ترجمة المنتصر الحملي
الثّقافة والتّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ والعلاقات الطّبقيّة
إذا وضعنا القضايا الثّقافيّة ضمن الإطار الأوسع للتّفكير في البنية اللاّمتكافئة للمجتمعات المعاصرة، فيمكن النّظر في مساهمة التّفاوتات الثّقافيّة في تشكيل التّفاوتات العالميّة، كما تقترح عالمة الاجتماع الأمريكيّة ماريا تشارلز، من خلال الأسئلة الثّلاثة التّالية: ما هو الدّور الّذي تلعبه الموارد الثّقافيّة للجهات الفاعلة في تخصيص المراكز الاجتماعيّة؟ كيف تسهم الثّقافة في بناء الحدود بين الفئات الاجتماعيّة وإدامتها؟ كيف تسهم الثّقافة في إضفاء المشروعيّة على عدم المساواة16؟ يقدّم التّحليل المعاصر للتّفاوتات الاجتماعيّة إجابات شديدة التّنوّع على هذه الأسئلة الثّلاثة. فإذا نظرنا إلى الثّقافة من حيث التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ، فإنّها تظهر بوصفها موردا من بين موارد أخرى يتنافس عليها الأفراد وتساهم في تحديد أولويات المواقع الّتي يشغلونها. تهتم المقاربات من منظور الطّبقات الاجتماعيّة بشكل مختلف بدور الثّقافة، فهي تابعة نسبيّا في النّظريّة الماركسيّة الكلاسيكيّة، وهي أكثر ارتباطا بمفهوم الوضع الاجتماعيّ عند ماكس فيبر. أمّا مفهوم الطّبقات متعدّد الأبعاد الّذي طوّره بيير بورديو في كتابه «التّمييز» La Distinction، والّذي لم يتمّ مع ذلك صياغته بشكل صريح على أنّه نظريّة للطّبقات الاجتماعيّة، فهو يعطي للموارد الثّقافيّة مكانة لا مثيل لها في النّظريّات المتنافسة حول عدم المساواة.
التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ للنّفاذ إلى الموارد
جرت العادة على التّمييز بين طريقتين رئيسيّتين للنّظر في التّفاوتات، فهناك المقاربات المرحليّة والاستمراريّة continuistes من ناحية، وهناك المقاربات العلائقيّة والقطاعيّة من ناحية أخرى. تتوافق الأولى بالأحرى مع مفهوم التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ، بينما تتوافق الثّانية أكثر مع مفهوم الطّبقات الاجتماعيّة والعلاقات بين الطّبقات17. في أبسط تعبير لها، تنظر المقارباتُ الاستمراريّةُ للتّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ إلى التّفاوتات من زاوية الوصول الهرميّ إلى فئات مختلفة من الموارد، المادّيّة وغير المادّيّة: كالدّخل، والتّراث، والتّربية، والوجاهة. من هذا المنظور، تساهم الموارد التّربويّة والثّقافيّة في تحديد المنزلة الّتي يشغلها المرء في السّلّم الاجتماعيّ18. وهكذا يمكن النّظر إلى التّربية من منظور نظريّة رأس المال البشريّ على أنّها استثمار موجّه نحو اكتساب أصول ومهارات ومعارف وخبرات مفيدة للنّشاط الإنتاجيّ ورفاهيّة المجموعة، ولكنّها تمثّل أيضا مصدرا لامتيازات فرديّة في الوصول إلى مراكز مهنيّة وفرص اقتصاديّة واجتماعيّة19.
يتوقّف حجم رأس المال البشريّ أيضا على اللّياقة البدنيّة، والحالة الصّحّيّة، بالإضافة إلى مجموعة من المهارات الاجتماعيّة (كالمهارات العلائقيّة (مهارة التّعامل مع الآخرين)، والثّقة بالنّفس، وطرق التّعبير عن الذّات وارتداء الملابس والتّصرّف، وما إلى ذلك) الّتي يمكن ربطها جزئيّا بمستوى التّربية ولكنّها لا تعزى بالضّرورة إليها بشكل مباشر20. ويفضي رأس المال هذا إلى الحصول على أُجرة عندما يُستَثمَرُ في أنشطة إنتاج السّوق، ولكن من الممكن استغلاله أيضا في مجالات أخرى من الحياة الاجتماعيّة (في الزّواج، والأسرة، والصّداقات الاجتماعيّة). ومن ثمّة، يمكن فهم أيّ مورد ثقافيّ مرتبط بمهارة مفيدة في أيّ مجال اجتماعيّ على أنّه عنصر من عناصر رأس المال البشريّ، كالمعرفة وتذوّق الفنون أو الأدب، والأنشطة الرّياضيّة، والشّغف بالسّفر، وإتقان اللّغات النّادرة، وغير ذلك. لا يجب بلا شكّ الخلطُ بين الثّقافة ورأس المال البشريّ، ولكنّ رأس المال البشريّ يتكوّن جزئيّا من الموارد الثّقافيّة.
