير كيف الخروج من عصر تجميد الطاعة.
*في تأويل الكتاب «الخطاب الديني بين رهانات المعنى وإرادة القوة.
* تأويل العقل «رمزية الشر وممكنات مواجهة العنف.
لقيمته المعرفية في الجامعة التونسية وهو يعتبر أحد ملامحها الحيوية المشعة وخاصة في الفضاء العام.
سألناه عديد الأسئلة حتى نسدعيه ليرسم للقراء لوحة تشكيلية بألوان الفلسفة. فكان هذا الحوار
– أبو جرير-
*يقول رولان بارط لا نقول شكرا لمن نحب، لكن نقول : جريدة الشعب في ملحقها الثقافي ترحب بكم أستاذ عمر.
«من الأولى عدم الحديث عن الذات»، بهذه العبارة استهلّ «بول ناتورب» الحديث عن ذاته، وإني لأمل أن يكون من اللائق بي، أن أحيّي فضائل هذا الرجل، الذي عرف ما يجب الصمت عنه (كما ألمع غادامير). ولأن هذه «المفارقات الإحراجية» التي أجد «نفسي» أمامها لا تزال تستفز أحلامي، فلا تسألوني من أكون ( وفق عبارة حادّة لفوكو ) ولا تطلبوا مني أن أبقى كما أنا ؟ يريد «الآخرون» أن يؤطروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس المساحات. – والاستعصاء على التصنيف، يثير حنق القارئ الكسول و الآخرين – فهل تفهم مثل هذه «الغمغمة» وخطورة أن تطأ أرضا تهتزّ ؟ وويل لمن انفطم عن القصص والحكايا والسرود، وأغفل متاهات القول ورواعب المعنى، وصمت مذهولا: اتقاء تعدد التأويل
فحينما يدّعي المرء أنه ضد «العظماء» أو أنه «مؤيد» لهم، فإنما يستسخف نفسه، فليست هذه هي الطريقة للتعاطي مع نمط التفكير هذا. وبعيدذاك يقال إنه بعد «موت الإله» يأتي «موت الإنسان»، يا له من بذخ تأملي، يخفي بشكل سيء اللامبالاة تجاه الإنساني. وقد يستغوينا القول فتتم حماية الإدراك العام بعنف فريد، وجعله محاطا بأسوار وتثبيته بصرامة: لحظتذاك تبقى كل لا مألوفية عزلاء. فانتبهوا إلى الأثر والإيقاع. ولا يخفيّن عليك أن «السلف»، هم الذين مضوا، فلا تأمننّ لهم، وإيّاك والذين تعلقوا بهم: لا تتهاوننّ في فضح جهالاتهم وأضاليلهم.
وما تلك إلا محاولات لتجنب الثقافة الأحادية و»الصراطية»، في قراءة ما لم نعهده بعد، انتقالا من الحيز الضيق لما «ألفناه»، إلى فضاءات أوسع، وما يستحيل معرفة سرّه، فهو الذي يمارس علينا غوايته فيغوينا ويؤكد حضوره فينا، افتتانا به، فيفتننا فتونا، ولعل رغبتي حارة في استعادة سؤال «عنترة»: هل غادر «الشعراء» من متردم؟ إذ تحتوي هذه اللألاء وهجا نورانيا في عمقها الدفين شيئا ذا طابع عتيق. أنا الآن كنت أجيب بتؤدة على سؤالك وأتفاعل مع تحية «الشعب».
*يقال أن الفلسفة مهمة غريبة وشاقة بمجرد أنها نشاطا ذهنيا متمايزا لفئة من الأشخاص، نسألك ما هي ملامح وحدود ووظيفة الفلسفة؟
أنت تسأل يا صديقي وكأنك لا تعرف أن لا «جواب»، نهائي يقيني قطعي، فلو كان هناك، لما كانت هي، ما نحن بصدده، وهأنتذا تكتشف أن «محاولاتنا» أيضا واحدة من تلك. إذ الفلسفة بالنسبة «للمتعلم» تنتمي خاصة إلى «نخب» من الماضي وليست لها أي أهمية في «أقوالهم» حول حياتهم والراهن و«المايحدث». وتلك «صعوبة» تترجم في كثير من الأحيان بشكل من «المقاومة» من طرف «المتعلمين»، وهو ما يتوقف على مواجهة الأسئلة «الصعبة». ولقد أدرك النُّظار أن السؤال الذي يطرح من فوره: كيف يمكن لـ»لمتعلمين» الوصول إلى «المعنى» ؟ ويذهب ذاهبون إلى أن التعرف على معنى هذه الأسئلة يقتضي بالضرورة عيشها. يحدث هذا في فضاءات «الإنسانية الغربية»، أما عندنا فـتحول «المماحكة» و«العناد» و«التشويش» والتلبيس وما ألفناه من «أشكال التديّن» و«التكفير»، دون بيداغوجيا «المشاركة» و«التفهيم» و«البيان». فالغرض عندنا ليس «بناء معرفة»، بل إظهار عجز الخصم وإفحامه عن بناء معرفة «نسبية»، «علمية».
وأنت لا يعسر عليك إذا فهمت هذا، فهم خلل الحجج التي احتج بها من «نصّب» نفسه ضد مسارات «التحرر»، «العقلنة»، «الدمقرطة» و«التحديث». وهكذا يكون من الضروري اقدار نصوصـ»نا»، على أن تتكلم لغة العالمين، وأن يكون لنا موطأ قدم في منجز شارك فيه الأرضيين كافة.
ولئلا تمحي التطلّعات التي من شأنها أن تؤكد على كرامة وحرية الأرضيين كافة، بغض النظر عن ردّي الفعل المتطابقين من ضيّقي الأفق والحمقى – فتلك صناعة قائمة، تستخدم فيها المصطلحات باستخفاف وانتقاص وإساءة استعمال للتهديد والخداع – يستوجب الأمر، سبر غور التخلخل المعرفي للدلالات، آنذاك لن تستمر «الثنائيات الميتافيزيقية» ( هم / نحن – غرب / شرق ) في تعزّيز الأوهام السائدة. وسترتسم يسيرا يسيرا إمكانات بشرية جديدة، في ارتكازاتها الاقتصادية وتطلّعاتها السياسية تتخطّى بشاعة العنف و الغباء الفاحش.
