spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

الإقطاعيّة الجديدة: هل هي نهاية الرّأسماليّة؟* (ج2) بقلم جودي دين Jodi Dean

المترجم: المنتصر الحملي 

  (في الجزء الأوّل من هذا المقال، المنشور في العدد السّابق من «منارات»، رأينا كيف قامت المفكّرة اليساريّة الأمريكيّة، المناصرة للقضيّة الفلسطينيّة، جودي دين، بتوضيح الانحراف الّذي شهدته الرّأسماليّة المعاصرة، خصوصا في نسختها الأحدث ونعني بها الليّبراليّة الجديدة، نحو إقطاعيّة جديدة. وكيف بيّنت ما يترتّب عن ذلك بالضّرورة من أسئلة جديدة ومقاربة جديدة حول كيفيّة تعاطي اليسار مع هذا الانحراف. وقد توقّفت في آخر الجزء السّابق عند أبرز خصائص هذه الإقطاعيّة الجديدة وسماتها، وهي أربع: السّيادة المجزّأة، وظهور إقطاعيين وأقنان جدد، وتوسيع المناطق الخلفيّة النّائيّة، والنّزعة الكوارثيّة. ولئن بلور الجزء الأوّل السّمتين الأوليين، فإنّ هذا الجزء الثّاني والأخير من المقال سيتوسّع في توضيح السّمتين الباقيتين – المترجم-.)

توسيع المناطق الخلفيّة النّائية l’hinterlandisation

  هناك جانب ثالث في الإقطاعيّة الجديدة ألا وهو الفضاء المرتبط بالإقطاع، والّذي نعني به مركزا نشطا محميّا ومحاطا بمناطق خلفيّة نائية. يمكننا أيضا أن نصف هذا بأنّه انقسام بين المدينة والرّيف، بين مناطق بلديّة وأخرى ريفيّة، أو بأنّه منطقة داخليّة معزولة عن الخارج بجدار رمزيّ يفصل بين الأمن وانعدام الأمن، بين ما هو مزدهر وما هو ليس كذلك. يقول وود Wood إنّ مدن العصور الوسطى كانت تخضع في المقام الأوّل لسيطرة أوليغارشيات (أقلّيات ثريّة حاكمة)، «استثرت من التّجارة والخدمات الماليّة المقدَّمة للملك والإمبراطور والبابا. كانوا يسيطرون، بشكل جماعيّ، على المناطق الخلفيّة للبلاد […]، ويعتصرون منها الثّروة بطريقة أو بأخرى.» خارج المدن، كان هناك بدو ومهاجرون يعيشون ظروفا لا تُطاق، وكانت تلك الظّروف تدفعهم إلى البحث عن أماكن جديدة للعيش والعمل، ولكنّهم في كثير من الأحيان يصطدمون بالجدران».

  المناطق الخلفيّة النّائية الأمريكيّة هي أماكن للفقدان وتقطيع الأوصال، تطاردها أوهام ماض مزدهر كان يبعث لبعض الوقت الأمل في أن يتمتّع كلّ جيل بحياة أفضل من الجيل السّابق. بوصفها بقايا لرأسماليّة صناعيّة كانت تبحث عن يد عاملة أرخص، أصبحت المناطق الخلفيّة النّائية مهيّأة للاستغلال المكثّف الّذي يميّز الإقطاعيّة الجديدة. وبما أنّ السّكّان لم يعودوا يعملون في إنتاج السّلع، فقد أصبحوا يعيشون فيها على وظائف في المستودعات ومراكز الاتّصال والبازارات الرّخيصة ومطاعم الوجبات السّريعة. في كتابه «المنطقة الخلفيّة النّائية Hinterland»12، يلاحظ فيل أ. نيل Phil A. Neel أوجه تشابه بين الصّين ومصر وأوكرانيا والولايات المتّحدة. فهذه جميعها بلدان ذات أراض مقفرة ومهجورة، ومدن على وشك الانفجار.

