د. محمّد سعيد
مقدمة
تعتبر الهجرات بمختلف أنواعها عاملا من عوامل النهضة الحضارية للبلدان المستقبلة أو عنصرا من عناصر الإثراء الثقافي وخلق تنوع عرقيّ وملء فراغ ديمغرافي. وكان سكّان القارة الإفريقية عبر التاريخ ضحايا تهجير قسري في نطاق تجارة الرقيق الذين قامت على كواهلهم الحضارات المتوسطية من القديم إلى الفترة الاستعماريّة. ولم تكن بلادنا بمعزل عن تيارات هذه الهجرة التي أدت إلى استقرار العناصر الإفريقية بها وتحولهم إلى جزء من مكونات الشعب التونسي. كما مثلت القارّة مهد البشرية لكنها في المقابل دفعت أثمانا باهظة لخلق ثروات خارج حدودها منذ القديم.
1-القارّة الأم لسكان الأرض
تمثّل القارّة الإفريقيّة %6 من مساحة الأرض و20 % من اليابسة. تقدّر مساحتها بما يعادل: 30 415 873 كم2 [القارّة والجزر]؛ وهي بذلك تحتلّ المرتبة الثّالثة على الصّعيد القارّي بعد آسيا والأمريكيّتين. ويُقدَّر عدد سكّان إفريقيا بمليار و300مليون نسمة؛ وهي بذلك تحتلّ المرتبة الثّانية بعد قارّة آسيا من حيث عدد السكّان1.
تعتبر هذه القارّة مهد البشريّة، باعتبار أن السّلالات التي عمرت الأرض تعود كلّها إلى أصل واحد: إفريقي. من هذه الأرض انطلقت الجماعات البشريّة منذ قرابة مليوني سنة2،وستتواصل الحركات الهجرية عبر الـتّاريخ، لتعمّر بقية الأراضي مكوّنة شعوبًا ملأت كوكب الأرض وستنطلق موجة ثانية من الهجرة الإفريقية في حدود 70 ألف سنة للإنسان العاقل واتصلت هذه الجماعات مع إنسان نيادرتال في الشرق الأوسط وتم الامتزاج الذي أدى إلى ظهور الجماعات البشرية الحديثة3. وهي شعوب تأقلمت مع بيئتها الجديدة مما منحها خصائص ميّزتها عن أسلافها التي بقيت داخل القارّة على مستوى اللون وأنماط العيش واللغات.
2-أفريكا القطر –أفريكا القارّة
أما بخصوص بلادنا وعلاقتها بالقارّة، فالوضع مثير للدهشة إذا علمنا أن اسم القارّة هو في الأصل اسم لبلادنا4،أو لنقل من جزء منها ،أطلقه القدامى على ما بقي من أراض قرطاجيّة سيطر عليها الرومان منذ 146ق/م. وقد تواصل استعمال إفريقيّة في علاقة ببلادنا إلى القرن 17م. أما هذا الاسم فقد صار يعني القارة كاملة بعد الاكتشافات الجغرافيّة الكبرى5 وقد أدت الاكتشافات البرتغاليّة للأجزاء الجديدة من القارّة إلى تغيير نظرة الأوروبيين لجغرافية القارة، بعد أن نجح فاسكو دي ﭬاما في المرور إلى المحيط الهندي عَبْرَ رأس الرّجاء الصّالح. وإثر ذلك أطلق البرتغاليّون تسمية إفريقيا الجديدة على المناطق التي كانت مجهولة قبل تلك الرّحلة؛ وبذلك توضّحت الرّؤية أمام الغربييّن بخصوص الحدود النّهائيّة للقارّة. وبدأ الاسم يغطّي القارّة بدل مقاطعة إفريقيّة كما يسمّيها العرب الّذين ورثوها عن البيزنطيين.
3-حضور مزمن للعناصر الإفريقية ببلادنا
ظل الحضور في بلادنا الإفريقي متواصلا منذ العصور القديمة كما تثبته الشواهد الأثرية والنصوص. ويمكن الحديث عن نوعين من الحضور؛ أولهما حضور «عسكري» وثانيهما مدني.
