بقلم: سعدية بنسالم
اعتقدت حين أُجِّل العدد بأسبوع أنّها فرصة لأرتّب أفكاري وأستعيد بعضا من توازني فأكتب عن الراحل محمد الغزّي، لست أدري، لمَ لا أجد الصّفة المناسبة له لأصدّر بها اسمه، فهو ليس جامعيّا فقط، وهو ليس شاعرا فقط، من الحيف ان نختزل محمد الغزي في الشاعر محمد الغزي أو الأستاذ محمّد الغزّي. مذ تناهي إليّ خبر وفاته سقطت الألقاب كلّها، تراءى لي اسمه خاليا من التصديرات أكثر تعبيرا عنه وأوسع. وكأنّه حرّر نفسه من الألقاب فأصبح يسعها ولا تسعه.
شعور غريب ذاك الذي يحفره خبر الموت، الرحيل المفاجئ الذي لا يمنح العقل الوقت ليستوعب ما يحدث، يباغت ويحفر خندقا مؤلما نحتاج وقتا لنعتاده فيرافقنا بقية الرّحلة.
ونتذكّر أنّنا جميعنا راحلون، غدا تشرق شمس ولا نكون هنا، مثلما أشرقت الشمس بعد وفاة «سي امحمّد» ولم يكن هنا، بدأ يتحوّل شيئا فشيئا إلى حياة ماضية في ذاكرة من عرفه، وسيتحوّل إلى تجربة شعريّة بالنسبة إلى الأجيال القادمة التي لم تعرفه، لم تعرف محمد الغزّي الإنسان بابتسامته الهادئة وهيئته المطمْئِنَة والمطمَئنّة واستعداده غير المشروط للإصغاء.
ونعيد اكتشاف، قسوة أن يتحوّل الإنسان بكلّ صخبه إلى مجرّد تجربة منتزعة من واقعها في أغلب الأحيان. منتزعة من الروح التي أنتجتها. نعيد ما قال هنا وهناك، نتتبع مظاهر الجمال في ما قال، ونبحث في الدلالات وكيفيات القول. وتتقادم التجربة وقد تركن على رفّ في قطار الحياة الذي لا يتوقف، لعلّ ميزة الإبداع أنه يطيل عمر صاحبه رغم أنّه يختزله في صفة لا تسعه، يعيدها ويحاول إنقاذه من النسيان كأنه لم يكن..
قبل الرّحيل كان سي محمّد يودّع، أو لعلّه يستعجل الرّحيل، يعيد بناء علاقته بالكون والطبيعة، بالأنهار والجبال والعشب، فقد أعلن قبل الرحيل بسويعات عن مولوده الأخير: «الجبال أجدادي… الأنهار إخوتي» قبل أن يعود إلى الأرض والطبيعة ليكون ذرّة منها ويعكس تصوّرا لطالما دافع عنه في نصوصه المختلفة يؤكّد وحدة الموجودات و»وحدة الوجود» في رؤية صوفية مخصوصة تختلف مع التجارب الصوفية المعروفة دون أن تقطع معها.
في دواوينه المختلفة، كان لمحمد الغزّي تلك العلاقة التكاملية بين الإنسان والطبيعة، فهو جزء عضويّ منها، يتماهى معها ويذوب في رحابها، يحادثها وتسمع منه. وسنكتفي في هذا العرض الموجز ببعض ما ورد في ديوانه «كلّ عشبة صوتها… وكلّ غيمة كذلك» (كتاب الغياب)
في هذه المجموعة الشعريّة يستنجد بالطبيعة يوصيها خيرا برجاء، ويعقد تواصلا مع عناصرها بل ويخلق له بها قرابة، تلك القرابة تمكّنه أن يوصي برجاء خيرا، تمكّنه أن يملي عليها ما يريد، وتمكّنه أن يعيد بناء حكاية الغياب والتسليم بها لخلق حكاية جديدة في بلاد لا يعود منها من ذهب إليها.
يقول في سوف أوصي:
سوف أوصي بها العشب والليل والنجمة الراجفة
سوف أوصي بها الغيم والماء والطّير
سوف أقول: أحطن بها،
فهي لم تعرف الموت من قبل،
فاعذرنها إن هي استوحشت
واعترتها، إذا دخلت، رجفة الخوف…
سرن إذن معها في الظلام
واسندنها حين تتعثّر
وامسحن دمعتها حين تبكي
فأرهف من قطرة الماء سيّدتي
وأشفّ من الضّوء
يا إخوتي الطير والعشب والغيم
ليل المقابر سوف يكون طويلا
فآمنّها إن تملّكها الخوف
دثّرنها إن هي ارتجفت
وانحنين عليها إذا هي حنّت وعاجلها الدّمع..
