د.عبد اللطيف الحنّاشي*
تعرف البلدان المغاربية الثلاثة (تونس الجزائر المغرب) نزيفا حادا لهجرة الأطباء نحو البلدان الأوروبية وا أمريكا الشمالية وبلدان الخليج وهي ظاهرة تبدو حديثة العهد تحوّلت منذ بداية الالفية الثالثة معضلة بالنسبة الى الدول المغاربية عجزت الحكومات المتعاقبة في البلدان الثلاث على حلّها. وتقف وراء هذه الظاهرة التي تضاعف حجمها خلال السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت هجرة هذا القطاع حلماً لجيل كامل باحثا عن آفاق مستقبلية أفضل.
تشمل هذه الهجرات الجماعية ليس فقط الأطباء بجميع اختصاصاتهم، بل أيضا الفئات العاملة في القطاع الصحي: أطباء متخصصون وأساتذة وأفراد لقطاع الشبه الصحي ناهيك عن الطلاب.. هاجروا دون ان يلتفتوا لمجتمعاتهم ودولهم التي صرفت عليهم أموالا ضخمة من اجل الحصول على الشهائد العلمية ويمارسون مهنتهم النبيلة وخدمة مجتمعاتهم غير ان أسباب عديدة دفعتهم للهجرة ما ولّد انعكاسات خطيرة آنية ومستقبلية على صحّة المجتمعات المغاربية ومستقبلها …
تطور حجم هجرة هذا النوع من الكفاءات إلى بعض الدول الأوروبية وجزء من امريكا الشمالية وما هي الأسباب التي دفعتهم لذلك (عوامل الجذب والطرد) وتحليلها من جوانب مختلفة ودور السياسية التي تعتمدها الدول المُستقبلة لجذب هؤلاء…
وتحديد ونتناول الآثار (الإيجابية والسلبية) لهجرة هذا القطاع على البلدان «المضيفة»، وكذلك على الاقتصاد والمجتمعات المغاربية، ومحاولات الدول المغاربية
لاعتماد سياسات محددة في محاولة منها لوقف هذا النزيف ومدى نجاعة تلك السياسات
تطور حجم هجرة الأطباء المغاربة
غادر دولة الجزائر نحو 15 ألف طبيب باتجاه فرنسا خلال الأعوام الـ 30 الماضية وتخرّج نحو 27.7% من هؤلاء في المعاهد الطبية الجزائرية، بينما حصل 71.7% منهم على شهاداتهم من الجامعات الفرنسية (1)
اما عدد الأطباء من المملكة المغربية في المهجر فيبلغ نحو 14 ألف طبيب، كما أن ثلث الأطباء المكوَّنين سنوياً في البلاد يهاجرون كل عام. (2) ويفقد المغرب بذلك بين 600 إلى 700 طبيب كل عام، أو 30 في المئة من الأطباء المدرّبين حالياً وتشمل هذه الهجرة جميع الفئات، من طلاب الطب إلى الأخصائيين الطبيين والمدرسين.. (3)
اما في تونس فهاجر إلى حد فيفري 2024 نحو 4 آلاف طبيب في الوقت الذي يبلغ عدد الأطباء المسجلين بالعمادة 29 ألف طبيب وطبيبة (4)وحسب نفس العمادة، يغادر تونس سنويا 80% من الأطباء الشبان حديثي التخرّج وجهتهم الأساسية السوق الأوروبية، و تعتبر ألمانيا وفرنسا وجهة أولى لهم، تليهما دول الخليج وكندا.
وبالتوازي مع ذلك او نتيجة لذلك يتزايد عدد الأطباء الأجانب في فرنسا منذ عام 2007 خاصة بعد قرار الاتحاد الأوروبي الاعتراف التلقائي للشهادات الطبية في جميع أنحاء أوروبا.
ومن بين هذه النسبة، يأتي 55% من دول غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي. منهم 37.4% من الجزائر و10.4% من تونس. أما بالنسبة للأطباء الأوروبيين، فقد جاء أغلبهم من رومانيا (42.5%) وبلجيكا (15.3%) وإيطاليا (14.6%).
الأسباب:
عوامل طاردة:
تتعدد أسباب هجرة الأطباء إلى الخارج، منها:
الاعتبارات المالية التي تتمثل في تدنى رواتب الأطباء وطموحهم في الحصول على أجر أفضل فالطبيب المقيم في تونس يحصل شهريا على ما بين 1600 و1800 دينار» أي ما بين 522 و588 دولارا أمّا الأجر الشهري لطبيب الاختصاص في المستشفيات العمومية بتونس فيصل إلى 1600 دينار (517 دولاراً).. واجر الطبيب في المغرب لا يتجاوز 1200 دولار شهريا». وفي الجزائر لا تتجاوز أجرة الطبيب المتخصص في القطاع الحكومي ستمائة دولار، وتصل بالنسبة الى الطبيب العام إلى 800 دولار، ولا يتجاوز الطبيب المختص 1200 دولار.
