ترجمة المنتصر الحملي
(إلى روح المناضلة النّقابيّة والنّسوية، أحلام بالحاج)
لقد تعلّمنا أنّ للتّاريخ معنى وأنّه، فيما يتعلّق بالنّساء، هو تاريخ انتقالهنّ من حالة العبودية الكاملة إلى التّحرّر الكامل، وكأنّ المسيرة نحو المساواة كانت عمليّة طبيعيّة. ولكنّ هذا غير صحيح. لقد تمّ تشويه الحقائق.
إنّ أولئك اللاّئي تصرّفن، اللاّئي حكمن في الماضي وتحدّثن وقُدنَ وخلَقن، قد تمّ محوهنّ من التّاريخ. وقد قيل لنا إنّه لم يكن هناك شيء يمكن أن يقال عنهنّ بما أنّهنّ قد تمّ منعهنّ. وإنّه إذا لم تظهر النّساء في التّاريخ، فذلك يعود إلى أنّهن كنّ جدّ مشغولات مع الأطفال والأعمال المنزليّة وإعداد حساء البطاطس.
إنّ هذا غير صحيح.
أوّلا، لقد كانت هناك فترات عديدة عاشت خلالها النّساء الحرّيّة. وبالتّالي كانت هناك أيضا أوقات استأنف فيها أعداؤهنّ العمل ضدّهنّ – يعني هذا أنّه كانت هناك فترات انفتاح وفترات انغلاق. فتاريخ المرأة ليس خطّيّا. ثمّ، حتّى خلال الفترات الّتي اتّسمت أكثر بكراهية النّساء، كان هناك نساء يكافحن. يتحدّثن ويكتبن ويبتكرن. أبدا، لم تكن النّساء صامتات.
لا يدّعي هذا الكتاب تقديم تاريخ شامل للنّساء في فرنسا الحضريّة من العصر الحجريّ القديم وحتّى يومنا هذا. ولكن يتعلّق الأمر بإخباركم بما لم يتمّ إخبارنا به في الفصل. بالأشياء المذهلة العديدة الّتي نكتشفها (من جديد)، وكيف تنقلب النّظرة إلى التّاريخ عندما ننظر فيه من زاوية الجنس الأنثويّ.
لسنوات عديدة، استمرّ البحث، ولأنّنا لم نعد في المدرسة، لم نتمكّن من الاستفادة من هذه المعرفة؟ أنا محظوظة لأنّ جزءا من وظيفتي يتمثّل بالتحديد في قراءة نتائج هذا البحث. وبما أنّني أتمتّع بهذا التّرف، فيمكنني أن أقدّم لكم تلك النّتائج في نسخة مكثّفة. ويبقى الأمر متروكا لكم للبحث عن النّقاط الّتي تهمّكم وتعميقها. ستلاحظون أنّني أستشهد بالعديد من أسماء المؤرّخات. فأنا أنّ لديّ رغبة عميقة في المساعدة على التّعريف بعملهنّ، وتقديرهنّ – أو تقدير نسويتهنّ (ولكنّكم سترون أنّنا سنتحدّث عن الكتابة الشّاملة مرّة أخرى في الوقت المناسب). وإذا كنت أقتبس منهنّ، فهذا على وجه التّحديد حتّى تتمكّنوا من الانصراف إلى قراءة أعمالهنّ أو الاستماع إلى مداخلاتهنّ.
هل امرأة ما قبل التّاريخ كانت موجودة؟
أنا في فصل CE1، عمري 8 سنوات، أرتدي جينزا أزرق ولديّ طقم أقلام هالّو كيتي. تقول لنا المعلّمة: «أيّها الأطفال، افتحوا كتب التّاريخ على الصّفحة 12.» كم أنا جدّ متحمّسة، وأتطلّع للحصول على دروس في التّاريخ! أقلّب الصّفحات، أنكبّ عليها، إذ برسم ذي ألوان متوهّجة، تتخللها ظلال بنّيّة وبرتقاليّة، يصعق بصري.
نرى في هذا الرّسم رجلا ضخما وقويّا عند مدخل كهف، ويرتدي جلود حيوانات. لا بدّ وأنّه قد أضرم للتّوّ النّار المشتعلة عند قدميه، ولكنّه ينظر إلى مكان آخر، وعيناه تتّجهان نحو الأفق، استعدادا لمواجهة مصيره، وقياس نفسه أمام العالم، ومقارعة الوجود بيدين عاريتين. فهو حتّى الآن لا يزال مجرّد بعوضة في عالم مُعادي، وقريبا سيكون سيّد الكون.
خلفه، تجلس امرأة كثّة الشّعر، منطوية، ومنكفئة على الأرض، يبدو أنّها تخيط شيئا ولا تفكّر في أيّ شيء.