يا إخوتي الطّير والماء والعشب
لا تتحدّثن إن هي جاءت عن الموت
فهي تخاف
تخاف من الموت سيّدتي
وتخاف من الليل والصّمت
يا إخوتي الطّير والعشب والماء
جاءت إليكنّ هذا الصّباح متوّجة بطفولتها
ووداعتها
فأحطن بها حين ننفضّ عنها واسعفن غربتها
فهي ما فتئت تتلفّت سيّدتي:
ربّما نسيت، قبل أن تترك البيت، أن توصي الأهل
بالعشب المتسلّق في بيتها
بدماها التي خبّأت
بسوار الطّفولة تحت وسادتها
إخوتي الطير والماء والعشب
رافقن في بلد الصّمت سيّدتي
لا تدعن الغريبة تمضي إليه بمفردها
قدن خطواتها حين يلتبس الليل
صاحبنها في البلاد التي لم يعد من منازلها أحد
إخوتي الطّير والماء والعشب
عمّا قريب سيأخذها النّوم بعد ليال من السّهد
خفّفن إخوتي الوطء
وامضين بين الدروب على مهل
فالأميرة مرهقة بعد أن أرهقتها الحياة
وأثخنها العمر
فاغْضُضن من صوتكن
تمهّلن في السّير
ها هي ألقت على ركبة الأرض من تعب رأسها
إخوتي الطير والعشب والماء
كنّ لها، حين ننفضّ، حضنا دفيئا
وكنّ لها، حين ننأى، يدا جانية
أوصى بها وهي تذهب إلى «بلاد غريبة»، فخالف ما ترسب في المخيال الجمعي أنّ عالم الموت عالم أرحب من عالم الحياة الفانية وخالف المتصوفة في أنّ التخلّص من الجسد هو عودة الروح إلى أصلها واتحادها بالكون، كان الرحيل صعبا، ليس على الأحياء فقط وإنما الرحيل يوجع الرّاحلين أيضا، يوجعهم، ويخيفهم ذلك العالم البارد المجهول وجعَ الأحياء بفقد أحبّتهم.
حين نفقد الأحبة، تنطفئ شعلة منّا، ونفقد بعضا من شغفنا بالحياة، وحين تصفو الأرواح يمكنها أن تتسمّع الغد وتحدس، ذاك الحدس الذي تفصح عنه قصيدة العام الجديد التي نشرها الشاعر مودّعا سنة 2023، حدس قوامه الغياب والانطفاء والاستعداد للرّحيل، يقول في العام الجديد:
«حين يمضي العامُ القديمُ
ثمّة أشياءٌ كثيرةٌ تحزمُ أمتعتَها، وتمْضي ورَاءَهُ،
ثمّة غاباتٌ تترك حقائبنا وتمْضي، ثمة جبالٌ تتركُ دفاترنا وتمضي، ثمةَ أنهارٌ
ونجومٌ وينابيعُ،
ثمة قلاعٌ وحصونٌ،
وحكايات شتّى،
كلّها تفردُ جناحيْها، وتمْضي خلفهُ،
تاركةً وراءها حُزنًا رهيفًا كالضّبابِ،
وشفيفًا كرذاذِ الخَريف.
مع رحيلِ العام القديم
ثمة بحارٌ خبأناها تحْت وسائدنا تختفي فجأة،
وموانئُ وسفنٌ كثيرة،
وبرارٍ وأوابدُ، وخيولٌ
ونساءٌ كأنّهنّ الشمسُ،
ثمّة فصولٌ تمْضي
كلّها تتركُنا فجْأةً،
وتمْضي وراءهُ إلى أرْض أخرى.
مع رحيل العام الجديد
ثمّة أشياءٌ تمْضي
بعد أن تأخذَ بعْضًا من أجْسادِنا،
بعضًا من أكْبادِنا،
وتتركُنا نقَلّبُ حولنا عيونَنا
متسائلين..»
لم يأخذ العام الذي مضى بعضا من أجسادنا فقط، بل أخذ الجسد كلّه، وترك الأحبة يقلبون البصر في وجع يتساءلون.