تؤكّد الأشكال الأكثر تفصيلا من تحليلات التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ على الجمع بين أبعاده المختلفة (الدّخل والتّربية والثّقافة والوجاهة)، والّتي يمكن أن تكون في بعض الحالات متناقضة. فالمركز المرموق في سُلّم رأس المال البشريّ، حتى المصدَّق عليه حسب الأصول من خلال الشّهادات المناسبة، لا تترجَم بالضّرورة إلى مركز معادل في سُلَّم الدّخل أو الوجاهة، كما نرى على سبيل المثال في حالة المهن العلميّة الّتي تظهر، في عدد من البلدان، في مستوى عالٍ على سلّم وجاهة المهن المختلفة، دون أن يكون مستوى الدّخل المرتبط بها بالضّرورة في مستوى معادل على سُلّم الأجور. وعلى العكس من ذلك، لا يسير دخل مرتفع ما أو وجاهة مرموقة ما بالضّرورة جنبا إلى جنب مع مستوى عالٍ من التّربية، كما نرى ذلك على وجه الخصوص في بعض أسواق العمل النّوعيّة جدّا في مجالي الرّياضة والفنون، التي تخضع لاقتصاد الشّهرة الّذي يكافئ بشكل كبير اختلافات صغيرة جدّا في المهارة أو الموهبة21.
إنّ هذه الوضعيّات تغذي الظّواهرَ المتكرّرة إلى حدّ ما لعدم الاتّساق القانونيّ22 الّتي تشكّل إحدى العقبات الرّئيسيّة أمام قيام مجتمعات ذات مصالح وخبرات مشتركة، منظَّمة ومتماسكة، ومرتبطة، في مقاربات أخرى لتشكيل عدم المساواة، بمفهوم الطّبقة الاجتماعيّة. ففي حين أنّ المقاربات القائمة على التّقسيم الطّبقيّ تقتصر على وصف عدم المساواة في المراكز الهرميّة من خلال الوصول المتباين للأفراد إلى فئات مختلفة من الموارد، المادّيّة وغير المادّيّة، فإنّ المقاربات من حيث الطّبقات تركّز على التّحليل الهيكليّ للعلاقات بين مجموعات.
في هذه المقاربات الأخيرة، يكون عدم المساواة نتاجا للعلاقات المرتبطة بنظام المراكز الّتي يحتلّها النّاس في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والّذي يفرض عدم التّكافؤ في النّفاذ إلى الموارد المشترَكة الّتي لا يمكن اختزالها في تجميع السّلوكيات الفرديّة. ومن هذا المنظور، فإنّ طريقة النّظر إلى مساهمة الموارد الثّقافيّة في صناعة التّفاوتات تختلف بشكل كبير جدّا وفقا للتّقاليد النّظريّة. فهي محدودة للغاية في المقاربات الماركسيّة التّقليديّة، وأقوى حضورا في النّظريات البديلة حول الطّبقات الاجتماعيّة.
