ترجمة المنتصر الحملي
(هذه الترجمة مهداة إلى روح شهيد الفكر الحرّ، شهيد النّضال من أجل عالم أفضل لا مكان فيه للتّعصّب والوثوقيات والظّلم والقهر والاستغلال والاستعباد، إلى شكري بلعيد في الذّكرى الحادية عشرة لاغتياله).
كثيرون جدّا، ولكنّنا مشتَّتون، نحن الّذين نواجه المزيد والمزيد من الصّعوبات في تحمّل هيمنة الرّبح والمال والحساب، (الإحصائيات، والنّموّ، والنّاتج المحليّ الإجماليّ، واستطلاعات الرّأي)، الّتي تتغاضى عن احتياجاتنا الحقيقيّة وكذلك تطلّعاتنا المشروعة إلى حياة مستقلّة بذاتها ومجتمعيّة على حدّ سواء.
كثيرون جدّا، ولكنّنا مفكَّكون ومجزّؤون، نحن الرّاغبين في أن يصبح الثّالوث «الحرّيّة والمساواة والأخوّة» معيارا لنا في حياتنا الشّخصيّة والاجتماعيّة لا قناعا لتنامي العبوديّات والفوارق والأنانيات.
خلال العقود الأخيرة، مع سيطرة الاقتصاد اللّيبرالي المعولَم، أُطلق العنان للرّبح على حساب التّضامن والتّعايش. فأُلغيت المكاسب الاجتماعية جزئيّا، وتدهورت الحياة الحضريّة، وفقدت المنتجات مميّزاتها (تقادمها المخطَّط له، وحتّى إخفاء عيوبها)، مثلما فقدت الموادّ الغذائيّة فضائلها ونكهاتها ومذاقاتها.
صحيح طبعا أنّ هناك العديد من واحات الحياة الحبّيّة والأسريّة والأخويّة والودّيّة والمتضامنة والمرحة الّتي تشهد على صمود الرّغبة في الحياة الكريمة. ولا يمكن لحضارة المصلحة والحساب أن تقضي عليها أبدا. ولكنّ هذه الواحات ما تزال مبعثرة للغاية ومنفصلة عن بعضها البعض.
ومع ذلك، فهي تنمو، ويرسم التّضافر بينها ملامح وجهَ حضارة أخرى ممكنة.
حضارة أخرى ممكنة
إنّ الوعي الإيكولوجيّ، النّاشئ عن العلم الّذي يحمل نفس الاسم، لا يبيّن فقط حاجتنا الملحّة لتطوير مصادر الطّاقة النّظيفة والتّخلّص التّدريجيّ من المصادر الأخرى، بما في ذلك المصدر النّوويّ الخطير للغاية، ولكن أيضا حاجتَنا لتخصيص حصّة متزايدة الأهمّيّة من الاقتصاد إلى نظافة المدن الملوَّثة وإلى سلامة الزّراعة، ومن ثمّة إلى التّقليص من نطاق الزّراعة وتربية الحيوانات الصّناعيّتين لصالح الفلاحة الزّراعيّة والزّراعة الإيكولوجيّة.
إنّ تحقيق انتعاش اقتصاديّ هائل في هذا الاتّجاه، بدفع من تطوّرات الاقتصاد الاجتماعيّ والتّضامنيّ، من شأنه أن يسمح بالحدّ بشكل كبير من البطالة ومن هشاشة العمل أيضا.
سيكون من الضروريّ إصلاح ظروف العمل باسم هذه المردوديّة نفسها الّتي تتسبّب اليوم في مَكْنَنَةِ mécanisation السّلوك، وحتّى الرَّوْبَتَة robotisation واستنزاف الذّات والأمراض والبطالة – ممّا يقلّل بالتّالي من المردوديّة المطلوبة كثيرا. في الواقع، يمكن الحصول على المردوديّة لا من خلال رَوْبَتَةِ السّلوكيات، بل من خلال العمالة الكاملة للشّخصية ومسؤوليّة الأُجَراء. لا يجب أن يُنظر إلى إصلاح الدّولة على أنّه تخفيض أو ترفيع في عدد الموظّفين، بل باعتباره قضاء على البيروقراطيّة، أي تواصلا بين المبادرات المجزَّأة والتّغذيات المرتدّة المستمرّة بين مستويات الإدارة ومستويات التّنفيذ.