فما يسترعي الانتباه هو أن معظم «مفكرينا» وأغلب «فلاسفتنا»، لا ينزلون «الأدب» والمعلقات والمقامات والليالي والروايات والصور الخيالية بعامة، المنزلة نفسها التي ينزلونها «الصور المنطقية» ( العقل المضيق ). إذ لا يستهويهم إلا ما يعتقدون أنه الجانب «العقلاني» / المتحجر، ولا يخطر ببالهم أن «المعقولية» يمكن أن تمتد إلى حقول أخرى، خارج حقل «البرهان المنطقي». وعليه فالتلازم بين التعريف والتشبيه والتدليل والتخييل ضروري، وفك هذا التواشج يحرمنا من تجربة تنفرد بشفافية عذبة، وإضاءات عقلانية نقدية تفهمية. فمن يتسلح بالعقلانية النقدية في رهافتها وجذريتها، لا يخضع للنصوص وسلطتها، بل يجعل النصوص فضاءات لتعميق الآراء ومساحات لإعادة النظر في المواقف، وفقا لـ»النوازل» و«المستجدات» و«الراهن» و«المايحدث»، ولننظر في هذه الجملة الرهيبة لـ«كانغيلام» «عساهم يقدرون عليه».
*ما هي علاقة الفلسفة بالسياسة: هل هي علاقة تحالف أم تخالف وتفاعل ؟
إن علينا أن نلاحظ أن «مكيافللي»، ومن معه، هم الذين قطعوا مع اللغة اللاهوتية الوسيطة، تأسيسا لانطولوجيا سياسية عمادها الاقتدار، فالإنسانية فكرة تنشأ وتعدل سلوكياتنا نحو ما نعتقده الحياة المثلى، وهو ما يعني أن القيمة ليست معطاة بل إنما هي مكتسبة (را، شتراوس). هكذا فـ«مكيافللي» رفض انطولوجيا التعالي تأكيدا لانطولوجيا المحايثة، وليس أظهر لهذا من اشتراطه على صاحب السيادة أن يدرك في الاستراتيجيا ما لا يدركه غيره، وأن يعرف عن الأنفس والذوات ما لا يعرفه إلا هو، وذلك لتملّك الوسائل التي معها السلطة تدوم.
وما لا يمكن أن تخطئه عين المتأمل الحصيف (عند«نا») هو أن الآداب السلطانية استمرت، رافد سري، نعثر عليه طي المتون والهوامش، كنمط من الكتابة فصلت الكلام وأفاضت القول في التبرير السياسي المواكب لتحولات الدولة السلطانية، وحتى يكون الأمر مستبينا نذهب إلى أنها قد بلورت خلال تاريخها الخاص نظاما من القول الأيديولوجي غايته استيعاب الشكل السلطاني في الأداء السياسي، والدفاع عن استمراره، يحرسون الدين ويسوسون الدنيا. أما تجليات هذا النظام فنستجيز لأنفسنا إيجازها فيما استحصلناه منها، حيث يكون الملك مقدس، وبالتالي فالطاعة في ارتباط وثيق بما هو ديني.
في هذا المستوى بالذات يتراءى لنا استمرارية الخطاب السلطاني في الأزمنة الحديثة. ولقد نجد علامة عليه، حضور المفاهيم السياسية السلطانية وحضور الطقوس السياسية المصاحبة لهذه المفاهيم في أكثر من مظهر خطابي. وقد نستطيع أن نوجز هذا كله فنوضح أن الاستمرارية إنما ترتبط بطبيعة السلطة السائدة نفسها. وما لا يبعث على الاطمئنان والرضا بل يؤكد الشك والقلق والاضطراب أنه ما دامت أنظمة الحكم تستمد شرعيتها من قوة القهر فإنها تلجأ بالضرورة إلى سقف الآداب تحتمي به ويكون لها ملاذا.
ولا يخفين على الأذهان أن من شأن هذا أن يلزم بالانتباه إلى الوظيفة التبريرية، وإضفاء الشرعية على الدولة السلطانية. وليس ما يحتاج إليه بيان أنه الحكم الذي بحث في نصوص العقيدة عما يتلاءم مع تاريخ للقهر يكون منبئا على ما به يصبح دالا على انصراف إلى قادم من التاريخ. ذلك أنه علينا أن نحترس من أن لا ننهم بالآداب السلطانية من جهة ما هي طروحات نظرية هي بالمحصلة انعكاس وجيه لرؤى متدافعة لمجال السياسي في فترات تاريخية متعددة ومتواصلة. وإذ قد تبين هذا، فينبغي أن تناط العناية من جديد بالآداب السلطانية ذات الجذور المكينة والأصول المتينة بثقافة سياسية تنشئها المؤسسة السلطانية، كما أنه يمكن إزاحة النقاب على أنها تتبناها لخدمة مشروعها السياسي. إنها قرائن تفصح عن أشياء لم يمط اللثام عنها، وليست الصعوبة في الوقوف عليها، بل إنما الصعوبة تكون في محو آثارها فقد أفسدت علاقات الناس بأجسادهم وبأنفسهم، وتلك ظاهرة مؤلمة حزينة. فقد كانت سلطة ملوك طغاة. إن ما نشهده ونحن نَنهمُ باستتباعات ما كان قد طرأ من تأرجح بين «الرقي» و«الانحدار»، إنما هو في جرأة «السلطة» – وهو مدار القول والإشكال الأكبر – على توظيف ما ينتجه «الشيخ» و«الفقيه» من معنى وقد سارع «الفقيه» لإنقاذ «سلاطين» الإمبراطورية الإسلامية «المحاصرون»، الذين يدركون افتقارهم للشرعية، بل قل «استخدموا» كل «فقه» للدفاع والتبرير لحكمهم غير الشرعي. أما الاستثناءات فتلك إحدى أروع مظاهر الإرادة التي لا تقهر.