أ-العناصر الإفريقية مكون ثابت في الجيوش على مرّ التاريخ
هناك إشارات إلى حضور عناصر زنجية في جيش قرطاج، وقد استفاد الرّومان من هذه التجربة واستعملوا هذه العناصر6 .وهذه الظاهرة ستتواصل حتى نهاية العصر الوسيط. يضيق المجال بالدخول في التفاصيل لكن ثبت استعمال هذه العناصر في كل الجيوش من الفترتين القديمة والوسيطة. منذ العهد الأغلبي وقع اللجوء إلى استعمال العبيد السودان7 ضمن وحدات الجيش بسبب كثرة حركات التمرّد في الجيش المكون من عناصر عربية. وقد كان للأمراء الصنهاجيين حرس خاص من الزنوج الذين كانوا أوفياءهم. وقد تصدوا لجموع بني هلال –زمن المعز الصنهاجي-في معركة حيدران وقتل منهم خلق كثير. كما استعمل الحفصيون حرسا من عبيد السودان عرفوا بالقناوة في القرن الرابع عشر، كما سجل المؤرّخون حضور عناصر زنجية في القرن 16.
ب- حضور العبيد* –الزنوج- في الحياة الاقتصادية
ولم يقتصر استعمال العنصر الزنجي –العبيد- على الجيوش، بل كان لهم حضور في الأنشطة الاقتصادية وفي الأشغال المنزلية، لا سيّما للإناث، وهو وضع تواصل حتى القرن التاسع عشر إذ تم تحرير العبيد من السودان في 1846 من قبل أحمد باي. وقد كان العنصر الإفريقي جزءا من مكونات التركيبة الديمغرافية في بلادنا منذ العصور القديمة
4-مساهمة إفريقيا والأفارقة في ازدهار الحضارة
في هذا السياق لابد من التذكير بالدور المركزي الذي قامت به القارة في نمو اقتصاديات كل الحضارات التي تعاقبت على شمال إفريقيا من القرطاجية والرومانية البيزنطية إلى الحضارة العربية الإسلامية. فقد كان للذهب الذي تصدره القارة عبر التجارة الصحراوية –تجارة القوافل دور في انتعاشه اقتصاديات كل الدول المتعاقبة. فضلا عن العبيد الذين كانوا قوة انتاج في اقتصاد دول الشمال حتى القرن التاسع عشر. وقد استفادت حتى الأندلس من ذهب بلاد السودان*. ويمكن تفسير تراجع هذه الدول منذ مستهل الألفية الثانية للميلاد بسبب تراجع هذه التجارة وبروز المتوسط كمجال جديد يستقطب الأدفاق لم يكن للمسلمين فيه دور كبير بسبب عدم توفر أسطول بحري. وبذلك كان للأدفاق والبضائع القادمة من جنوبي الصحراء دور كبير في استمرار الدول الشّمال إفريقية أو زوالها.
5-الحضور الإفريقي في الزمن الراهن
أ-الطلبة الافارقة في تونس
تجدر الإشارة إلى أن فترة الستينات من القرن الماضي قد شهدت أوج العلاقات التونسية الإفريقية بحكم عوامل تاريخية وبفضل توجهات السياسة الخارجية التونسية؛ وكانت أديس أبابا مقر منظمة الوحدة الإفريقية قبلة الوفود من كل بلدان القارّة. وقد عبّر الفن التونسي عن هذه المرحلة بأغنيتين على الأقل: قصيد غناه مصطفى الشرفي. وآخر غنّاه علي الرياحي8.كان الحضور للجاليات الإفريقية ممثلا في الطلبة الموزعين على الجامعات منذ السبعينات والثمانينات، وقد ساهم أولئك المتخرجون من جامعاتنا في تنمية بلدانهم وخدمتها في جل القطاعات الاقتصادية، كما ساهموا في إشعاع بلدانهم على مستوى التمثيل الديبلوماسي. ولايزال هذا الصنف موجودا وبكثرة ولا تخلو منه جامعة من الجامعات الحكومية والخاصة، وهناك دراسات في الموضوع. إلى جانب وجود ماجيستير حول الدراسات الإفريقية يكوّن الطلبة في كل ما يخصّ القارّة وهو اختصاص في كلية الآداب بسوسة.
ب- الهجرة غير النظامية ومختلف تداعياتها.