  سياسيّا، يتجلّى يأس المناطق الخلفيّة النّائية في الحركات التي أثارها أولئك الّذين يعيشون هناك، أحيانا حول القضايا البيئيّة (التّكسير الهيدروليكيّ، خطوط الأنابيب)، وأحيانا أخرى حول الأراضي (الخصخصة، مصادرة الأملاك)، وطورا آخر حول انعدام الخدمات (إغلاق المستشفيات والمدارس). في الولايات المتّحدة، تضع القوانين المتعلّقة بملكيّة الأسلحة الخاصّة سكّانَ المناطق الخلفيّة النّائية في مواجهة سكّان المدينة. ويتكرّر هذا التّقسيم داخل المدن نفسها، من خلال هجر الأحياء الفقيرة، وكذلك المصادرة الّتي تميّز عمليات التّحسين الاجتماعيّ. وهكذا تزداد المدينة ثراءً، بينما يتزايد عدد المشرّدين، في سان فرانسيسكو وسياتل ولوس أنجلوس ونيويورك.

يمكن اعتبار الاهتمام المتزايد بإعادة الإنتاج الاجتماعيّ ردّا على توسيع المناطق الخلفيّة النّائية، أي على فقدان القدرة العامّة على إعادة إنتاج الظّروف الأساسيّة لحياة جديرة بأن تعاش. ويتجلّى هذا الفقدان في ارتفاع معدّلات الانتحار، والقلق، وتعاطي المخدّرات، وفي انخفاض معدّلات الولادات وأمد العمر، وهو في الولايات المتحدة، يتجلّى في التّدمير الذّاتيّ الذُّهانيّ l’autodestruction psychotique النّاجم عن حوادث إطلاق النّار الجماعيّة. كما يتجلّى أيضا في البنى التّحتيّة الّتي أصبحت متدهورة، وفي نقص مياه الشّرب والهواء الصّالح للتّنفّس. لقد أصبح المنطقة النّائيّة منقوشة على الأجساد والأراضي. ومع إغلاق المستشفيات والمدارس، وانخفاض الخدمات الأساسيّة، أصبحت الحياة ميؤوسا منها وغير آمنة على نحو متزايد.

النّزعة الكوارثيّة

  وأخيرا، تعمل الإقطاعيّة الجديدة على تعزيز انعدام الأمن الّذي ينطوي عليه شعور ساحق بالكارثة. هناك أسباب وجيهة للشّعور بالقلق. فالكارثة المعلَنة المتمثّلة في المصادرة الرّأسماليّة للملكيّة في عالم يتّسم بتفاوتات دراماتيكيّة، وفي الانحباس الحراريّ العالميّ، هي كارثة حقيقيّة فعلا. كما تنتشر إيديولوجيات ظلاميّة تقوم بتثبيت الشّعور بانعدام الأمن هذا، وهي تتراوح بين الوثنيّة التّكنولوجيّة techno-paganisme ومناهضة الحداثة بشكل عامّ. ومن الأمثلة على ذلك التّصوّف اليونغيّ (نسبة لعالم النّفس يونغ – المترجم-) لجوردان بيترسون Jordan Peterson13 والجغرافيا السّياسيّة الأسطوريّة لأطلانطس وهيبربوريا لألكسندر دوغوين Alexandre Douguine14. كما يمكننا أن نستشهد بالرّجعيين الجدد في مجال التّكنولوجيا مثل الملياردير بيتر ثيل Peter Thiel مؤسس شركة PayPal، الّذي يدّعي أنّ الدّيمقراطيّة لا تتوافق مع الحرّيّة. ففي مؤتمر عُقد عام 2012، أوضح ثيل العلاقة بين الإقطاعيّة والشّركات النّاشئة la start-up: «لا يتمتّع أيّ مؤسّس أو رئيس لشركة ما بسلطة مطلقة. إنّ هذا أشبه بالبنية الإقطاعيّة القديمة. فالقائد يُمنَحُ جميع أنواع الصّلاحيات والقدرات، ثمّ يُلام عندما تنشأ مشاكل معيّنة.» يشعر ثيل، مع ثلّة من رأسماليي القطب الصّناعيّ سيليكون فالاّي Silicon Valley، بالقلق بخصوص حماية ثروته من الانتهاك الدّيمقراطيّ، ولذلك فهو يصمّم استراتيجيّات للهجرة الضّريبيّة مثل العيش في عرض البحار أو احتلال الفضاء، أي كلّ ما يجب القيام به من أجل تجنّب التّعرّض للضّرائب. وهكذا تتحوّل الرّأسماليّة المتطرّفة إلى اللاّمركزيّة الجذريّة للإقطاعيّة الجديدة.