البنية الفوقيّة الثّقافيّة للعلاقات الطّبقيّة
للوهلة الأولى، تحتل الثّقافة مكانة محدودة نوعا ما في النّظريّة الماركسيّة حول الطّبقات الاجتماعيّة، حيث يتحدّد التّقسيم الطّبقيّ للمجتمع بالكامل ببنية علاقات الإنتاج، أي بالعلاقة العدائيّة الّتي يولّدها كلّ من عدم التماثل في السّيطرة على ملكيّة وسائل الإنتاج وآليّة استخراج فائض القيمة من العمل الّتي يقع في صميم ديناميكيّة تراكم رأس المال23. في شكلها الأوّلي، أي كما ظهرت في «البيان الشّيوعيّ»، حُدِّدَت البنية الطّبقيّة في التّعارض الثّنائيّ بين البرجوازيّة، الّتي تمتلك رأس المال، والبروليتاريا، الّتي لا تملك سوى قوّة عملها، والّتي يشكّل استغلالها مصدرا للرّبح.24. في بعض كتاباته اللاّحقة، عدّل كارل ماركس من هذا التّوصيف الثّنائي ليأخذ في الاعتبار تعقيد المجتمعات الحقيقيّة25. ولكن حتّى في نسخته الأكثر تفصيلا، يظلّ المفهوم الماركسيّ للطّبقات مادّيّا في جوهره. فهو يميّز «البنية التّحتيّة» المادّيّة لعلاقات الإنتاج عن «البنية الفوقيّة» الإيديولوجيّة والثّقافيّة والقانونيّة للعلاقات الرّمزيّة بين الطّبقات الاجتماعيّة، وذلك باستخدام الصّيغة الواردة في مقدمة كتاب «نقد الاقتصاد السّياسيّ».26. من المؤكّد أنّه يمكن أن توجد «ثقافات طبقيّة»، ولكنّ هذه ليست سوى تمظهرات ناشئة عن الرّكيزة المادّيّة لبنية علاقات الإنتاج.
يجب علينا أيضا أن نضع في اعتبارنا أنّ ظهور السّمات الثّقافيّة الخاصّة بكلّ طبقة، والّذي يشير إلى تشكّل وعي طبقي، ليس آليّا. إنّ سيرورة التّذويت الطّبقيّ subjectivation de la classe هذه، الّتي لا تؤشّر فقط للتّعبير عن شعور بالانتماء أو الهويّة، وإنّما هي جزء من مجموعة من الممارسات والمواقف المنتشرة، تظلّ غير مؤكَّدة إلى حدّ كبير27. وهذا ما سيؤكّد عليه فلاسفة مدرسة فرنكفورت في القرن العشرين، عندما أعادوا النّظر في المفهوم الماركسيّ للاستلاب أو الوعي الزّائف.28. ووفقا لهؤلاء المؤلّفين، فإنّ الاستغلال الّذي تعاني منه الطّبقة العاملة في مجال الإنتاج يمتدّ إلى مجال الاستهلاك عبْرَ نشر وسائل الإعلام والإعلان وصناعة الثّقافة لتطلّعات وتمثيلات منمَّطة تساهم في صياغة رؤية موحَّدة بشكل مخادع عن مجتمع خال من تناحره الطّبقيّ29.
يرتبط تجديد الفكر الماركسيّ حول المكوّن الثّقافيّ للعلاقات الاجتماعيّة ارتباطا وثيقا بأعمال أنطونيو غرامشي30. يُعَدّ غرامشي أوّل مؤلّف في الحقل الماركسيّ يطرح صراحة، في بداية الثّلاثينيات، مسألة الحتميّة الاقتصاديّة. وبشكل أكثر دقّة، يرفض غرامشي التّفسير الأحاديّ الجانب للعلاقة بين البنية التّحتيّة والبنية الفوقيّة، الّذي ظلّ مهيمنا بين المفكّرين الماركسيين في عصره، ويؤكّد على أهمّيّة المجال الثّقافيّ واستقلاليّته في علاقات القوى، ولا سيّما من خلال مفهوم السّطوة hégémonie. ومع ذلك فهو لا يرفض جوهر التّحليل الماركسيّ الّذي يضع علاقات الإنتاج والاستغلال في أساس بنية الطّبقات الاجتماعية. ولكنّ التّناحر الطّبقيّ بالنّسبة إلى غرامشي لا يمكن اختزاله في هذا الحدّ. كما أنّه يعتمد على فرض رؤية للعالم لا تقوم فقط ولا حتّى بشكل أساسيّ على الضّرورة. ولذلك، فإنّ الصّراع الطّبقيّ يحدث أيضا على أرضيّة الأفكار والتّمثيلات. فهيمنة البرجوازيّة، تاريخيّا، انطلقت في الوقت نفسه من الاستيلاء على السّلطة الاقتصاديّة ومن بناء سطوة ثقافيّة قطعت مع قيم النّظام القديم، عن طريق التّشكيك في امتيازات المنشأ وتثمين الجدارة الشّخصيّة، على وجه الخصوص، الّتي يتجاوز تأثيرها كثيرا حدودَ البرجوازيّة. إنّ النّضالات التّحرّريّة للطّبقة العاملة، بحسب غرامشي، تمرّ عبر بناء سطوة مضادّة، متجذّرة في ثقافة الشّعب، وتقطع مع قيم البرجوازيّة، وتعتمد أيضا على عمل المثقّفين، هذا العمل الّذي يوليه غرامشي أهمّية قصوى.