البحث عن ظروف عمل افضل مع العلم أنّ الأطباء يضطر الى الهجرة الى دول اوروبية واساسا الى فرنسا رغم الاجر الزهيد (نحو 1500 اورو)ورغم المشاكل التي تعترضهم ساعات العمل الإضافية، وأنماط التحول التي تتعارض مع الحياة الأسرية، ومستويات عالية من التوتّر كما يعاني العديد منهم من عدم الرضا الوظيفي.
أسباب علمية أكاديمية عبر الرغبة تطوير المسار المهني
ظروف العمل غير الملائمة في المؤسسات الطبية من حيث الاكتظاظ ارتفاع حالات الإرهاق النفسي والاكتئاب في صفوف الأطباء الشبان. ونقص المعدّات الطبية أو بارتفاع الاعتداءات بالعنف (مثال تونس). نقص في العامل البشري المساعد بالمستشفيات.
الدوافع الشخصية والنفسية على غرار البيئة الثقافية ومنظومة القيم.
أسباب سياسية في تونس بعد 2011 مثلا وفي الجزائر يعود النزيف عقد التسعينيات خلال الأزمة الأمنية فكانت الهجرة ملاذاً للهرب من بلاد كان مستقبلها مجهولاً.
البطالة في صفوف الأطباء الجدد: وتعطل منظومة تشغيل خرجي التعليم العالي، والاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات وبين ما تطلبه سوق الشغل من حاجيات. في حين يجد العاطلون عن العمل فرص التوظيف متوافرة بكثرة في فرنسا، التي تواجه مستشفياتها نقصاً في عدد الأطباء (5)
عدم رغبة قطاع من الأطباء العمل في مناطق خارج المدن الرئيسية وكمثال على ذلك ان وزارة الصحة استدعت نحو 200 طبيب شاب تخرج حديثاً للعمل في مستشفيات حكومية عدة، إلا أنها فوجئت بعدم التجاوب باستثناء ستة أطباء فقط باشروا العمل.. إذ فضّل اغلب هؤلاء الأطباء الشبان الهجرة إلى خارج البلاد. (6)
عوامل جاذبة عديدة نذكر منها:
انخفاض حجم العاملين في القطاع الصحي: اذ كانت كليات وجامعات الطب في فرنسا تقبل كل عام حوالي 8600 طالبا حتى عام 1972، لكن انخفض العدد بعد عشرين عاما إلى أدنى مستوى له أي 3500 في عام 1993 قبل أن يشهد ارتفاعًا بطيئا الى ان تم إلغاء سقف المقاعد في عام 2020. ما أدى الى انخفاض عدد الأطباء العامين بنسبة 5.6 بالمائة بين عامي 2012 و2021. وبالنتيجة انخفاض نصيب الفرد من الأطباء في فرنسا في عام 2021 أ اذ اصبح أقل مما كان عليه في عام 2012، من 325 طبيبا الى من 318 طبيبا لكل 100.000مواطن.
ارتفاع معدلات الشيخوخة اذ تبيّن الاتجاهات الديمغرافية تدهوراً في الوضع بتأثير سلبي مزدوج مرتبط بالشيخوخة: شيخوخة الأطباء الذين يعلنون تقاعدهم (في فرنسا هناك أكثر من 44 في المائة من الأطباء تبلغ أعمارهم أكثر من 55عاما) بالإضافة لشيخوخة السكان مما يزيد من الطلب على الرعاية الصحية. وعندما يزداد عدد المرضى المصابين بأمراض متعددة ومزمنة ومعقدة زيادةً مطردة، سيزداد الطلب الإجمالي على الرعاية طويلة الأمد والرعاية الصحية زيادةً حادة. دفع هذا الوقع الرئيس إيمانويل ماكرون يقترح بقاء الأطباء المتقاعدين في الخدمة، وتشجيعهم على ذلك بإلغاء الاشتراكات التي يدفعونها عادة (حوالي 10 في المائة من الأطباء في فرنسا يعملون بعد سن التقاعد. .) وإلغاء سقف العدد الذي كان محددا لقبول الطلبة في الكليات الطبية. (7)
افتقار الخدمات الطبية: برز ذلك بعد انتشار وباء الكوفيد 19. ففي فرنسا يعيش 30 بالمائة من السكان في مناطق تفتقر إلى الخدمات الطبيّة.
الحوافز
اتخذ الاتحاد الأوروبي ودوله عدة إجراءات لتجاوز هذا العجز من ذلك اعلان رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال، نهاية يناير 2024 تعيين مبعوث ‘‘مسؤول عن البحث عن أطباء في الخارج’’ للرد على نقص الأطباء في فرنسا. وسمحت الحكومة للأطباء الأجانب بمواصلة عملهم في فرنسا.