  بالنّسبة إلى أولئك الّذين يقفون على الجانب الخطأ من الجدار، فإنّهم لا يتعاملون مع القلق وانعدام الأمن من خلال الإيديولوجيا بقدر ما يتعاملون معهما من خلال المواد الأفيونيّة والكحول والوجبات السّريعة السّيّئة، أو أيّ شيء لتخفيف الألم النّاتج عن عمل شاقّ ومحطّم للرّوح، الألم اليائس واللاّنهائيّ. تصف إميلي غيندلسبيرغر Emily Guendelsberger التّوتّر النّفسيّ النّاجم عن المراقبة التّكنولوجيّة المستمرّة للعمل –مثل خطر التّعرّض للطّرد بسبب تأخّر بسيط في الالتحاق بالعمل، أو عدم استيفاء كامل الحصص، أو الذّهاب إلى دورة المياه بشكل متكرّر15. يرتبط العمل المتكرّر والمقيَّد والمراقَب ارتباطا مباشرا بالاكتئاب والقلق المرضيّ. جداول مفتوحة، إنّ الجداول الزّمنيّة المفتوحة، الّتي تُمدَحُ لمرونتها، والأجور العشوائيّة (لأنّ سرقة الأجور منتشرة على نطاق واسع) أمور مرهِقة وقاتلة. يمكن أن تتّخذ النّزعة الكوارثيّة الإقطاعيّة الجديدة أشكالا فرديّة أو عائليّة أو مَحلّيّة. إنّه من الصّعب تعبئة النّاس لمواجهة تغيّر المناخ بينما هم يعيشون داخل الكارثة منذ أجيال عديدة.

3

ما هي ميزة توصيف الرّأسماليّة المعاصرة وعدم الاستقرار الشّديد الّذي تنطوي عليه على أنّهما ما بعد رأسماليّة أو إقطاعيّة جديدة؟ بالنّسبة إلى ليبراليّ مثل كوتكين Kotkin، فإنّ فرضيّة الإقطاعيّة الجديدة تساعده على تحديد ما يريد الدّفاع عنه، أي رأسماليّة الكربون والحياة على النّمط الأمريكيّ، وما يريد محاربته: وهو هذه الشّريحة من النّخبة الّتي تغتني على حساب الطّبقة الوسطى، أي روّاد الأعمال في مجال التّكنولوجيا الخضراء وحلفاءهم في مجال التّمويل. الإقطاعيّة الجديدة هي جزء من استراتيجيا ترمي إلى حشد دعم الطّبقة العاملة لشريحة معيّنة من الطّبقة الرّأسماليّة: رأسماليّة مصادر الطّاقة الأحفوريّة، والعقارات، والزّراعة الصّناعيّة.