شكّل فكر غرامشي مصدرَ إلهام مباشر لحركة الدّراسات الثّقافيّة cultural studies، الّتي ظهرت داخل مركز الدّراسات الثّقافيّة المعاصرة في برمنغهام على خُطى ريتشارد هوغارت Richard Hoggart31 وريمون ويليامز Raymond Williams32. يولي المؤلفون المنتمون لهذا التّقليد اهتماما خاصّا للحركات الثّقافيّة المضادّة النّابعة من شباب الطّبقة العاملة33. ولكنّهم يهتمّون أيضا بمنتجات صناعة الثّقافة الجماهيريّة والإعلام 34. إنّهم يتقاسمون مع غرامشي الاهتمامَ بالعلاقات بين السّلطة والثّقافة، مع التّركيز على استقلاليّة المجال الثّقافيّ النّسبيّة، حيث تتمكّن الطّبقات الشّعبيّة من بناء استراتيجيّات مقاومة للهيمنة الّتي تعاني منها في نظام العلاقات الاقتصاديّة. هذا الاهتمام نفسه باستقلاليّة الثّقافات المهيمَن عليها نعثر عليه عند إدوارد ب. طومسون Edward P. Thompson، المؤرّخ الكبير للطّبقة العاملة البريطانيّة الّذي يؤكّد على الاستقلاليّة النّسبيّة للثّقافة العمّاليّة إزاء الثّقافة المهيمنة وكذلك إزاء ركيزتها المادّيّة35.
خضع تهميش الموارد الثّقافيّة في تحليل العلاقات غير المتكافئة بين الطّبقات الاجتماعيّة لنظام آخر من المراجعة في المتابعات المعاصرة للنّظريّة الماركسيّة حول الطّبقات الاجتماعيّة، والّذي تزامن مع ظهور مرحلة الرّأسماليّة ما بعد الصناعيّة (الرّأسمالية الماليّة و»الرّأسماليّة المعلوماتيّة36»). فالتّحوّلات المعاصرة للرّأسماليّة جاءت مصحوبة بتطوّر في مهامّ الخبرة والإشراف الّتي لم تعد تعتمد بشكل مركزيّ على استغلال قوّة العمل المادّيّة وتفكيك للبُنى التّنظيميّة للصّناعة الكبرى الّتي لم تعد تتناسب مع النّموذج الجسديّ لإدارة عمل الورشة37. إنّ الرّسم التّخطيطيّ الطّبقيّ الّذي اقترحه عالم الاجتماع الأمريكيّ ذو التّوجّه الماركسيّ إريك أولين رايت Erik Olin Wright، يتناسب بشكل جيّد، في نسخه المتعاقبة، مع منطق هذه التّحوّلات. يعتمد النّموذج الّذي اقترحه إريك أولين رايت، والّذي صِيغ في الأصل في نهاية سبعينيات القرن المنصرم ونُقِّحَ في عامي 1985 و1997، على التّمييز بين ثلاثة معايير تتوافق مع البنية المعاصرة للعلاقات الطّبقيّة أكثر من الرّسم التّخطيطيّ الماركسيّ الكلاسيكيّ، فيستعير من هذا الأخير المعيار المركزيّ المتمثّل في ملكيّة رأس المال ويضيف إليه معيار إتقان مهارات الخبرة ومعيار التّحكّم في الموارد التّنظيميّة38. وعلى هذا الأساس، فإنّ الرّسم التّخطيطيّ المقترح يميّز بين اثنتي عشرة فئة يشير تعيينُ حدودها بوضوح إلى البعد الثّقافيّ للموارد المرتبطة بالمعيارين الأخيرين، اللّذيْن لا يتعلّقان بالتّحكّم المادّيّ في وسائل الإنتاج39.