إلا أن أحد أهمّ أبرز «الخاسرين»- من الصراع المحتدم بين «الفقيه» و«السلطان»-، دوما إنما هو «الشعب»، الذي أضاع في كل مرة مفاهيم ومبادئ «المواطنة» و«المؤسسات»، التي من شأنها أن تكشف عن «النضج» السياسي، وبالتالي صيانة «السياسي» من الآثار الراسخة للإرث الديني اللاهوتي الاستبدادي. وعليه نفهم أنه في اشتغالنا على «ماضينا» وتعاطينا مع تاريخنا لم نستطع أن نوظف مكتسبات علوم الإنسان لندرك أنه: مع «الإمبراطورية» انتهى نهائيا تأسيس الممارسة السياسية على قاعدة الإبداعية الرمزية أو الدينية، عندئذ حصلت عملية معاكسة لتجربة «النبوة»، فقد أنحسم الأمر بأن تم استخدام الرأسمال الرمزي القرآني. من أجل تشكيل وفرض إسلام رسمي. فكيف لنا أن نعيد قراءة السيرة النبوية ( سيرة ابن اسحاق / تهذيب ابن هشام – سيرة الواقدي التي استرجعها ابن سعد ومغازيه- الطبقات لابن سعد – أنساب الأشراف للبلاذري، و لك أن تشير إلى الطبري أيضا )، قراءة نقدية تاريخية، على ضوء مكتسبات ومنجزات العلوم الإنسانية. وأهمية استقراء تلك «المصادر»، أي نزع أرديئة التقديس عن النواة الصلبة للإيمان في مرة أولى. فالحضارة الحديثة بعامة – والعربية الحديثة بخاصة – لم تكن لتكترث بابتداع علاقة مع الأسطورة والرمز والعلامة والجنون واللاعقل والمجاز في تـوليـد المعنى، وبالتالي في توليد كل أنظمة الدلالة التي «يفسر» البشر بوساطتها و«يبررون» سلوكهم. وعليه فلا يمكن إدراك مقتضى الحياة السياسيّة في عصرنا دون التساؤل عن الحدود التي في مستواها ما يزال الدين يشكل عنصراً فاعلاً في تكوين الوعي السياسي والمدني العربي المعاصر
إذ تبدل الواقع التاريخي يستوجب تبدل تأويلاتنا لمقاصد الدين؟
ولنتساءل: هل يوجد تمايز بين الدينيّ والسياسي؟ بين «الرسالة» و»الملك» عند«نا» ؟
ما هي أركان الدولة؟ هل تنهض على ولاء «وطني» عميق وتستند إلى أخلاقية دستورية وقانونية أم هي تعبير عن فكر حالم؟
*لو ترسم لنا خصوصية خريطة العقل الفلسفي العربي في المتون الفلسفية بعيدا عن التدقيق والتحقيق؟
دعني أجبك على مهل، لنصبح قادرين على السخرية من الساسة، ومن أولئك الذين لا يعترفون بأننا نتمزق في التناقض بين ما نريد وما نحن عليه: لأن التراث العربي في وجه من وجوهه جزء من الكون القروسطي، فإن مثقفي القرون الوسطى مع اعتبارهم إيّاه طرفا معاديا – دينا وملّة – يكنّون له الحقد والبغض، لا يسعهم من جهة أخرى إلا الاعتراف بمزاياه، ولنضرب على ذلك مثلا: «دانتي أليغيري»، وضع «ابن سينا» و«ابن رشد» وحتى «الأيوبي»، خارج الجحيم اعترافا بمناقب الأوّلين في الفلسفة والعلوم وبروح الفروسيّة عند الثالث، لأن الفلسفة والفروسية في ذاك الزمان أهم ما يمكن أن يتحلى به الرجال. وليس من شأننا التمجيد والحنينية أو كما لعلّنا نقول اليوم السقوط في سرد احتفالي بالذات. وبالتالي استبان أن «المفكر» يظهر متفاعلا مع مبادئ الإصلاح وقيمه بعامة، تلك التي كانت قد انتشرت في أوساط النخبة والتي اتخذت لها المنهج التدريجي سبيلا. فـ»المفكر / العربي» سليل مخيال جماعي يتلازم فيه الديني بالسياسي والوطني بالشعبي. والذي نما في زمن الدولة الوطنية التحديثية التي رسمت تجربة «الغرب» مثالا لها. فهو يمتح من قاعدة فكرية للتيار الإصلاحي، في مستوى تناوله إشكالات الحداثة وصلاتها بقضايا الهوية والتراث والدين، وارهاصات أولية قادت هذا التوجه العام.
فليس من الصدفة أن يعمد إلى هذا الاهتمام، بل إنما هو يريد بذلك أن يؤكد على أنه يوجد خيط ناظم، لهكذا تناول في «تاريخــ«نا»، بحث في مصادر أنفسنا، فهم كانوا يفكرون داخل المنظومة الفقهية ويتوسلون بآلاتها ومناهجها لإيجاد موازنة بين متطلبات الشريعة ومستجدات الواقع ومقتضيات العيش المشترك. وإن كانوا ينطلقون من مسلمات إيمانية مفادها أن ما عند»نا» صالح وباستمرار، لا يطرأ عليه التاريخ ولا يطاله شك.
ههنا ينتصب السؤال الحاسم صارما: هل يستوفي معنى الذات كونها هوية؟ لقد توضح أن قراءة « المفكر / العربي» لم تكن تأسيس على فراغ أو هي قطع مع ما سبق من قراءات: فما يدعو إليه من نقد وإعمال للعقل، إنما هو متضمن في ثنايا قول كان قد قيل، علاماته السؤال عن ذاتــ«نا» اليوم في أفق الإنسانية؟ ولكنه طمس واستبعد، فأنظر كيف أن نص «المفكر / العربي» يستعيد تلك اللحظات النقدية، ثم انظر كيف أنه يعاود الرجوع إلى مشكلات في ارتباط بواقع مغاير ليكتشف أننا نعيش على رجع صداها
*الحياة تمرين فلسفي ما هي أهم النصوص الفلسفية التونسية المشعة التي تناولت معالم قضايا الوطن والمواطن؟
بعض من أولئك الذين «فكروا»، قاموا بما «يكفي» من متابعة جذرية وغوص في المبادئ والبداهات والمعاني والدلالات، لرفع العتامة والغشاوة وأمعنوا في الإلحاح، لتمكيننا من التفكير معهم وضدهم.
وهكذا فقد أصبح بعض «المثقفـين الشاهقيـن»، جزءا لا يتجزأ من خيالنـا وعقلنـا وذاكرتنـا.