سيكون إصلاح الاستهلاك أمرا حاسما. سيسمح باختيار المنتجات اختيارا مستنيرا وفقا لمزاياها الحقيقيّة وليس المزايا الوهميّة الّتي تروّج لها الإعلانات أو المؤثرون، وهذا من شأنه أن يحدّ من التّسمّم الاستهلاكيّ (بما في ذلك التّسمّم النّاجم عن السّيارات والأغذية). وسيصبح الذّوق والنّكهة والجماليات هو الموجّه للاستهلاك الّذي سيؤدّي، مع تطوّره، إلى تراجع الزّراعة الصّناعيّة والاستهلاك المسخ وغير الصّحّيّ، ومن ثمّة إلى تراجع هيمنة الرّبح.
إنّ تطوير دوائر التّسويق القصيرة، لا سيما المخصّصة منها للأغذية، عبر الأسواق والجمعيات، سيعزّز صحّتنا ويحدّ من سيطرة الفضاءات التّجاريّة الكبرى والمنتجات فائقة المعالَجة.
بالإضافة إلى ذلك، ستسمح مقاومة المنتجات ذات التّقادم المخطَّط له (على غرار السّيّارات، والثّلاّجات، والحواسيب، والهواتف المحمولة، والجوارب، وما إلى ذلك) بالنّهوض بحرف يدويّة جديدة. فضلا عن ذلك، سيسمح تشجيع المتاجر المحلّيّة بإضفاء الطّابع الإنسانيّ على مدننا إلى حدّ كبير. كلّ هذا سيؤدّي في ذات الوقت إلى تراجع هذه القوّة الاقتصاديّة التّكنولوجيّة الهائلة الّتي تدفع إلى المجهوليّة (أي إخفاء الهويّة)، وغياب العلاقات الودّيّة مع الآخرين، غالبا حتّى في نفس المبنى السّكنيّ.
علاوة على ذلك، اكتسب المستهلكون، أي جميع المواطنين، سلطة هم غير قادرين على رؤيتها بسبب انعدام التّرابط الجماعيّ، ولكن بمجرّد أن تصبح مستنيرة ومنيرة، سيكون بإمكانها أن تحدّد توجّها جديدا ليس للاقتصاد فحسب (الصّناعة والزّراعة والتّوزيع)، ولكن أيضا لحياتنا الاجتماعيّة المشتركة على نحو متزايد.
إنّها حضارة جديدة ستنحو إلى استعادة أشكال تضامن محلّيّ أو بناء أشكال تضامن جديدة – مثل إنشاء بيوت تضامن في البلدات الصّغيرة وأحياء المدن الكبيرة. حضارة ستشجّع على التّعايش الودّيّ الّذي هو الحاجة البشريّة الأولى الّتي تحول دونها الحياة المعقلَنة والموقوتة والمكرّسة للنّجاعة.
بإمكاننا أن نستعيد فضائل العيش الكريم من خلال توخّي سبل إصلاح وجوديّ.
علينا أن نوجد وقتا لإيقاعاتنا الخاصة، لا يخضع إلاّ جزئيّا لضغط الموقوت. هكذا يمكننا المراوحة بين فترات السّرعة (ذات الخصائص المثيرة) وفترات البطء (بخصائصها المطمئِنة).
دعونا نستعدْ مذاق حياة زاخرة بالشّعريّة من خلال الاحتفال والتّواصل في الفنون والمسرح والسّينما والرّقص.