  أمّا بالنّسبة إلى أولئك الّذين يقفون على اليسار، فإنّ مفهوم الإقطاعيّة الجديدة يمكن أن يساعدهم على فهم الصّراع السّياسيّ الأساسيّ النّاشئ عن اللّيبراليّة الجديدة. فالمواجهة الكبرى اليوم ليست بين الدّيمقراطيّة والفاشيّة. ورغم شعبيّة هذه الصّياغة اللّيبراليّة، فإنّه لا معنى لها نظرا لسلطة الأوليغارشيا ــ سلطة المموّلين، وأباطرة الإعلام والعقارات، وأصحاب المليارات في مصادر الطّاقة الأحفوريّة وفي مجال التّكنولوجيا الفائقة. إنّ فهم اللّعبة السّياسيّة من منظور الفاشيّة الصّاعدة يصرف الانتباه عن الدّور الأساسيّ الّذي تلعبه شبكات الاتّصالات العالميّة في تفاقم الغضب الشّعبيّ. فوراء التّحوّل السّياسيّ نحو اليمين يكمن العامل الاقتصاديّ: تكمن شبكات معقّدة تنتج تفاوتات قصوى، وتوزيع يصبّ في مصلحة الفائز الّذي يأخذ كلّ شيء أو يكاد. ويأتي التّحول نحو اليمين استجابة لهذا التّفاوت المكثَّف. فعندما يكون اليسار ضعيفا، ومهمَّشا من قِبَل وسائل الإعلام المهيمنة وكذلك من قِبَل الأحزاب السّياسيّة المندمجة في النّظام، يجد الغضب الشّعبيّ سبلا أخرى للاحتجاج. حاليّا، توجد هذه المسارات الأخرى في أقصى اليمين. وبالتّالي فإنّ التّفكير انطلاقا من مفهوم الإقطاعيّة الجديدة يتطلّب منّا مواجهة تأثير التّفاوت الشّديد على المجتمع ومؤسّساته؛ ذلك أنّ قِلّة من الأفراد تجمع مليارات الدولارات وتتحصّن في معاقل، في حين يتحوّل الملايين من البشر إلى لاجئين بسبب المناخ، ويجد المليارات منهم أنفسهم في مواجهة آفاق حياة محدودة جدّا، في صراع شديد لمجرّد البقاء على قيد الحياة.

  الرّهان الإقطاعيّ الجديد يعني أيضا تغييرا في علاقات العمل. لقد كانت الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة تقوم على التّوفيق بين رأس المال والعمل. في بلدان الشّمال، كانت النّقابات تقدّم طبقة عاملة متعاونة في مقابل حصّة من الحياة الجيّدة. كان ينبغي لهزيمة العمّال وتقطيع أوصال دولة الرّفاه أن تثبت مرّة واحدة وإلى الأبد إفلاس استراتيجيّة التّسوية مع الرّأسماليّة. ومع ذلك ما يزال بعض الاشتراكيين يؤمنون برأسماليّة أكثر لطفا ــ كما لو أنّ الرّأسماليين يمكن أن يستسلمون لمجرّد أن يبدوا عادلين، كما لو أنّهم أيضا لا يخضعون لمنطق السّوق الّذي يجعل إعادة شراء الأسهم أكثر جاذبيّة من الاستثمار في الإنتاج. تخبرنا فرضيّة الإقطاعيّة الجديدة بأنّ أيّ نضال عمّاليّا يقوم على أساس إطالة أمد الرّأسماليّة قد مات غريقا. فقد تحوّلت الرّأسماليّة بعدُ إلى شيء أسوأ.

  في اقتصاديات بلدان الشّمال، يعمل غالبيّة النّاس في قطاع الخدمات. وقد حوّل البعض هواتفهم الذّكيّة ودرّاجاتهم وسيّاراتهم ومنازلهم إلى وسائل إنتاج أو وسائل لتحصيل دَخل ما. وقد أصبحت الآن السلع الاستهلاكيّة والخدمات الشّخصية المتّصلة بالمنصّات وسائل لتراكم الثّروة لدى أصحاب هذه المنصّات. ويشكّل معظم العمّال طبقة دنيا عديمة الملكيّة، تعيش من خلال توفير احتياجات الأثرياء. ويتوقّع تقرير صادر عن مكتب إحصاءات العمل أنّ الوظائف سوف تنمو بشكل أكبر في مجال الخدمات الشّخصيّة خلال السّنوات العشر المقبلة؛ لن ينمو عدد موظّفي القطاع الصّحّي، بل عدد العمّال غير المستقرّين الّذين يقومون بتنظيف الآخرين. وينطوي اعتماد الطّبقة الحاكمة على مجموعة متنوّعة من الخدم – من عمّال نظافة، وطهاة، وبقّالين، وصرّافين، وعمّال توصيل، وعمّال تخزين، وما إلى ذلك –على ميادين جديدة للنّضال، وعلى نقاط ضعف عديدة يمكن للعمّال فيها أن يطالبوا بحقوقهم. تستهدف إضرابات مقدّمي الرّعاية الصّحّيّة والعاملين في مؤسّسات أمازون وفي أماكن أخرى إعاقةَ الأغنياء من خلال منع وصولهم إلى وسائل العيش. وبينما كانت النّضالات في ظلّ الرأسمالية تدور في موقع الإنتاج، فإنّها في ظلّ الإقطاعيّة الجديدة تدور في موقع توفير الخدمات.