لم يعد هؤلاء المفكّرون بحاجة أن يكونوا معنا «جسديا»، ليعرف المرء ما قد يفكرون به وما قد يقولونه، فلكأنهم يعيشون في أولئك الذين يقرؤونهم، يسكنونهم تحت الجلد، ويفكّرون من خلالهم. إلا أنه ليس بإمكان أي أحد أن تُعتبر أقواله «نصوصا»، فإذا كان الكلام لا يُحصى فإن النصوص كما يقول «فوكو» نادرة إذ تغالبنا المفاجآت ويقهرنا إيقاعها المتتالي في كل مرة، لأننا مصابون بالعمى، إذ نعيش على اعتقاد مفاده أننا نعرف مجتمعاتنا وظواهرها في حين أننا لا نعرفها. لأننا ببساطة، نختزلها في مجموعة من الأنماط والمقولات والمناهج، التي نحاول تطبيقها – فخطابنا نابع ومستقى من خطاباتهم، ومن هنا تأثيرهم علينا – وتلك سرديات – تعمل السلطة بأشكالها وتجلياتها على إرساء دعائمها ودوامها – نتوارثها – «نحن المنكوبين» -، فتتحنط وتضيع الرهانات في الآليات والتقنيات، وينكسر فينا الشك والسؤال. وبين الأسلوب البسيط المنضبط والخالي من «التواءات» اللغة وإغواءاتها، والحساسية الموغلة في حضور «ترنيمات» اللغة المحتجبة، والابتكار والدقة، ما كان قد سماه «باسكال» ذات مرة : «روح الرهافة» وروح الهندسة. وعن هذين الأسلوبين في الفلسفة، تستبين قارّات تاريخية ونصيّة تظهر «جهلا سعيدا».
لقد كابد «الدرس الفلسفي الكثير»، من معارضيه ومن بعض أقوى مؤيديه على السواء، إذ يهمل العلاقة بين المعرفة والسلطة في بناء الخطاب، والتواشج بين القوة والإيديولوجيا في بناء الهيمنة، والترابط بين المجاز والتمثيل في بناء الحقيقة، إلا أن هذا لا يجيز للمتفلسف «العالم بكل شيء»، أن يحتلّ موقع «الكاتب الحكّاء». فلا يمكن للمعنى أن يكون مطلقا، بل هو وضعي على الدوام في مقابل المعتقدات التقليدية يثبات المعنى.
*كثيرا ما ارتبطت الفلسفة وفعل التفلسف بالرجال وهذا تعارف عليه فلاسفة اليونان منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، هل يوجد فكر فلسفي نسوي تونسي؟
سيعجبني – تفاعلا مع سؤالك – أن نذهب منذ البدء، إلى تأكيد مفاده أن الخلاص الفردي غير ممكن، وخلاص «المرأة» مرتبط بخلاص جميع الطبقات المضطهدة، وهكذا فإن عزل قضية «المرأة» المضطهدة عن قضية «الرجل» المضطهد، يجعل من كفاحها كفاحا أحادي البعد، مفتقرا إلى الشمولية الثورية الإنسانية.
ولنا أن نذكر أن آراء المنظّرين الأوائل، ترشح، – وإن بشكل خافت -، بالتأكيد على «فتنة الكلام والغواية»، فقد اعتبروا «فتنة القول»، بوابة مُشرَعة على السحر»، وما استدعاء «شهــرزاد» – التي كانت أقاويلها تسحر الألباب – إذ تروي -، إلاّ استنبات لممكنات من التفكير غير مألوفة، تنهض على «الحكي» و«التشبيه» و«التخييل» تحاول الإصغاء إلى الطابع العجائبي، السحري، الإيماني، المغالي في الغرابة والبالغ الرّهافة. وما أذهلنا جماله، ما حال بين «العالمين» وبين «الليالي»، وشوش الذهن وولّد شكّا فظيعا، ونحن في غَفلة عن تلك الطريقة الباهرة في «القص».
فالإنصات إلى المعنى وقد اندس في صميم «نص الحياة»، سجل انفجارا كلّيا لطاقة التوحش العنيفة والقطائع كافّة، ينادي الكون نداء خَفيا، ينفض أثقال تراث فلسفي «ذكوري»، وقد طفح في كل مرة بنوع من الافتتان بـ«الاستهلاكي» والتقني. كاد يتحوّل إلى احتفاء، وقد أفلح في التوجه نحو «البرهنة» و«التعريف» و«التدليل»دون سواها، انتصارا على ما عداها، وما أنبأ عنه «استبداد النصوص»، ألا إن حكاية الحكايات، كانت ذات مرة أساسية، بين العزم الذي هو كينونة البداية والتردّد الذي هو كينونة الاستئناف والإعادة.
ثم أليست «هاجر» هي من منح الإله اسما هو «الرئي/ إله الرؤية»: أنت سمعتني وأنا أراك ( أنت أسبغت على ابني اسم سمعك – إسماعيل : الله يسمع – وأنا هاجر أسبغ عليك اسم رؤيتي)؟ ليرفع «سبينوزا» من شأن «هاجر»، فاعتبرها: نبيّة، تخطيا لكل شطب ونسيان من ثنايا الذاكرة التوحيديّة، ولتحدث داخلها تمزّقا لا سبيل إلى درئه. وستبقى صورة «هاجر» حاضرة في التراث التفسيري والتيولوجي اليهودي والمسيحي، ولكنها ستظلّ في الغالب ملاحقة بالرفض والاحتقار. وبالرغم من أن ما فعلته البطريركية ليس لطيفا، نستفيض في الموضوع فنقول أن العالم القديم برمته – ومازال – يهمش الموقع الحقاني الأنثوي في مؤسسته ويقصيها من هيئات السلطة العامة، ولقد ظلّت الغريبة غريبة بفعل المركزية الذكورية. ورغم الضبابية فإن إسهامات «كولونتاي» و«تسيلا آزنشتاين» و«باربرا مارشل»، أظهرت بأن الرأسمالية والبطريركية متضافرتان، وصولا إلى«إيريغاري»،«هتشيون»، «مويرا كاتنز»، و»باتلر»…
غير أن تحليلنا خول لنا الالتفات إلى الأساسيات المبنية على عقلانية دينية، تؤسس للقمع لا للاختلاف من منظور فكرة الخطيئة. وبالتالي أهمية بعض الأسئلة التي يمكن أن تكون كشفا للأسباب التي تكمن وراء تآلف وتحالف، الكل، ضد المرأة ؟ فحتى الأسطورة، مثلت شاهدا أدبيا وفنيا وايديولوجيا منحازا لثقافة ذكورية. وبالتالي فالفارق بين تشكيل الأنوثة والذكورة هو فارق ايديولوجي ثقافي تاريخي.