لقد وجدت الأجيال القادمة من التّحليل الماركسيّ للطّبقات الاجتماعيّة أخيرا في عمل أجيه ب. سورنسن Aage B. Sørensen متابعة تنسجم بشكل أكبر مع مراعاة البعد الثّقافيّ لعدم المساواة40. يقترح سورنسن تعميم المفهوم الماركسيّ للطّبقات الاجتماعيّة على أساس معيار تضارب المصالح المرتبط بعلاقة الاستغلال من خلال مفهوم «الأصول المنتجة للإيراد actif producteur de rente»، والّذي يُعتبَر رأسُ المال، في شكله المادّيّ أو الماليّ، واحدا منها فقط. ووفقا لهذا التّصوّر، لا تندرج جميع الأصول التّراثيّة ضمن تعريف علاقة طبقيّة ما. إنّ الأصول الّتي توفّر حيازتها إيرادا معيّنا على حساب الآخرين هي التي تمتلك دون سواها هذه الخاصّيّة. وبعبارة أخرى، ليست كلّ الثّروة مصدرا للاستغلال. إنّ الموارد الّتي تُعتَبر كذلك هي فقط تلك الّتي لا تخلق حيازتُها عدمَ مساواة هيكليّة ودائمة فحسب، بل وتخلق أيضا امتيازا لأولئك الّذين يمتلكونها على حساب حرمان أولئك الّذين لا يملكونها. من بين هذه الموارد، يحدّد سورنسن الإيرادات المرتبطة بالتّحكّم في العرض (على سبيل المثال، الإيرادات الاحتكاريّة)، والإيرادات المرتبطة بالتّحكّم في المعلومات أو الاحتفاظ بها، ولكن أيضا الإيرادات المرتبطة بالمهارات أو المواهب أو الإيرادات المرتبطة بالدّيبلومات أو بالكفاءة المعتمَدة، والّتي تتعلّق، على الأقلّ جزئيّا، بموارد ثقافيّة. تتبنّى نظريّة الإيراد هذه وتُعمّم المنطق الّذي اقترحه في بداية ثمانينيات القرن الماضي عالمُ الاجتماع الماركسيّ الجديد جون إي رومر John E. Roemer الّذي أدرج بدوره الأرباح المستخلَصة من التّربية ضمن علاقة استغلال41.
الثّقافة بوصفها حدودا وعلامة على المنزلة
تختلف المقاربة الفيبريّة (نسبة إلى ماكس فيبر – المترجم -) للطّبقات عن المقاربة الماركسيّة من حيث الاستقلاليّة الّتي تمنحها لثلاثة تنظيمات مختلفة من التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ، تنظيمات وإن كانت غير مستقلّة تماما عن بعضها البعض، إلاّ أنّها متمايزة: تنظيم الطبقة الاقتصاديّ، وتنظيم مجموعات المكانة أو الوجاهة الاجتماعيّ، وتنظيم الأحزاب السّياسيّ42. يميّز التّعريف الفيبريّ للطّبقات الاجتماعيّة من النّاحية المفاهيميّة بين «الطّبقات المالكة» و»الطّبقات المنتِجة»، وكلاهما مقسَّم إلى طبقات مميَّزة، وطبقات مميَّزة سلبيّا، وطبقات وسطى تتخلّلهما. إنّ الجمع بين هذين المستويين من التّحليل يفضي في النّهاية إلى التّمييز بين أربع طبقات: هي «الطّبقة العاملة»، و»البرجوازيّة الصّغيرة» و»التّقنيّون» و»والملاّكون». هذا التّمييز المفاهيميّ الّذي أقامه فيبر بين تنظيم الممتلكات وتنظيم الإنتاج تترتّب عليه نتيجة طبيعيّة وهي أنّ الهيكلة الطّبقيّة لا تعتمد حصريّا على علاقات الإنتاج، ولكن أيضا على علاقات السّوق للوصول إلى أنواع مختلفة من الممتلكات والفرص. ولذلك فإنّ العلاقة بين الطّبقات لا يحدّدها بالضّرورة صراع المصالح وتناحرها في مجال علاقات الإنتاج، هذا المجال الّذي وإن لم يكن خافيا، إلاّ أنّه ليس مقصورا على علاقات التّعاون. وعلاوة على ذلك، تُحَدَّدُ الطّبقاتُ اسميًا من خلال عدد معين من المعايير الموضوعيّة الّتي لا تتوافق بالضرورة مع وعي جماعيّ ما أو مع هويّة طبقيّة ذاتيّة معقودة على دمج المصالح الفرديّة في مصلحة جماعيّة عليا.