لقد أنجزت دراسات حول الموضوع من قبل المختصين في الجامعة التونسية 9 خلال العشريتين الأخيرتين؛ وهي دراسات حاولت تفكيك الظاهرة ومحاولة الحد من نتائجها السلبية. ويبدو أن سقوط الأنظمة بعد ما سمّي بالربيع العربي قد ساهم في رفع نسق تدفق المهاجرين من جنوب الصحراء بصفة غير شرعية ما انفكت تداعياتها تتفاقم متخذة أبعادا خطرة على الأمن القومي وعلى السلم الاجتماعي. هذا في غياب تصور حكومي واضح المعالم لمعالجة الموقف، مما يفسح المجال للشائعات والتأويلات التي تحيل على نظرية المؤامرة.
ونعتقد أن الوضع الخاص بالمهاجرين الأفارقة – الاجاصيين- يجب وضعه في السياق العام التي تعرفه العلاقات غير المتكافئة بين الشمال والجنوب. واستمرار النظرة الاستعمارية والممارسات التي تحيل عليها وهي ممارسات تعتمد على استغلال جاهد للموارد الطبيعية ومصادر الطاقة لهذه البلدان، دون أدنى اعتبار للتّداعيات الاقتصادية والاجتماعية لتلك السياسات التي تمارسها القوى العظمى بواسطة أنظمة موالية لها. ففي نظرنا لاتزال هذه الدول التي مارست العبودية ونقلت ملايين الأفارقة نحو العالم الجديد، تعمل على الاستغلال المجحف لضمان استقرار اقتصادياتها أمام المنافسة التي تواجهها جراء صعود قوى غير أوروبية بدورها تحمل طموحات لا تقل تداعياتها بشاعة عن المستعمر السّابق.
فهذه إفريقيا الغنية بثرواتها يضطر سكانها للمغادرة نحو القارة الأوروبية التي تسد الأبواب وتغلق الحدود إلا للنخب الجاهزة لاستغلالها في تنمية اقتصادها المهدد في عالم متحول تتكالب فيه القوى العظمى على السيطرة أكثر على موارد القارة. مع ذلك تضغط دول شمال المتوسط على شمال إفريقيا أن تكون حاجزا ضد تسرب الموجات الهجرية الإفريقية نحو شمال المتوسط. ومن بين البلدان التي يشتد عليه الضغط بلادنا التي تعاني منذ أكثر من عشرية صعوبات اقتصادية، وهي تعاني من هجرة كفاءتها، فضلا عن هجرة القوة العاملة بطريقة غير شرعيّة. وهنا يمكن الحديث عن مقولة ان الطبيعة تأبى الفراغ. فهل يمكن لتونس أن تستوعب موجات الهجرة الإفريقية التي يحلم أصحابها بالعبور نحو الشمال. وما إقامتهم ببلادنا إلا مؤقّتة في انتظار الفرصة المناسبة لركوب البحر. في هذا السياق توجد أطراف مستفيدة من تعقد الوضع؛ من الذين يؤمّنون «الحرقة» إلى من يستغل وجود قوة عاملة تعوض عزوف اليد العاملة التونسية عن الأشغال الفلاحية وفي الحظائر.
خاتمة
لولا الهجرات لما كانت الحضارات، ولولا الهجرات لما حدث التلاقح الحضاري. وللهجرات عدّة صنوف، لكن أكثرها وقعا تلك الهجرات الجماعية التي تختلف أسبابها وظروفها. ومها يكن فإن تنقل الجماعات البشرية ظل دوما محكوما بالبحث عن ظروف أحسن للعيش، مهما اخلفت العصور. والهجرة من إفريقيا هي أقدم الهجرات وهي التي عمّرت الأرض، وهي التي لقحت السّلالات الأولى بفضل خروج الانسان العاقل. واستمرت الهجرات القسرية من القارة نحو قارات أخرى-في نطاق تجارة الرقيق-. ولاتزال الهجرات تمثل هاجسا لسكان القارة ضحية الاستغلال. لكن هذه المرة، وفي ظل الأوضاع المتحولة، يبدو أن الإفريقي غير مرحب به، لا في بلادنا، ولا في البلدان الأوروبية التي كانت سببا في رغبته في مغادرة القارّة نحو مجال أفضل تتوفر فيه فرص للعيش الكريم
(Endnotes)
1 – Voir :Le Nouvel atlas géographique du monde ;Éditions Glénat, Liberia géographica;(2e édition) Relié – Illustré, 17 octobre 2018.