لكأنّها هيولى بشَعْر.
لا ريب في أنّه لا ينبغي لنا الاعتماد عليها كي تقودنا إلى عالم الجيل الخامس 5G. معها، لم نكن لننزل من الشّجرة أبدا.
هذه هي مرحلة ما قبل التّاريخ كما تعلّمتُها. كي تبقى على قيد الحياة فيه، كان عليك أن تصاب بحروق شديدة. وليس بفضل مبيضين فقط كان بإمكانك النّجاة. لم يتمّ إخباري بأنّ النّساء كنّ عديمات الفائدة. لقد قيل لي ببساطة إنّهنّ لم تكنّ موجودات. ألا ترون أنّ عبارة «نساء ما قبل التّاريخ» لها وقع غريب؟ إنّها تجرح السّمع لسبب بسيط: هو أنّه لم يتمّ استخدامها من قبل مطلقا. ولم يتمّ الحديث عنها أبدا. نفس ظاهرة التّنافر هذه تحدث مع عبارة «امرأة نياندرتال». فحتّى وقت قريب، كان مفهوم ما قبل التّاريخ يُعطى حصرا للمذكّر.
في كتاب التّاريخ الّذي درست منه في ذلك الوقت – أي في الثّمانينيات – كنّا نرى رجالا يشعلون النّيران ويصنعون الأدوات ويستخدمون المقذوفات لقتل الحيوانات، ويطوّرون فخاخا بارعة لاصطياد الطّرائد الكبيرة، ويذهبون في أوقات فراغهم إلى الكهوف ليرسموا على جدرانها تحفا فنّيّة. لقد كنّا أجيالا وأجيالا من الطّلاب نتعلّم ذلك. وكان الأمر نفسه يتكرّر على شاشة التّلفزيون. وبالمناسبة، إنّني لا أنصحكم بإعادة مشاهدة حلقات الرّسوم المتحرّكة المسمّاة «كان ياما كان الرّجل» المكرّسة لهذه الفترة.
كان هذا التقسيم الجنسانيّ للعمل، حيث ينصرف الرّجل إلى المهامّ الخارجيّة فيما تُصرَف المرأة إلى الدّاخل وإلى الأعمال المنزليّة، انعكاسا للمجتمع الغربيّ في القرن التّاسع عشر، عندما تمّ تزييف دراسة عصور ما قبل التّاريخ. فما تخيّله علماء عصور ما قبل التّاريخ الأوائل لم يكن إلاّ نسخة من التّنظيم الاجتماعيّ الّذي عرفوه في باريس أو برلين أو لندن. أمّا اليوم، فيعمل عدد من المتخصّصين على تفكيك هذه الافتراضات المسبقة من أجل إلقاء نظرة جديدة على الآثار الأثريّة. لكن كلّ هذا لم يكن معلوما عندما كنت طالبة. وأنا كنت أنطلق من فرضيّة بسيطة إلى حدّ ما في الحياة: وهي إذا كانوا قد علّموني شيئا ما، فذلك لأنّ هذا الشّيء صحيح. هذه هي الطّريقة الّتي استوعبت بها قدرا معيّنا من المعرفة الّتي تبيّن أنّها خاطئة.
دعونا نَعُدْ إلى الهيولى ذات الأرجل الأربع المنهكة عصبيّا في كهفها، ولنسمّها غويندولين .Gwendoline
ما تخيّله مؤرّخو ما قبل التّاريخ الأوائل لم يكن إلاّ نسخة من التّنظيم الاجتماعيّ الّذي عرفوه.
ولهذا لم يهتمّوا بغويندولين طوال قرون. بل إنّ الاهتمام بها لم يتمّ إلاّ حديثا جدّا. أودّ أن أكون قادرة على القول إنّ لديّ سبقا صحفيّا عظيما، وهو أنّنا قد اكتشفنا للتّوّ أنّ غويندولين كانت تحكم العالم في العصر الحجريّ القديم، وأنّنا انحدرنا من نظام أموميّ كبير أو حتّى، ببساطة، أنّنا كنّا نعيش في مساواة سعيدة في ذلك الوقت. لسوء الحظّ، إنّ ما يسمّى بالأمانة الفكريّة يمنعني من القيام بذلك.
ما ينبغي فهمه هو أنّ عصور ما قبل التّاريخ طويلة.
حقّا، طويلة جدّا.