إلى جانب تنظيم الطّبقات الاقتصاديّ هذا، يقدّم فيبر التّنظيم الاجتماعيّ لـ «مجموعات المكانة» بناء على الوجاهة المرتبطة بالمنشأ أو المهنة أو نمط الحياة أو مستوى التّعليم. إنّ هذا النّظام القانونيّ هو الّذي ينشأ منه البعد الثّقافيّ للتّفاوتات بشكل رئيسيّ. في سلسلة من الدّراسات الّتي أُجريت في أوائل العقد الأوّل من هذه الألفيّة، يزعم تاك وينغ تشان Tak Wing Chan وجون غولدثورب John Goldthorpe أنّ أنماط الحياة والأذواق والعادات الثّقافيّة يقتضي تحليلا من منظور المنافسة القانونيّة أكثر منه من منظور العلاقات الطّبقيّة، وذلك على عكس التّصويت، على سبيل المثال، الّذي تتجذّر رهاناته بشكل مباشر في المصالح الطّبقيّة4ج. وهكذا فإنّ هذه المنافسة القانونيّة، الّتي تذكّرنا بآثار المحاكاة الّتي حلّلها فيبلين Veblen في نفس الفترة تقريبا في تأمّلاته حول البعد التّفاخريّ للاستهلاك وأنماط الحياة44، ستجري على هامش العلاقات الطبقيّة بالمعنى الدّقيق للكلمة، وإنّ ما سيحصل في هذه المسألة سيكون متعلّقا بالتّنافس أكثر منه بالصّراع.
أمّا التّنطيم الثّالث والأخير، أي تنظيم الأحزاب، فهو يشير إلى تشكيل تجمّعات مخصَّصة للاستيلاء على السّلطة أو التّأثير عليها. إنّ التّمييز المفاهيميّ بين الطّبقة والمنزلة والحزب لا يستبعد وجود تقارب قويّ إلى حدّ ما بين هذه التّنظيمات الثّلاثة للتّقسيم الطّبقيّ في واقع المجموعات الاجتماعيّة الملموسة، كما يمكن رؤيته في بعض العمليّات التّفعيليّة opérationnalisations المعاصرة لمفهوم الطّبقة المستوحاة من هذا الإرث. هذا هو الحال بشكل خاصّ في الرّسم التّخطيطيّ للطّبقات الّذي طوّره جون غولدثورب بمعيّة اثنين من زملائه، هما روبرت إريكسون Robert Erikson ولوسيان بورتوكاريرو Lucienne Portocarrero في أواخر السّبعينيات45، والّذي يشار إليه عادة بالعبارة المختصرة EGP. لقد أصبح هذا الرّسم التّخطيطيّ الطّبقيّ، على مرّ السّنين، على الصّعيد الدّوليّ، هو النّمط السّائد لترميز الطّبقات الاجتماعيّة، لا في الدّراسات الاجتماعيّة فحسب، ولكن أيضا في الإحصاءات الرّسميّة، لدرجة أنّ المدوّنة الأوروبّيّة لأسماء المهن والفئات الاجتماعيّة-المهنيّة المعروفة باسم ESeG (المجموعات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأوروبّيّة) الّتي طُوِّرت داخل المديريّة العامّة للمفوّضيّة الأوروبّيّة المسؤولة عن المعلومات الإحصائيّة على مستوى المجتمع (Eurostat)، قد انبثقت مباشرة منه46.
في الرّسم التّخطيطيّ لـ EGP وكذلك في مدوّنة التّسميات ESeG، تُحال الطّبقة الاجتماعيّة على تصنيف المجموعات المهنيّة، من خلال معيار طبيعة علاقة العمل، والّذي يميّز بين الفئات الّتي تندرج تحت عقد العمل وتلك الّتي تندرج تحت ما يعنيه جولدثورب بمفهوم «علاقة الخدمة». ففي حين أنّ عقد العمل، الّذي ينطبق في المقام الأوّل على المهن التّنفيذية الأقلّ تأهيلا، يقوم على تبادل مَبلغ معيّن من الأجر مقابل قدْر معيّن من ساعات العمل الّتي تخضع لرقابة صارمة للغاية وتمنح هامشا صغيرا من الاستقلاليّة للعامل أثناء ممارسة مهمّته، فإنّ علاقة الخدمة تنطبق على جميع الأنشطة ذات المؤهّلات المتوسّطة أو العالية، والّتي يتم التّبادل فيها على قاعدة استقلاليّة أكبر وسيطرة أكثر مرونة على تنفيذ المهامّ الأكثر تأهيلا، والّتي تُقاسُ من حيث الأداء المنجَزَ أكثر منه من حيث كمّية العمل المبذولة47. وهكذا فإنّ طبيعة علاقة العمل تحدّد جوانب مختلفة من شروط الحياة الخاصّة بالطّبقات المختلفة (كمستوى الدّخل، والاستقلاليّة، ولكن أيضا الوجاهة)، بحيث لا يظهر الفصل التّحليليّ بين تنظيم الطّبقة وتنظيم المنزلة في مجموعات متمايزة.