خارجَ مجالِ حياتنا اليوميّة، نحن نتطلّع إلى المشاركة في العالم، وندرك انتماءنا إلى البشريّة المتداخلة اليوم. نحن نعتقد، مثلما قال مونتيني Montaigne بالفعل في القرن السّادس عشر، أنّ «أيّ إنسان هو ابن وطني» وأنّ الإنسانويّة تتبدّى بوصفها احتراما لكلّ كائن بشريّ. إنّ أوطاننا في تفرّدها هي جزء من المجتمع البشريّ، كما أنّ فردياتنا في فراداتها هي جزء من المجتمع البشريّ. فالمشاكل والمخاطر الحيويّة الّتي نجمت عن العولمة تربط الآن بين كلّ البشر في مجتمعِ المصير المشترك. علينا أن نعترف بوطننا الأرضيّ (الّذي جعلنا أبناء الأرض)، ووطننا الدّنيويّ (الّذي يستوعب أوطاننا المختلفة)، ومواطنتنا الأرضيّة (الّتي تعترف بمسؤوليتنا عن المصير الدّنيويّ). كلّ واحد منّا هو لحظةٌ، هو جزيء من مغامرة الإنسان العاقل-المعتوه Homo sapiens-demens العظيمة والمذهلة. ولكنّ هذه المغامرة، الّتي حفّزتها ولادة الإمبراطوريات والحضارات وصعودها وسقوطها، انجرفت داخل صيرورة حيث كلّ ما كان يبدو مستحيلا بات أمرا ممكنا، في الأسوأ كما في الأفضل. ومن ثمّة، فإنّ رغبتنا في إعادة أنسنة بلداننا وقارّاتنا وكوكبنا وتجديدها بحاجة ماسّة إلى إنسانويّة شاملة ومتجدّدة.
لقد خلقت العولمة بفرصها وأكثرَ بمخاطرها، مجتمعَ وحدة المصير لجميع البشر. لذلك، ينبغي لنا جميعا مواجهة التّدهور البيئيّ، وانتشار أسلحة الدّمار الشّامل، وهيمنة التّمويل على دولنا ومصائرنا، وتنامي التّعصّب الأعمى، وعودة الحرب في أوروبّا. وإنّه لمن عجيب المفارقات أن نرى النّاس، في الوقت الّذي ينبغي أن نعيَ فيه بشكل متضامن وحدةَ مصيرِ جميع سكّان الأرض، يلوذون في كلّ مكان، بفعل الأزمة الكوكبيّة والمخاوف الّتي تثيرها فينا، إلى الخصوصيات العرقيّة والقوميّة والدّينيّة.
إنّنا ندعو الجميع إلى أن يكونوا واعين وإنّنا نصبو إلى تعميم هذا الوعي حتّى يتمّ أخيرا معالجة المشكلات الكبرى على الصّعيد العالميّ.
التّحديث المنقوص
لقد انحرف النّقاشَ حول القدامة والحداثة بسبب المعنى المزدوج الّذي يتضمّنه كلّ من هذين المصطلحين. فإذا كانت «القدامة» تعني التّكرار الشّعاراتيّ لصيغ جوفاء عن تفوّق الاشتراكيّة، ومزايا اتّحاد اليسار، ومناشدة «قوى التّقدّم»، فيجب علينا إذٌا أن نقطع مع هذه القدامة. وإذا كانت تعني إعادة شحن أنفسنا من التّطلّعات إلى عالم أفضل، فمن الضّروريّ إذًا النّظر فيما إذا كانت الاستجابة لهذه التّطلّعات ممكنة وفي كيفيّة الاستجابة لها. وإذا كانت الحداثة تعني التّكيّف مع الحاضر، فهي إذُا منقوصة جذريّا لأنّ المسألة تتعلّق بالتّكيّف مع الحاضر من أجل محاولة تكييفه لاحتياجاتنا. وإذا كانت تعني مواجهة تحدّيات الزّمن الحاضر، فعلينا إذًا أن نكون حديثين بشكل حازم. على أيّ حال، لا يتعلّق الأمر فقط بالتّكيّف مع الحاضر. إنّه يتعلّق في نفس الوقت بالإعداد للمستقبل. أخيرا، دعونا نلاحظْ أنّ ما هو حديث، عندما يكون معناه الإيمان بالتّقدّم المضمون وبعصمة التّقنية، قد عفا عليه الزّمن بالفعل.
من المؤكد أنّنا يجب أن نتخلّى من الآن فصاعدا عن أيّ «قانون» للتّاريخ، عن أيّ إيمان قدريّ بالتّقدّم، وأن نجتثّ الإيمان الكارثي بالخلاص الدّنيويّ. ينبغي أن نعلم أنّ التّاريخ، وإن كان يخضع لحتميات مختلفة (غالبا ما تتصادم وتسبّب الفوضى)، هو تاريخ عشوائيّ، يمرّ بتشعّبات غير متوقّعة. علينا أن نعلم أنّ فعل الحُكْمِ هو عمل قياديّ، حيث يكون فنّ القيادة هو فنّ السّير في ظروف غير آمنة ويمكن أن تصبح دراماتيكيّة. يخبرنا المبدأ الأول لإيكولوجيا الفعل بأنّ أيّ فعل يمكن أن يحيد عن مقاصد الفاعل ليدخل في لعبة التّغذيات المرتدّة الدّاخليّة interrétroactions للبيئة، ويؤدّي إلى عكس التّأثير المنشود.