  أخيرا، إنّ الإقطاعيّة الجديدة هي فكرة تسمح لنا بتحديد نقاط الضّعف الرّئيسيّة لليسار المعاصر. في الواقع، فإنّ الأفكار الأكثر أهمّيّة من جهة اليسار هي تلك الّتي تأخذ في الاعتبار واقع الإقطاعيّة الجديدة. فالنّزعة المحلّيّة تشجّع على التّجزئة. وعالم المنصّات والتّكنولوجيا الرّقميّة يعزّز الهرميّة وعدم المساواة. كما تحافظ البلديّة على التّقسيم بين ما هو حضريّ وما هو ريفيّ المرتبط بتوسيع المناطق الخلفيّة النّائيّة. إنّ التّركيز على الكفاف يعني ضمنا أنّ اقتصادات الفلاّحين ما تزال قادرة على البقاء، ليس فقط بالنّسبة إلى نصف سكّان الكوكب الّذين يعيشون في المدن (82% من الأميركيين و74% من الأوروبّيين)، بل وأيضا بالنّسبة إلى الملايين من البشر الّذين تسبّبت ظاهرة الانحباس الحراريّ العالميّ أو الحرب وسرقة الأراضي في تشريدهم. إنّ أولئك الّذين يعيشون في المناطق الخلفيّة النّائية يجدون أنفسهم يوما بعد يوم في مواجهة اظروف مناخيّة وسياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة تجعل البقاء على قيد الحياة من خلال العمل الزّراعيّ أمرا مستحيلا. فالإعانة الشّاملة المندرجة ضمن مقاربة مبنيّة على الكفاف لا يمكن الدّفاع عنها. إنّها تقدّم ما يكفي فقط لسكّان المناطق الخلفيّة النّائية للبقاء أحياءً، وما يكفي تقريبا ليتمكّنوا من دفع إيجارهم في المدينة. ومن ثمّ تصبح النّزعة الكوارثيّة شكلا من أشكال السّلبيّة الباردة الّتي تشوّه الأمل والجهد، كما لو أنّ المائة عام القادمة لا أهمّية لها على الإطلاق.

  إنّ أفكار اليسار الحاليّة، حين يُنظَرُ إليها مجتمعة، تنطوي على مستقبل يخصّ مجموعات صغيرة منخرطة في زراعة الكفاف، ربّما داخل معازلَ على مشارف المدن. يمكن لمثل هذه التّجمّعات أن تعيد إنتاج حياتها بشكل مشترك، ولكنّ هذا سيكون بالضّرورة مختزَلا، ومحلّيّا، وبمعنى ما، حصريّا ونخبويّا: حصريًا لأنّ عددهم سيكون محدودا؛ ونخبويّا لأنّ تطلّعاتهم ستكون مخصَّصةً ثقافيّا.

  وبعيدًا عن وجود رؤية منغرسة في تحرير طبقة عاملة متعدّدة الجنسيّات منخرطة في العديد من الأعمال مدفوعة الأجر ومنخفضة الأجر وغير مدفوعة الأجر، فإنّ تكرار نُسخ الإقطاعيّة الجديدة من جهة اليسار يتجاهل الطّبقة العاملة. بالنّسبة إلى هذا النّوع من اليسار (حيث يقترح البعض «تخييلا ما بعد العمل imaginaire post-travail»)، فإنّ العمل يشبه إمّا الزّراعة الرّومانسية أو «العمل غير المادّيّ» في التّكنولوجيا الرّقميّة. إنّ الكدْحَ الرّوتينيّ الشّاقّ المتمثّل في العمل في مراكز الاتّصال، والجانب الصّادم في الفرز البشريّ للشّبكات الاجتماعيّة (من أجل محتويات حقيرة، وما إلى ذلك) يدلّ على عدم كفاية فكرة «العمل غير المادّيّ». يجب أن يكون واضحا أيضا أن تخييلَ ما بعد العمل يتجاهل بناء البُنى التّحتية وصيانتها، وتنوّع القوى العاملة اللاّزمة لإعادة الإنتاج الاجتماعيّ، وبنيةَ الدّولة الّتي تدعمها.