فليست «حواء» مذنبة، ولم تعقد حلفا مع الشيطان، بل كان خروج «آدم» من الجوار الإلهي لأنه قبل الأمانة، وإن تعجل ونسي وافتقد العزم أمام ذلك المجاز، وكان إبراهيم، وكل يواجه المجاز والمطلق وخفاياه، حيث أبعدت «حوّاء» عن المشهد في تلك السردية الكبرى، أو أنها برّئت من جرم كانت قد أدينت به في «التوراة» وجعل منها وسيطا لارتكاب «الخطيئة»، وهو ما استهلّ به خط سردي جديد، لقص الأحداث الدينية المؤسسة. فخلال السّرد يعمد القصص القرآني إلى التقاط ما تناثر من المأثور الأسطوري، ليعيد بناءه على قاعدة المجاز.
*هل توجد فلسفة ساخرة؟
يصلح الضحك والسخرية لإدخال البلبلة على السفلاء، وعلى عقول الآثمين ولإظهار غباوتهم. ولا يكون ذلك كذلك، إلا لحظة تنزاح تلك العقبة النفسية أمام ما كنا نعتقده غير ملزم، فنحن لم نتعود الخوض فيه، لأنه مهمش ومقصي. فـ«الأدب الرفيع» و«الأدب العالي» (دوستوفسكي، بروست، كافكا…) هو المسيطر والمهيمن. والكتابة ليست مجرد نقل للكلام بل تعمل ضد الكلام إنها الابتسامة المقلقة النقدية الماكرة. ولقد سأل سائل: هل يضحك الأنبياء؟ ربّما كان بوسعهم أن يفعلوا ذلك، ولكن لم يثبت أحد أنهم فعلوا. وهذا ما يظهر أن الضحك أقرب ما يكون إلى الموت، إلى فساد الجسم. ولمعترض أن يعترض: ولكن ألم يخصص «أرسطو»، كتابا كاملا للضحك، لم يعثر عليه؟ هذا «العراك» حول السخرية، إنما يؤكد ضمنيات: من سخروا لم يعملوا صالحا» (السخرية: سلوك وثني، بلاهة وشر)، وأن السخرية دواء نافع لمداواة الكآبة (السخرية: ليست تتعارض مع الإيمان). ولقد ندرك أنه بالسخرية يكون التطهر من الأهواء، بما أن الإنسان ينفرد من دون جميع الحيوانات بقدرته على الضحك. وعليه تنشأ السخرية في الأحداث من تمثيل الأفضل بالأسوأ والعكس، ومن المفاجأة بالخدعة ومن المستحيل ومن خرق نواميس الطبيعة، ومن اختيار الأشياء الأقل وقارا.
ثم أن المضحك في التعبير ينشأ من اللَبْس بين كلمات متشابهة، تدل على أشياء مختلفة أو مختلفة تدل على أشياء متشابهة، ومن الهذيان والتكرار. وما يمكن أن يدل على أثر ذلك أكثر. فالملهاة، عادة ما تنشأ في شكل حفل لعوب، تتحدث عن أناس بسطاء وسخفاء ولكن غير أشرار، تثير الضحك بإظهار عيوب ونقائص أناس العامة. هنا يرى «أرسطو» أن الاستعداد للضحك قوة ايجابية يمكن أن يكون لها أيضا قيمة معرفية، من أحاج فطنة واستعارات غير منتظرة، ومع أنها تبرز لنا الأشياء مختلفة، عما هي في الواقع، كما لو كانت تكذب، فهي تجبرنا فعلا على النظر إليها أحسن. فالضحك دوره يُرفع إلى مستوى الفن ها هنا، ما دام الضحك يحرر العامي من الخوف من «الشيطان» (انتصارا للإله)، ومن «السلطة»( موالاة للحاكم). فعندما يضحك «السوقي»/ المهمش والمقصي، والخمر يقرقر في حلقه، «يحس نفسه سيدا»، لأنه قلب علاقات «السيادة».
وقد استبان أن «القانون»، يفرض من خلال «الخوف»، فهو يضحك انتصارا على «الطقوس الدينية» وكل «سلطة»، ( ويفرض الأغبياء القانون ). يا له من تواطأ، ويا لها من «سلطة علمية» ضالة. إنه يجب دك رصانة الخصم، بالسخرية والضحك، وجعل الضحك منافسا للجّد.
ولحطتذاك يفهم ما ذهب إليه «أمبرتو إيكو»، من أنه لو رفع «فن الضحك»، إلى مكانة «سلاح ذكي»، لو عوضت خطابة الإقناع بخطابة السخرية، لو عوضت الحجة المتأنية بالحجة المتلهفة، لأنقلب كل شيء: الصور «المقدسة» والجليلة، وآوانذاك، أنت وكل «معرفـــ«تك»، ستكونان من المهزومين. فـ«الطبيب» قد يشفي مريضا بمساعدته إياه على الضحك: فلنتـــعلـم كيف نضحك من المآسي، وعليه ينكشف أن «الشيطان»، إنما هو صلف الفكر، أي هو الإيمان دون ابتسام، الحقيقة التي لا يعتريها الشك، و«سيبتلعكم الجحيم كلكم أيها الجبناء»، فـ«الدجّال» يمكن أن يولد حتى من التقوى من فرط محبة الله أو الحقيقة.
وهكذا أدركنا أننا، نخشى السخرية والضحك، لأنه ربما يعلمنا كيف «نتمرد» على كل «حقيقة»، حتى لا نصبح عبيدا لأوهامنا، وربما كان واجب من يريد الخير للبشرية هو أن يجعلها تسخر وتضحك من الحقيقة، فكيف لا تكون الفلسفة ساخرة؟
*يعد مصطلح الأزمة الأكثر تداولا واستخداما وانتشارا في جميع مناحي هل طالت الأزمة الفكر والعقل العربي والتونسي خاصة: كيف ذلك؟
ذكّرني هذا السؤال اللطيف، في «خشونة»، بـ«الوضع السوريالي» بمحاولات «براون»،«بيكيت» و«يونسكو»، والتي أشارت إلى العبث والسخف والأزمة والمرارة واللامعنى، إنها تتعالق بكتابات، «سلوترديك» و«جيجيك»، وتلك تحولات خطيرة في أسلوب التعبير عن «عبث الوجود» واللامعقول، لتؤكد «بؤس السياسية» عندنا.