نحن بحاجة إلى تفكير قادر على استيعاب الأبعاد المتعدّدة للحقائق، وإدراك لعبة التّفاعلات والتّغذيات المرتدّة، والتّعامل مع التّعقيدات بدلا من الاستسلام للمانويّة الإيديولوجيّة أو للتّشويهات التّكنوقراطيّة (الّتي لا تعترف إلاّ بالحقائق المجزّأة بشكل تعسّفيّ، وتعمى عمّا لا يخضع للقياس الكمّيّ وتتجاهل التّعقيدات البشريّة).
علينا أن نتخلّى عن العقلانيّة الزّائفة. فالاحتياجات البشريّة ليست اقتصادية وتقنيّة فحسب، ولكنّها عاطفيّة وأسطوريّة أيضا.
من الإنسان البروميثيوسيّ إلى الإنسان الواعد
كان منظور الاشتراكيّة الأصليّ أنتروبولوجيّا (فيما يتعلّق بالإنسان ومصيره)، وعالميّا (أمميّا)، وحضاريّا (غرس روح التّآخي في الجسد الاجتماعيّ، والقضاء على همجيّة استغلال الإنسان للإنسان). يمكننا ويجب علينا شحن أنفسنا بهذا المشروع مع تعديل شروطه.
كان على إنسان ماركس أن يعثر على خلاصه من خلال «تخليص نفسه من الاستلاب»، أي من خلال تحرّره من كلّ ما هو غريب عن ذاته، وتحكّمِه في الطّبيعة. إنّ فكرة الإنسان «المتحرّر من الاستلاب» هي فكرة غير عقلانيّة: إذ لا يمكن الفصل بين الاستقلاليّة والاعتماديّة. فنحن نعتمد على كلّ ما يغذّينا وينمّينا؛ نحن مملوكون لما نملكه: للحياة، والجنس، والثّقافة. إنّ أفكار التّحرّر المطلق، وإخضاع الطّبيعة، والخلاص الأرضيّ، هي جزء من هذيان تجريديّ.
إلى جانب ذلك، أظهرت التّجربة التّاريخيّة للقرن العشرين أنّ الإطاحة بطبقة مهيمنة أو تحقيق التّملّك الجماعيّ لوسائل الإنتاج لا يكفي لانتزاع الإنسان من براثن الهيمنة والاستغلال. فَبُنَى الهيمنة والاستغلال لها جذور عميقة ومركَّبة في آن واحد، ومن ثمّة فإنّه لا يمكننا أن نأمل في إحراز بعض التّقدّم إلاّ بمعالجة جميع وجوه المشكلة.
لن نستطيع القضاء على التّعاسة أو الموت، ولكن بإمكاننا أن نتطلّع إلى تحقيق تقدّم في العلاقات بين البشر والأفراد والجماعات والعرقيات والأمم. فالتّخلّي عن التّقدم الّذي تضمنه «قوانين التّاريخ» لا يعني التّخلّي عن التّقدّم ذاته، بل الاعترافَ بطابعه غير المؤكَّد والهشّ. أنّ التّخلّي عن أفضل العوالم لا يعني بأيّ حال من الأحوال التّخلّي عن عالم أفضل.
من هذا المنظور، هل من الممكن أن نتصوّر سياسة تتمثّل مهمّتها في متابعة سيرورة التّأنسن (التّطوّر المرحلي للإنسانl’hominisation – تفسير المترجم-) وتطويرها في اتجاه تحسين العلاقات بين البشر وتحسين المجتمعات البشريّة؟
نحن نعلم اليوم أنّ قدرات الكائن البشريّ الدّماغيّة لا تزال غير مستغَلّة في جزء كبير منها. نحن ما نزال في عصور ما قبل تاريخ العقل البشريّ. فبالنّظر إلى أنّ الممكنات الاجتماعيّة مرتبطة بالقدرات الدّماغيّة، فلا أحد بوسعه أن يضمن أنّ مجتمعاتنا قد استنفدت كلّ إمكانياتها للتّحسين والتّحويل وأنّنا قد وصلنا إلى نهاية التّاريخ … دعونا نضف أنّ التّطورات في التّكنولوجيا قد قلّصت كوكب الأرض، إذ تسمح لجميع نقاط الكرة الأرضيّة بأن تكون متّصلة ببعضها البعض فوريّا، وتوفّر الوسائل الكفيلة بإطعام الكوكب بأسره وضمان حدّ أدنى من الرّفاهية لجميع سكّانه.