يمكن ملاحزة العلاقة المفصليّة بين المستويات المختلفة للتّقسيم الطّبقيّ بشكل أكثر تحديدا في دراسة تدفّقات الحراك الاجتماعيّ الّتي تُعَدُّ، في النهج المستلهَم من غولدثورب، مؤشّرا قويّا على البنية غير المتكافئة للعلاقات بين الطّبقات وصلابة الحدود الّتي تفصلها عن بعضها البعض. إنّ تحليل معوّقات الحراك يكشف بالفعل عن آليات الانغلاق الاجتماعيّ الّتي لا تقوم بالضّرورة على إجراءات ظاهرة، إذ يوجد مع ذلك عدد معيّن منها، كما في حالة تنظيم الوصول إلى بعض المهن عبْر التّحكّم في توزيع الشهادات أو تراخيص الممارسة، أو حتّى في حالة تقييد الوصول إلى أسواق مهنيّة معيّنة من خلال احتكار النّقابة للتّوظيف، على وجه الخصوص. ومع ذلك، هناك عقبات أخرى، أكثر انتشارا، تشكّل حواجز صلبة للغاية بين الطّبقات الاجتماعيّة48. تتعلّق هذه العقبات بأشكال التّواطؤ الّتي تتجلّى في توجيه الأذواق أو أنماط العيش، أو في طرق التّعبير عن الذّات أو التّصرّف، باختصار في مجموعة من الخصائص الثّقافيّة الّتي تعمل، ضمن مجموعة واسعة من ظروف الحياة الاجتماعيّة، في المدرسة أو في الحياة المهنيّة، وفي حالات التّوظيف، أو حتّى في العلاقات الودّيّة أو الرّومنسيّة، بوصفها علامات للمنزلة وتعزّز انغلاق الفئات الاجتماعيّة على نفسها. في فرنسا، يمكن قراءة أعمال ميشيل بينسون Michel Pinçon ومونيك بينسون شارلوت Monique PinçonCharlot حول أشكال الحفاظ على قوقعة الطّبقات العليا من البرجوازيّة من هذا المنظور بشكل خاصّ، حتّى وإن كانت تمثّل بلا شكّ حالة خلافيّة.49. إنّه ليس من الضّروريّ أن توجد مثل هذه الاستراتيجيّات المتّعمدة إلى هذا الحدّ للجهات الفاعلة حتّى تمارس الانتماءات الثّقافيّة تأثيرات الانغلاق الاجتماعيّ الّتي غالبا ما تنتج عن سلوكيات غير موجَّهَة قصديّا نحو هذه الغاية ولكنّها تؤدّي إلى نتائج مماثلة…
من وجهة نظر انقسام المجتمع إلى طبقات، فإنّ استقلاليّة العنصر الثّقافي المرتبط بآليات الانغلاق الاجتماعيّ هذه – والّتي يمكن إرجاعها تحليليًا إلى البعد القانونيّ للتّقسيم الطّبقيّ ولكن تظل مرتبطة بمجموعات محدّدة غالبا ما يُخْلَطُ بينها والواقع المعيش للطّبقات الاجتماعيّة – ترجع أيضًا إلى حقيقة أنّها لا تندرج بشكل منهجيّ ضمن علاقة الاستغلال بالمعنى الماركسيّ للمصطلح. إنّها بالتّأكيد تنطوي على احتكار وصول مجموعات معيّنة إلى الموارد والفرص الّتي تُستبعَد منها مجموعاتٌ أخرى، ولكنّها لا تنطوي بالضّرورة على علاقة تبعيّة تخضع فيها هذه الأخيرة للأولى55.
الفصل الأوّل من كتاب Culture de masse et société de classes، منشورات بيف، 2021.