  ومن هنا، فإنّ فرضيّة الإقطاعيّة الجديدة تسمح لنا برؤية ما هو جذّاب وما هو ضعيف في الأفكار الشّعبيّة من جهة اليسار. إنّها أفكار جذّابة لأنّها تتوافق مع الأفكار السّائدة؛ وهي ضعيفة لأنّ هذه الأفكار السّائدة نفسها هي تعبير عن النّزعات الإقطاعيّة الجديدة.

  ومثلما استمرّت العلاقات الإقطاعيّة في ظلّ الرّأسماليّة، فإنّ علاقات الإنتاج والاستغلال الرّأسماليّة تستمر في ظلّ الإقطاعيّة الجديدة. ويأتي الفرق من حقيقة أنّ أبعاد الإنتاج غير الرّأسماليّة – كالمصادرة، والهيمنة، والعنف – أصبحت أقوى إلى درجة أنّه لم يعد من الممكن الادّعاء بأنّ فاعلين أحرارا ومتساوين يمكن أن يلتقوا في سوق العمل، حتّى كتخييل نشيط. وهذا يعني أنّ الإيجار والدّيون أكثر أهمّيّة من الأرباح في عمليّة التّراكم، وأنّ العمل لم يعد يُختَزَلُ في علاقة الأجور. ماذا يحدث عندما تتعوْلمُ الرّأسماليّة؟ إنّها تنقلب على نفسها، وتُسيّجُ الحياة البشريّة عن طريق الشّبكات الرّقميّة ووسائل الإعلام حسب الطّلب. وتُنتج هذه الكانيباليّة الذّاتيّة أسيادا جددا وأقنانا جددا، وثروات هائلة، وتفاوتات شديدة، وسيادات مجزَّأة تؤمّن استمرار هذه التّفاوتات، بينما يهيم الجزء الأكبر من البشريّة على وجهه ويذوب همّا في المناطق الخلفيّة النّائية.

الهوامش

1. Verso (Londres), 2019 (toutes les notes sont du traducteur, l’original, publié dans un supplément de la grande presse, n’ayant pas de références).

2. Joel Kotkin, The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class, Encounter Books (New York), 2020.

3. Random House (New York), 2010.

4. Evgeny Morozov est revenu depuis sur son adhérence initiale à l’idée d’un « féodalisme numérique », au point d’en être fortement critique. Voir sa « Critique de la Raison techno- féodale » dans ce dossier.

5. The Formula: The Universal Laws of Success, Little, Brown & Company (Boston), 2018.

6. Traduit en français par Cyril Le Roy, Seuil, 2022.

7. Columbia University Press (New York), 2020.

8. « Hinterland » ici réfère au sens étendu donné à ce terme géographique (arrière-pays d’un port) par Phil A. Neel (voir note 12) : « des zones non urbaines [qui] fonctionnent comme des zones subsidiaires pour le capital mondial et pour les villes des environs » (p. 17). Bref, les aires en déclin économique absolu.

9. L’Origine du capitalisme (traduit par François Tétreau), Lux (Montréal), 2023.

10. Basic Books (New York), 2018.

11. L’Âge du capitalisme de surveillance (traduit par Anne-Sylvie Homassel), Zulma, 2020 (2019).

12. Hinterland : nouveau paysage de classe et de conflit aux États-Unis (traduit par Aurélien Lecuyer), Grévis (Caen), 2020 (2018).

13. Psychologue canadien, auteur notamment de 12 règles pour une vie : un antidote au chaos (Lafon, 2018), aux relents masculinistes.

14. Idéologue néo-fasciste et ultra-nationaliste, théoricien de la Grande Russie eurasiatique, proche de Vladimir Poutine.

15. On the Clock: What Low-Wage Work Did to Me and How It Drives America Insane, Little, Brown & Company (Boston), 2019.

• هذه التّرجمة هي الجزء الثّاني والأخير من مقال نُشر في الأصل في The Los Angeles Review of Books، في 12 ماي 2020، تحت عنوان Neofeudalism: The End of Capitalism?

spot_imgspot_img