كما سهّل القانون الفرنسي الجديد هجرة الأطر الطبية، على غرار ما سنته ألمانيا وبريطانيا، ما سيشجّع أطباء المغرب ومختلف الإطارات الشبه الطبيّة ا للهجرة من دول المغرب والدول الناطقة بالفرنسية، نظرا لسهولة التواصل باللغة الفرنسية كلغة للتكوين في الدول الإفريقية. بالتحقق من أن المرشحين الأجانب لديهم مستوى كاف من المعرفة. ويبدو أنّ الامتحان حول التحقق من المستوى المعرفي للمترشحين الاجانب قد تم تعويضه بقرار من الاتحاد الاوروبي بإنشاء الاعتراف التلقائي للشّهادات الطبية في جميع انحاء اوروبا (8)كما دعا معهد البحوث والتوثيق في اقتصاديات الصحة (IRDES) بفرنسا، إلى توظيف الأطباء المولودين والمؤهلين في الخارج للحد من الصحاري الطبية الريفية على الأراضي الفرنسية.
خاتمة مفتوحة:
وتقدِّر منظمة الصحµة العالمية أن هناك نقصًا بنحو 18 مليون عامل في مجال الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030، وهذا يمثل 20% من القوة العاملة اللازمة للحفاظ على استمرار أنظمة الرعاية الصحية.ووفقًا للمنظمة، يتركز النقص الأسوأ في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ويؤثر على دول أفريقيا والشرق الأوسط، ويمكن أن يتسبّب في انتشار أمراض يمكن الوقاية منها ووفيات في معظم الدول النامية، حيث تعاني من عدم توفر وسائل التدخل الأساسية لإنقاذ الحياة، بالإضافة إلى محدودية الميزانيات المالية المخصصة للرعاية الصحية. (9) لذلك تمثّل هجرة الإطار الصحّي من البلدان المغاربية الى أوروبا خطرا محدقا بمجتمع تلك البلدان وليس البلدان الأوروبية فرغم ما تعانيه من مشاكل لا يمكن مقارنة حجم التداعيات بين المجموعتين فرغم كل شيء دول الاتحاد الأوروبي لها إمكانيات لمعالجة الوضع بإمكانياتها الذاتية امر تفتقر اليه دول الجنوب ومنها الدول المغاربية
لذلك لا نعتقد ان هذه الهجرة المكثّفة والواسعة للمنتمين لهذا القطاع «بريئة» بل يبدو وكان الامر خضع لخيار استراتيجي للدول المُستقطبة نتيجة عدة عوامل داخلية تتعلّق بالنقص الفادح للزاد البشري في مجال الصحة كشفت عنه ازمة كوفيد 19 اذ بينت احدى الدراسات ان القارة الأوروبية لوحدها تحتاج بشكل عاجل لمليون ونصف طبيب لذلك استغلت الظروف المادية لهذا القطاع الذي يعيشه المنتمين للقطاع الصحي في الفضاء المغاربي واعتماد سياسة «جاذبة» لاستقطاب الأطباء و التقنيين والممرضين الأجانب وبينهم المغاربة… فأوروبا وخاصة فرنسا تبحث عن حل مشاكلها على حساب مستعمراتها السابقة، من خلال نقل ‘التصحر الطبي’ لديها، حيث عدد الأطباء غير كاف لتغطية حاجيات الساكنة، إلى مستعمراتها في دول الجنوب وشمال إفريقيا وإفريقيا الفرنكوفونية
وفي ومقابل ذلك يصعب معالجة مسألة هجرة الأطباء للخارج بالإشارة إلى الاعتبارات الوطنية، واتهام الأطباء الشباب الذين يبحثون عن حياة أفضل بالخارج بأنهم غير وطنيين وأنّهم ناكري الجميل باعتبار صرف الدولة على تعليمهم ثم تركمهم لها لإفادة دول ومجتمعات أخرى. (10)
ولتجاوز معضلة هجرة الكفاءات المغاربية من الضروري توفير بيئة مهنية مشجعة للأطباء، ماليا وفنيا و بتعزيز ظروف العمل كما يمكن عقد الدول المغاربية اتفاقيات مع دول الاستقبال لتنظيم عملية الهجرة و فرض تعويضات مالية عن هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب توظف على أجور المغادرين وذلك باتفاق مع بلد المقصد، فضلا عن شرط الحد الأدنى لعدد سنوات العمل في بلد المنشأ، والتزام الخدمة المدنية بالمناطق ذات الأولوية.(11) والالتزام بمدونة السلوك العالمية الطوعية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية في عام 2010 بشأن التوظيف في القطاع الصحي، و التي تدعو إلى القيام بتحليل سوق العمل الصحي واعتماد تدابير لضمان الإمداد الكافي بالعاملين الصحيين في بلدان المصدر…
* جامعة منوبة. تونس