لا يمكن أن نتحدّث عن محمد الغزّي دون أن نتحدّث عن القروان، ذلك الحلم الضائع والحنين المتجدّد، قيروان الحنين والعودة إلى البدايات للتمكن من معايشة الحاضر، يقول في أحدى تدويناته:
«قيروانُ، يا حليبَ أُمّهاتِنا
انظري كيفَ يَسوَدُّ منّا الشَّعرُ منْ جديدٍ كلّما
دخَلنا إليكِ، انظري كيفَ نُصبحُ أطفالا
يَتَسلّقُونَ سُطوحَكِ العاليةَ، ويجرُونَ في
أزقّتِكِ الضيّقةِ، ويُلقُونَ بأنفُسهِم، كُلما
أدركهم التعَبُ، الى يَديْكِ
المفتوحتين
انظري»
تتوزّع تدوينات محمد الغزي الأخيرة بين الحنين إلى الطفولة الأولى، واستشعار الرّحيل أو هو طلبه والاستعداد له، وبين البداية والنهاية رحلة حياة وصخب ونبض، رحلة إنسان مرّ من هنا ولم يكتفِ بالمرور وإنما نحت له في النفوس منزلة وفي المكان علامة وترك في الناس عطرا، وسنبقى، حتى نرحل نتعثّر في العطور التي ترك، في استعارة لتدوينة كتبها تقول
«ومازلنا نتعثر في العطور التي تركتها وراءك»
خير ما نختم هذه اللفتة التي لا تفي الرّجل حقّه بنصّ اختار له من العناوين «لن» يقول:
«لن أعدّ حقيبتك اليوم قبل الرحيل إذن
لن أزرّر، خوف الصقيع قميصك
لن أتقفّى خطاك…
فوحدك أنت ستمضي
ووحدك أنت ستقطع تلك الطريق الطويلة حتّى النهاية
وحدك أنت ستدخل أرض الجبال ولا أحد سيلوّح بين الحشود إليك
ولا أحدٌ سوف يطوي بدفء يديْه يديك
ستمضي ولا أحد سوف يدعو
محمّد عُدْ
ودِّع البحر، ألق عنك المجاذيف، لا تصغ ثانية لربابنة الفلك من
طوّحوا بك حتّى مدائن صور وأرض ظفار
فحسبك ما قد ذرفتَ من السنوات الطويلاتِ
ما بين قيظ الصّحارى ورمل الجزيرة
لستَ الموكَّل بالأرض تذرعها
فاترك البحر وارجع… فقد دبغت وجهَك الشّمسُ
والموج شتّت صحبك حتّى بحور جواذر، حتّى براكين لامو،
حتّى قرى زنجبار..
فقل ما الذي أنت منتظر بعد هذا؟
إذن لن أودّعك اليوم… لن أتحسّس وجهك.. لن أتلمّس
قبل الرّحيل يديك ولن أذرف الدّمع حين تغادرُ
وحدك أنت ستقطع كلّ الطّريق
تجرجر خلفك كلّ هزائمك السابقات
وذكرى قوافل ساحت فوق قوائمها الرّمال
وطيف رفاق قضوا في الجبال البعيدة…
سوف تغادر من غير أن تتشابك قبل الرحيل أصابعنا
وحدك اليوم سوف تغذّ الخطى دون أن تتلفّت
وحدك سوف تسير بهذا الممرّ الطّويل
ولا أحد سيلوّح بين الجموع إليك
ولا أحد سوف يطوي بدفء يديه يديك»
«كتاب الغياب» كان تقليبا لأحوال الغياب المختلفة وكان إيذانا بحزم أمتعة الرّحيل، فإن كان المعلن عنه هو غياب «رجاء» فإنّ الاستعداد كان لغياب محمّد دون ان تكون رجاء هناك لتودّعه. ألم يقل في قصيدة التباس:
كنت أمشي وراء جنازتها
حين أبصرتها في الحشود…
أجل هيَ
كيف ستخطئها العين…؟
كانت تسير وراء جنازتها وهي تبكي
هتفت بها،
التفتت ثمّ صاحت:
جنازة من هذه؟
ألست أنتَ الذي متّ؟
قلت
حسبتكِ أنتِ
ثمّ طفقنا وراء الجنازة نضحكْ
بينا الحشود الحزينة صامتة
تعبر الطّرقات لتدخل بوابة المقبرة.»
رحم الله محمد الغزّي إنسانا وشاعرا ورحم رجاء.