ولكنّ قدرات الكائن البشريّ الدّماغيّة مذهلة ليس فقط لتحقيق الأفضل، بل والأسوأ أيضا. فإذا كان لدى الإنسان العاقل-المعتوه منذ البداية عقل موزارت وبيتهوفن وباسكال وبوشكين، فقد كان لديه أيضا دماغ ستالين وهتلر… وإذا كانت لدينا إمكانيّة لتطوير الكوكب، فإنّ لدينا أيضا إمكانيّة لتدميره.
من الأمميّة إلى الأرض- الوطن
وهكذا، ليس هناك تقدّم مضمون، بل هناك أمكانيّة غير مؤكَّدة، إمكانيّة مرهونة إلى حدّ كبير باكتساب الوعي والإرادات والشّجاعة والحظ ّ… وأصبح اكتساب الوعي أمرا ملحّا وأساسيّا. إنّ إمكانيّة التّقدّم الأنتروبولوجيّة والسّوسيولوجيّة تعيد بناء مبدأ الأمل، ولكن دون أيّ يقين «علميّ» أو وعد «تاريخيّ».
كان الفكر الاشتراكيّ يريد تحديد موقع الإنسان في العالم. ومع ذلك، فإنّ وضع الإنسان في العالم تغيّر خلال السّنوات الثّلاثين الماضية أكثر مما تغيّر بين القرن السّادس عشر وبداية القرن العشرين. لقد «فقد» كوكب البشر الأرضيّ كونَه القديم؛ فأمست الشّمس نجمة ضئيلة جدّا من بين بلايين النّجوم الأخرى في الكون الآخذ في التّمدّد، وبات كوكب الأرض تائها في الكون. إنّه كوكب صغير من الحياة الدّافئة في فضاء جليديّ حيث تستعر الأنجم بعنف غير مسبوق وتلتهم ثقوبٌ سوداءُ نفسَها. إنّه في هذا الكوكب الصّغير فقط، على حدّ علمنا، توجد حياة وفكر واع. إنّه الحديقة المشتركة للحياة والبشريّة. إنّه البيت المشترك لجميع البشر. المطلوب إذًا هو إدراك ارتباطنا الجوهريّ بالمحيط الحيويّ la biosphère وتهيئةُ الطّبيعة. المطلوب هو التّخلّي عن الحلم البروميثيوسيّ (نسبة إلى الإله الإغريقيّ بروميثيوس – المترجم -) بالتّحكّم في الكون واستبدالُه بالتّطلّع إلى العيش المشترك على كوكب الأرض.
يبدو ذلك ممكنا لأنّنا في العصر الكوكبيّ الّذي صارت فيه جميع الأجزاء مترابطة ببعضها البعض. ولكنّ الهيمنة والحرب والدّمار كانوا هم المهندسون الرّئيسيون للعصر الكوكبيّ. إنّنا لم نبرح بعدُ عصرَ الحديد الكوكبيّ. ومع ذلك، فإنّ الاشتراكيّة منذ القرن التّاسع عشر قد قرنت النّضالَ ضدّ همجيّات الهيمنة والاستغلال بالتّطلّع إلى جعل كوكب الأرض الوطنَ البشريّ الكبير.
لكنّ الفكر الكوكبيّ الجديد، الّذي يمتدّ إلى الأمميّة، يجب أن يقطع مع جانبين رئيسين في هذه الأخيرة: أوّلهما الكونيّة المجرّدة: «ليس للبروليتاريين وطن»، وثانيهما الثّورة المجرّدة: «دعونا نَطْوِ تماما ونهائيّا صفحة الماضي.»