تلك التي هي في «غاية الركاكة» بل هي الوهم واللاجدوى، سريعا ما يخالف قواعد «اللعبة»، وقد استبان أن «قوة خفية»، توجه حركات أولئك الذين ما أدركوا أنهم اختاروا الطريق السهلة حينما تجنبوا الاختيار، واستبدلوا احتجاجات «الطفل» الفضولي الشاسع الطموح المقهور في الأعماق، بخلطات اعتقدوا أنها سبيل النجاة من «البؤس الاجتماعي». والسؤال الذي من فوره يكون: هل يتململ في صدورهم بؤس البؤساء في وطني – ؟
لقد زل «المقبل على هكذا مهمة» زلة شنيعة لما لم يأخذ في حسابه المراحل المختلفة للمغامرة، فما عاد أحدا من «السكان» يعتبر «السياسي» سيد حياته أو موجها لمصيره. فقد اتسع طابع الأزمة الإشكالي (اقتصاد، سياسة، سلطة، عنف، هيمنة، سيادة وحالة استثناء، استبداد، شمولية …)
وإن كل ذلك ليجعلنا نستعيد لحظة «فاوستوس» حين استدعى»الشيطان» «مفيستوفيليس» ووعده بأن يحقق رغباته في امتلاك العالم وكنوزه وأسراره – وقد أفعم بالأمل – مقابل أن يوقع «فاوستوس» له صكا بدمه يبيع فيه روحه. فقد كان توقه إلى المعرفة أقوى، من الخوف والدين والضمير.
ويعيش «فاوستوس» أعواما رائعة ويمتلك أجمل نساء التاريخ، ولكن «مفيستوفيليس» ينقض الاتفاق. هنا نسمع «فاوست» يرثي نفسه بأبيات تنبض حرارة ومرارة واحتجاجا، ثم تخفت لتتحول إلى بكاء، إلى أنين مرير مرتعد، ثم إلى صرخة متحشرجة : «أنقذني يا الله». وفقدان الذاكرة سيكون هو «الجحيم». وأفظع ما قد يصيبُ.
إلا أن الموتى لا يتوارون تاركين لهؤلاء مهمة تفسير فكرهم، وأن يتجادلوا حول ما قالوه، وما كان ممكنا أن يقولوه، وما كان عليهم أن يقولوه، بل وحول ما لم يقولوه أبدا. آنئذ ينبثق حلم، إصراره عنيد – مستحيل، ولكنه ضروري فيسأل المرء بنفسه الماضي وأهله : إنه الحوار مع الموتى. ولو قرأ التونسيون تجربة «بن غذاهم» مليّا، ما تكرّرت الخيبة.
*نلاحظ عزوف أغلب الأكاديميين المفكرين والمثقفين على الانخراط في الفعل السياسي والجمعياتي والنقابي وبالتالي غيابهم عن الفضاء العام: ما هي الأسباب حسب رأيك؟
ولأن الأمر في علاقة بأدوار «الأكاديميين»، وأي التزام نريد ؟ نروم التأكيد على أن الدور النبوي المزعوم والادعاء الرسولي الخلاصي، واجتراح الحلول السحرية لنوازل الدنيا والدين: اهتزت مرتكزاته وانفضحت أوهامه ومسلماته. وبالتالي فالدور المطلوب والذي يقترن بـ«ميدانهم» اقترانا حميما إنما هو النقد والتفسير، والفهم والتأويل والتزام النزاهة والموضوعية – أكثر ما يمكن – والنأي عن التبرير في التحليل. ما دام «المثقف» بعامة، هو من لا يألف الواقع المكرور ولا يسعى لتأبيده. إلا أنه ونظرا لتعقد قضايا«نا» تنغلق دوائر «التجريد»، وتتصلب الحياة ويستحوذ على «المثقف» معاشرة الرمز والمعاني فتتسع الهوة بينه وبين الناس، وإنه بحواره مع أسلافه وزمانه وعصره لقادر على مجاوزة «عزلته».
شرط العناية بدقة الدلالات المفهومية والرمزية والجمالية، للتحولات التي هزت اعتقادات وتمثلات دغمائية، كانت قد هيمنت واستقرت، وعليه نعيد تعقل ما «تواضع» عليه الناس، لاستشفاف ممكنات متاحة، تكون مداخل لفهم معاصر في كل مرة. وقد اقتضى النظر، إلى «العالم» – وقد غيّر مفهومه – زحزحة العتامة، التي لم تعد تجد مُستقرا لها، وهكذا لم نعد لنجد حرجا في التأكيد على مؤشرات ورصود بالغة الدقة، شاهدة، أن الفعل الرئيس في هذا السياق إنما هو الكشف على أن «كل نظرة تقليدية لاهوتية، إليه، قد تغيرت، وبالتالي أصبح مؤهلا لتحولات كبرى أرضية وقبلة للتفكير
*أي مستقبل للجامعة التونسية وللتعليم عموما في سياق الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية التي تمر بها تونس؟
يتضمن سؤالك إرهاصات إجابة، إذ أن كل بديل ومسعى ليس يمكن انجازه إلا بـ «تعليم» هادف، فالتعليم «التقنولوجي»، المستعد لتلقي العقائد الجاهزة، يصنع عقولا «قانونية»، تسيطر عليها دغمائية التفكير. والتعليم الـ «مثيولوجي»، يصنع عقولا خرافية، تستند إلى «سلطة الوحي».
والقاسم المشترك بين هذين الضربين: إنما هو «عنف الخطاب»، وغياب السؤال النقدي، وهو ما من شأنه أن يفسر ما يعيشه عالمنا من صراع مرير بين البشرية المنتمية إلى تقاليد نصية قديمة، – أولئك الذين أصروا على البقاء في دائرة الموروث – ملاذا ومأوى – لحظتئذ : بات الإنسان وحده القادر على رسم مساره ليعيد لـ»«وجود» نسّاء ذاكرته.