2 -Pascal Depaepe, Et les hommes peuplèrent la Terre,Dans Révolution dans nos origines , Sous la direction de Jean-François Dortier, Éditions Sciences Humaines (2015), pages 34 à 48,p34.
3 – Ily a environ 73 000 ans quelques Homo sapiens effectuèrent une « deuxième sortie d’Afrique » via le détroit de Bab-el-Mandeb, au niveau de Djibouti, qui se traversait alors à pied sec.Ils se croisèrent avec les Néandertaliens qui vivaient alors au Moyen-Orient, ainsi qu’avec leur cousin, l’homme de Denisova. Leurs descendants communs ont donné naissance aux actuelles populations eurasiennes (blancs, jaunes, dravidiens, mélanésiens…).Voir :Hérodote-net,le média de l’histoire, Publié ou mis à jour le : 2023-05-15 18:35:28.
4 – بخصوص أصل التسمية ودلالاتها ينظر مقال إفريقية لمحمد الطّالبي، في دائرة المعارف الإسلامية، الجزء 3 باللغة الإنجليزيّة، نشرة بريل ،1986، ومقال إفريقية في دائرة المعارف التونسية ص 80-89، لنفس المؤلّف باللّغة العربيّة، نشر بيت الحكمة 1994- بخصوص أصل التسمية ودلالاتها ينظر مقال إفريقية لمحمد الطّالبي، في دائرة المعارف الإسلامية، الجزء 3 باللغة الإنجليزيّة، نشرة بريل ،1986، ومقال إفريقية في دائرة المعارف التونسية ص 80-89، لنفس المؤلّف باللّغة العربيّة ،نشر بيت الحكمة 1994 .
5 – Pierre d’ Avity ; Description générale de l’Afrique, seconde partie du monde : avec tous ses empires, royaumes, estats et republiques, Paris 1637, Source gallica.bnf.fr / Bibliothèque nationale de France,pp1-2-3.
6 -Léopold Sédar Senghor,la présence des noirs dans l’ antiquité méditerranéenne, dans: Revue des Deux Mondes, https://www.revuedesdeuxmondes.fr/w,p- p535-536.
7 -هوبكنز النظم الإسلاميّة في المغرب في القرون الوسطى ترجمة أمين توفيق الطيبي الدار العربيّة للكتاب ليبيا –تونس 1980، ص140.
*العبوديّة وضع قانوني يخضع إلى تعاليم الفقه وليست مقتصرة على الأفارقة، فقد كان هناك عبيد من الجنس الأبيض: صقالبة وغيرهم من الأوروبيين.
*مصطلح جغرافي يقصد به المناطق التي تقع جنوبي الصحراء الكبرى وتفتح على المحيط الأطلسي وهي غامة ومالي والتشاد، بينما يطلق مصطلح الحبشة على الجزء الرقي من المناطق الواقعة في الجنوب الشرقي والتي تفتح على البحر الاحمر
8 -غنى مصطفى الشرفي: يا ابنة الشمس والقمر امنا السمراء، زارك العز والقدر من بنتك الخضراء؛ وغنى علي الرياحي: حبيبتي زنجية سوداء وإفريقية،،تمد نحو الله كفا ، إن نقرت أصابع العزاف دفا.
9 – On peut citer les travaux ci-dessous :
– Hassen Boubakri, Sylvie Mazzella ,La Tunisie entre transit et immigration : politiques migratoires et conditions d’accueil des migrants africains à Tunis,Dans Autrepart 2005/4 (n° 36), pages 149 à 165.
-Mohamed Kriaa Salem Talbi Sondes Amari Rym Ben Slimen Manel Falleh ; MIGRATION DE TRAVAIL EN TUNISIE : UNE LECTURE DE LA DECENNIE 2002-2012,édité par Organisation Internationale pour les migrations 2011, bureau de Tunisie 2013.
-Mustapha Nasraoui, “Les travailleurs migrants subsahariens en Tunisie face aux restrictions législatives sur l’emploi des étrangers”, Revue européenne des migrations internationales [Online], vol. 33 – n°4 | 2017, Online since 01 December 2019,
– Abderrazak Haj Zekri , la migration de transit – en Tunisie,in : CARIM – Consortium pour la Recherche Appliquée sur les Migrations Internationales 2009.