ينبغي لنا أن نفهم الاحتياجات الهائلة وغير القابلة للاختزال الّتي تتوافق مع فكرةَ الأمّة. ولا ينبغي أن نعارض بين الكونيّة والوطنيّة، ولكن أن نربط بشكل مركزيّ بين أوطاننا الأسريّة والإقليميّة والقوميّة والأوروبّية، وأن نقوم بدمجها في الكون الملموس للوطن الأرضيّ. يجب أن نتوقّف عن إقامة التّعارض بين مستقبل مشرق وماض كلّه عبوديّة وخرافات. فجميع الثّقافات لديها فضائلها وخبراتها وحِكَمُها كما أنّ لديها عيوبها وجهلها. إنّه من خلال إعادة شحن نفسها بالماضي تجد مجموعةٌ بشريّةٌ ما الطّاقةَ للتّعامل مع حاضرها والإعداد لمستقبلها. يجب أن يكون البحث عن مستقبل أفضل مكمّلا لإعادة شحن الذّات بالماضي وليس متعارضا معه. فهذا الشّحن الذّاتي المتجدّد بالماضي الثّقافي هو بالنّسبة إلى الجميع ضرورة هُوَويّة عميقة، بيد أنّ هذه الهويّة لا تتعارض مع الهويّة البشريّة المتأصّلة الّتي نحتاج أيضًا إلى إعادة شحن ذواتنا بها. إنّ الوطن الأرضيّ ليس شيئا مجرَّدا، بما أنّ البشريّة قد نشأت منه.
إنّ السّمة الّتي تميّز ما هو بشريّ هي الوحدة المتنوّعة: الوحدة الجينيّة والدّماغيّة والفكريّة والعاطفيّة للإنسان العاقل-المعتوه الّتي تعبّر عن إمكاناته غير القابلة للحصر من خلال تنوّع الثّقافات. التّنوعُ البشريّ هو كنز الوحدة البشريّة الّتي هي بدورها كنز التّنوع البشريّ. ومثلما يُعتبر إقامة اتّصال حيّ ومستمرّ بين الماضي والحاضر والمستقبل أمرا ضروريّا، فإنّه من الضّروري إقامة اتّصال حيّ ودائم بين أوجه التّفرد الثّقافيّ والإثنيّ والقوميّ من جهة والكون الواقعيّ الملموس للأرضِ – وطنِ الجميع من جهة أخرى.
لذلك، فإنّ الضّرورة المفروضة علينا هي تمدين الأرض، وتمتين تضامن البشريّة وتوحيدها، مع احترام الثّقافات والأوطان.
ولكن تواجهنا هنا تحدّيات وتهديدات هائلة لم يكن من الممكن تصوّرها في القرن التّاسع عشر. ففي تلك الحقبة، تمّ تسليم العالَم للهمجيّات القديمة الّتي أطلقها التّاريخ البشريّ من عقالها: ونعني بها همجيّات الحروب، والأحقاد، والفظائع، والازدراء، والنّعرات الدّينيّة والقوميّة. كان يبدو أنّ العلوم والتّكنولوجيا والصّناعة تحمل في طيّات تطوّرها بالذّات استئصالا لهذه الهمجيّات القديمة وانتصارَ الحضارة.
ومن هنا جاء الإيمان الحتميّ بتقدّم البشريّة على الرّغم من بعض الحوادث الطّارئة.
أصبح من الواضح اليوم أكثر فأكثر أنّ التّطورات في العلوم والتّكنولوجيا والصّناعة تحتمل أوجها متضاربة، دون أن نكون قادرين على تحديد أّيّ منها سينتصر على الآخر في آخر المطاف، أسوأها أم أفضلها. تقترن التّوضيحات الهائلة الّتي توفّرها المعرفة العلميّة بالانتكاسات المعرفيّة للتّخصّص الّذي يحول بيننا وإدراك السّياقيّ والشّامل. ليست القوى المستمَدّة من العلم مفيدة فحسب، ولكنّها أيضا مدمِّرة ومخادعة. لقد كشف التّطوّر الاقتصاديّ-التّقنيّ، المرغوب فيه من العالم بأسره ومن أجل الجميع، عن ثغراتها وأوجه قصورها في كلّ مكان تقريبا.
فصول من ترجمتي لأحدث كتاب ألّفه المفكّر الفرنسيّ إدغار موران، وقد صدرت مؤخّرا عن دار صفحة 7 للنشّر والتّوزيع تحت عنوان «لحظة أخرى أيضا».