إلا أن ما هو مذهل، هو أن ثقافة «الدفتر والمقرر والحفظ» و«الصواب الموروث»، ومزالق «استبداد النصوص»، وقد اختبطوا فيها فضلوا وأضلوا، أنتجت الكثير من ضيقي الصدور والرؤى، ومن ذوي العلاقات السطحية بـ»الكتاب والنقد والعلم والمعرفة»، والميالين إلى الاختزال و»الجمع» والبتر، ضعيفي البذل والعطاء كسالى انتهازيين.
وتلك هي الرموز المأساوية للكارثة، وذلك شأن دلالاته خطيرة، إذ يتراءى لنا من بعيد أن تأثير «الفلسفة» في «بادئ الرأي» و«الجمهور»، كبير وقد غدت فيهم تساؤلات الفلاسفة الجذرية و«المعقّدة»، وعلى شفاه العديد من «المقلّدين»: أخذ المشهد طبيعة هزلية. فلا تستغربن ما نعيش عليه من «مقاولات»، وتطرف ودوغمائيات وغياب لـ «العقلانيات»، وطلاسم وسحر وشعوذات، فما من أحد جَرؤَّ على أن يخطو بعيدا جدا – إلا بحسبان – في الأساس المتصدع للمفاهيم غير المألوفة.
وإذا كان الحوار حول مسألة «التعليم» مَطلوبا ومُرتَجى، فلأنه بات من الوهن والتضعضع ما يلفت إلى ضرورة تدارس أساساته ومشاكله وصعوباته، وأهدافه وغاياته، وهو ما يستلزم إصلاحات جذرية – لا تكرار ما استألفوه – من عكوف على «ترميمات»، الغاية منها الهروب إلى الأمام، دون مواجهة لما تغلغل في هذا «القطاع»، من تهاون وفساد وتقصير. وأولئك الذين يمضون قدما، هم فقط من يعرف أن هناك طريـقا ما (طُرُق…)، ولكن الأغلبية تفكر اليوم على نحو مختلف، فهم لم يعودوا يريدون المُضيّ قُدما، بل هم بالأحرى يريدون أن يعرفوا سلفا إلى أين هم مَاضون، إنهم يحجبون أنفسهم عن كل تفكُّر في هذا الفكر.
ولأنه يندر أن يصرف الباحثين اهتمامهم إلى فروع المعرفة المتماسة – وقتئذ لن يعود الدخيل دخيلا والغريب غريبا – وتلك غفلة دارسين.
وإنه لمن الوجاهة والجدية بمكان استئناف التفكير، على قاعدة «التداخل بين المعارف»، فمن لا يمتلك القدرة على «التعقل» و«التخيل» و«التذكر» فكيف يفكر، ويؤشكل ويمفهم ويبرهن، وكيف لهذا أن يتحرر؟ وما يمكن التأكيد علية بلا مواربة، هو أن العلم من جهة ما هو معارف و تقنيات وآلات، يشكل عالما يختلف بل ويتناقض مع عالم الثقافة السائدة، مع السلوك والتقاليد والسياسة، والنتيجة انبناء المجتمع على كتلة من المفارقات والتناقضات.
وقد يبدو هذا القول بمثابة تأشير إلى أن الكليات والمعاهد العلمية، عندما تعطي لطلابها العلم بدون ثقافة، إنما تترك المجال وسيعا لـ»التطرف الديني»، ليقدم نفسه كثقافة، ذلك أن العلم يقدم لهم ك»قوانين» فقط، وليس ك»روح علمي»، يتميز بالمرونة والنسبية. والمدرك أن العلم ك»قوانين» فقط، يرسخ الدغمائية والنظرة الحدية المغلقة والشعور بامتلاك الحقيقة، ومن ثمة القابلية للتعصب والتطرف ورفض الاختلاف.
ولأن ما يقرّ «النجاح» – كما يحدّده «الساسة»-، داخل هذه المجتمعات المهزوزة، ليس البذل والكدّ والجهد، وإنما «النبالة» و«الوضاعة» الموروثة، فإن الكفاءة إنما هي خلعة يهبها الوضع القانوني والمنزلة الاجتماعية. ينشأ عن هذا، استتباع فادح الخطورة، مفاده أن كل المعارف والعلوم لا تتمتع بنفس القدر من القبول. وليس كل المتعلمين والدارسين متساوين في «سوق الشغل»، فالحصول على «الشهادة المعترف بها»، يتم وفق توزيع غير متساو. كما أن الكفاءة والقدرة على الحضور، وطقوس التواصل – تعد في الواقع- محتكرة في سوق التبادل الرمزي. وبالتالي في المجتمع والحياة واللغة. وإذا المشهد فئات من المتعلّمين محرومة من التعلّم وفئات من المتكلّمين محرومة من الكلام، وفئات من الحالمين محرومة من الحلم. وهكذا فالمسألة في عمقها موكولة، إلى مرتكزات نظام ثقافي سياسي، يقتلع الذوات من حيزها، ومن مناخاتها الرمزية، وخيارات اقتصادية، تنبني على عولمة متوحشة، وإمبراطوريات دم، وإذلال ورعب وخوف: فما هذا الشيء الذي يقهرنا ؟ ولأنه لا مهرب مما نحن فيه إلا التبصّر، تلافيا لما فات، نذهب إلى أن فكرة إعادة النظر في المقررات والمناهج وطرق التدريس، تجتاحنا لما لم نعد نقرأ كما كنا نفعل.
*حضورك في الفضاء العام هو موقف فلسفي وسياسي أو هو استدعاء للمثقف القرامشي؟
بالنسبة إليّ لا أستطيع رؤية الأمر من هذه الزاوية وفقط، فنحن لا «نفعل» شيئا، سوى أننا نحيا بصدق وهو «الفعل الذي يجب أن «نتقنه»، لأنه ما به نحقق ذواتنا، من خلال قناعاتنا، وعليه فما يزعجني هو أن تحليلات بعض من «يتصدرون البلاتوهات»، ضائعة في خرابات أخلاقية ويأس فكري ولا تملك، أي خيال أو أمل إذ لا ترى فينا أي شيء يُرتَجى. وهكذا فقد جعلوا من أنفسهم «أضحوكة» بحديثهم عن شيء ليس لديهم أدنى فكرة عنه، في كسل فكري وبؤس أخلاقي شنيع. فـ»كليشيهاتهم» تافهة إذ هم نادرا ما يقومون بمساءلة «فرضياتهم الأساسية».
وقليلا ما يتوقفون عند «تطلعات» شعوبـ«هم» و«المثل العليا»، التي تاقت قلوبهم وعقولهم لها، وموسيقاهم التي إليها ينصتون، ورقصاتهم التي يرقصون، و»ملاحمهم الشعرية» التي بها يستشهدون و«فلاسفتهم و«لاهوتيوهم»، الذين منهم يمتحون وإليهم يستندون، وكُتبهم التي يقرؤون، والتي لا تتوافق مع «نظرياتهم» الكلاسيكية المتهالكة. وهكذا فالمطلوب الانتباه إلى الطبقات التي تعيش الانسحاق والغبن ويا لهول «العمى المرتبك».
فثمة من لا يُجهد نفسه البتّة، في اكتشاف أنواع أخرى من «العقلانية»، لديه يقين في مطلقه ووحدته وعالميته. وبالتالي فإن إنهاء استعمار الفكر يعني تغييرًا في نظرة الفرد إلى نفسه والانفتاح على منظور أقل شمولية وأقل عولمة.
وإبانذاك فهو التحرر أو «العصيان المعرفي»، وإمكان الإعلان عن أساطير»نا» وتحرير النفس من النظام المعرفي الذي يمنع المرء من التفكير بنفسه ومن نفسه.
وهكذا سيصير مثلا، الحديث مفهوميا، عن ما يمنح فكريًا، «الأسود» و«الأفريقي» وجودا مفترضا ممكننا ويأخذ الفكر طابعًا تحرريًا، مجاوزة لـ«الوحشية». وقد سعى الفيلسوفان «أوديرا أوروكا» و«وايْرودو»، إلى توسيع مفهوم الفلسفة كي لا يظل محصورًا في «الغرب»، وسجين موضوعاته التقليدية إذ بلور «وايرودو» الحكمة الفلسفية ذات الطابع الأكاديمي التي تجعل من «الحكماء الشعبيين»، مصدرًا للفكر الفلسفي، رغبة في تحرير «الإثنو فلسفة» من إرثها الكولونيالي.
ولقد كان «غرامشي»، ما به يستعان على شدائد الدّهر الفلسفي «الغربي» المديد، إذ ادخل الثقافة على نحو وطيد، في المفردات الماركسية ضد الاقتصادوية، وما تم التنصل منه على نحو واسع. ولأننا نحاول في كل مرة إعادة التأويل والتوزيع والمركزة كجزء من حركة مقاومة شاملة نشير إلى ما أشار به «بورديو» في لمعة له باهرة: أنه على المثقف لكيلا يشيّع كـ»الكلب» أن يدفع بالسياسي إلى التفكير في المستقبل أو الانتحار. وهكذا فحين ننظر إلى هذه «المناظرات» و«الصراعات»، فإننا نجد أنفسنا مرغمين على تأكيد «رؤية» مفادها أن مدار القضية في عمقها إنما هو صراع مرير، بين «القوى التقليدية» والذوات المعطوبة والمحافظة – حتى وإن ادعت الحداثة – وقد «تأمركت، والتي تدافع عن مصالحها الطبقية، وامتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتتزيا بالدين والأخلاق، فـ«تتعالى بالسياسة» و«تسيس المتعالي»، وبين «قوى نقدية جذرية» تنويرية احتجاجية، طموحها تثوير هياكل المجتمع التقليدية، انسجاما مع زمن العالم، ومقتضيات «المدنية» والاختلاف والنسبية والعيش المشترك. فما هذا الشيء الذي يقهرنا ؟ (أكرر أيضا وأيضا) سيما وأن السلطة تتجذّر بعمق وبدقة في شبكة المجتمع، و«المثقفون» أنفسهم يشكلون جزءا من نظام السلطة.
وهكذا يظهر أن الاعتقاد الذي تنهض عليه رؤية عالم من هم داخل السلطة، ومن هم خارجها، إنما هي دعوة في الغالب الأعم «مخزية»: إذ المال يتكلم والصفقات تشي عن نفسها. فهم «جميعا» فيما وراء الخير والشر، وإذا كان التاريخ هو فقط حكاية صراع «عصابات» السلطة» وسردية غنائمهم ومروية استيلاء تهم. لوجب أن تكون بداياته وعموم فصوله : صراعا على السلطة ونهاياته، دماء تراق فهؤلاء خارج السلطة، يقدمون، نفس برنامج أولئك الذين هم في السلطة، مع فارق لطيف، لطرافته.
فهم يقدمون «قوائم مختلفة» بالذين سيطلق عليهم النار ويزج بهم في السجون. ها هنا بالذات، يمكن أن نفهم : لماذا يجد بطل «ميلان كونديرا» الرئيس – في كتاب الضحك والنسيان – نفسه متهما، من طرف صديقة له قديمة: بأنه «يمارس الحب» مثل مثقف.
*ختاما لك كلمة حرة.
بالرغم من أن السياسات الاقتصادية، تقذف بقطاعات كبيرة إلى التهميش، وتزيد من البؤس وتزيد من الارتباط بالرأسمالية المتوحشة، وتعمق الفروق الطبقيّة. فإن ذلك من شأنه أن يقود إلى قيام «حركات شعبية»، تسعى إلى التغيير الجذري وتفضح تناقضات السياسة الدولية واكاذيبها. ولقد انبجست براعم مبدئية فذة، استوت مسارب اعتقاد ومناخات مقاومة وثقافة ممانعة والتزام إنساني أخلاقي ما بعد ايديولوجي بقضايا المهمشين. إنها إرهاصات انتفاض، تحركه قوى ثوريّة، تقاوم أجهزة الدكتاتوريّات البوليسيّة والعسكريّة الليبراليّة وتقاوم الاستبداد.
فيا مقهوري قوى الظلم والشّنآن والاضطغان، الساخطين على التفقير والضيم والغبن ومكائد الساسة وسطحية تفكيرهم : اتحدوا… يا «أيها الرّاؤون والمُستضعَفون» والمَكدُودُون والمكلومون والحيَارى والكادحُون لَملمُوا الجرَاح، غيروا قبلة التفكير، غادروا «الاطمئنان الساذج»: يَمموا الوجوه نحو «اليــأس الجميــل».
وشكرا لملحق»منارات» على هذه الفرصة الرائعة.