إنّها تمتدّ من 5.5 مليون سنة مضت إلى 3500 سنة قبل عصرنا. يعني أنّها تمثّل 99.7٪ من الثّلاثة ملايين سنة من التّطور البشريّ. فإذا كانت معرفتك بعصور ما قبل التّاريخ مقتصرة على فيلم «حرب النّار»، إليك بعض المعايير: تُقسًّم الفترةُ إلى ثلاث كتل كبيرة، هي العصر الحجريّ القديم Paléolithique، والعصر الحجريّ الوسيط Mésolithique والعصر الحجريّ الحديث Néolithique (العصر الحجريّ القديم نفسه ينقسم إلى الأدنى والمتوسّط والأعلى). وحتّى لو اقتصرنا على العصر الحجريّ القديم الأعلى (وهو الأقرب إلينا)، فإنّ هذا يغطّي 30 ألف عام. نحن هنا لسنا على مقاييس القرون كما هو الحال في التّاريخ الحديث، بل على مقاييس آلاف السنين.
لنأخذ مثالا ملموسا: إنّ أشهر كَهْفَين مَطليين بالرّسوم في فرنسا هما كهف شوفيه Chauvet وكهف لاسكو .Lascauxويفصل بينهما زمن أطول من الزّمن الّذي يفصلنا عن لاسكو. بعبارة أخرى، لاسكو هو أقرب إلينا منه إلى شوفيه. أو بعبارة أخرى أيضا، لقد مرّ زمن أطول بين شوفيه ولاسكو أكثر مما مرّ بيننا ولاسكو.
من الصّعب إذا أن نتخيّل أنّه كان هناك شكل واحد فقط من التّنظيم البشريّ خلال هذه الآلاف من السّنين. ومن ثًمَّ لا يمكننا الإجابة بطريقة شاملة على سؤال: كيف عاش البشر في عصور ما قبل التّاريخ؟ أو بخصوص الموضوع الّذي يهمّنا: هل كان الرّجال يسيطرون على النّساء في عصور ما قبل التّاريخ؟
يمكننا أن نتخيّل أنّه طوال هذه الفترة، وفي جميع أنحاء العالم، كانت هناك بُنى أموميّة وأبويّة، أو حتّى مساواتيّة، فمن يدري.
لننظر إلى التّنوّع الاستثنائيّ لأنماط الحياة والثّقافات على هذا الكوكب اليوم. حتّى لو أخذنا في الاعتبار أنّ هذا التّنوّع قد زاد مع مرور الوقت والاكتشافات التّقنية، فإنّه من المنطقيّ أنّ البشر في جميع أنحاء العالم يجب أن يكونوا قد جرّبوا طرقا جدّ مختلفة لتشكيل المجتمع على مدى مئات الآلاف من السّنين من تطوّر جنس الإنسان. إنّ الحياة تَكَاثُرٌ. وهناك شيء واحد لا يداخله الشّكّ: هو أنّنا كنّا بحاجة لبعضنا البعض بالفعل، ولذلك عشنا في مجموعات.
بالطّريقة ذاتها الّتي لم يكن بها ما قبل التّاريخ نهرا هادئا طويلا يعبر البيريغور، فإنّه لا توجد امرأة من عصور ما قبل التّاريخ بل كانت هناك نساء، كما تذكّرنا بذلك المؤرّخة كلودين كوهينClaudine Cohen. لنأخذ سؤالا كثيرا ما يتمّ طرحه: هل كانت النّساء في ذلك الوقت يصطدن؟ هذا ما كانت تخبرنا به مقالات لافتة للنّظر في نوفمبر 2020، بالاعتماد على عمل راندال هاس Randall Haas وفريقه. كان عالم الآثار هذا يقود الحفريات في جبال بيرو فاكتشف فردا مدفونا بحجارة منحوتة تُستخدم لصيد الطّرائد الكبيرة. ومع ذلك، تمّ تحديد هذا الجسد على أنّه جسد أنثوي. هناك هياكل عظميّة نسائيّة أخرى تمّ اكتشافها في القارّة الأمريكيّة مع أثاث جنائزيّ مماثل. واليوم، بدءا من المنشورات العلميّة وصولا إلى أخبار وكالة فرانس براس السّريعة، ينتهي بنا الأمر إلى عناوين رئيسيّة من قبيل: «في مجتمعات الصّيادين وجامعي الثّمار، كانت النّساء أيضا يصطدن».
في الوقت نفسه، يلاحظ الباحث سيباستيان فيلوت Sébastien Villotte، الّذي يشتغل أيضا على بقايا عصور ما قبل التّاريخ، تشوّها على الهياكل العظميّة لا يمكن تفسيره إلاّ من خلال عَمَلِ الرّمي المتكرّر. ولكنّ الفرق بين الرّجال والنّساء في أبحاثه ملحوظ جدّا من النّاحية الإحصائيّة، وهو ينحو في اتّجاه تقسيم جنسانيّ للأنشطة حيث كان الرّجال وحدهم يمارسون أنشطة الرّمي الّتي تترافق مع الصّيد.
إذن من نصدّق؟ سيباستيان أم راندال؟ من يدرس قبورا في الفضاء الأوروبّيّ أم من ينقّب قبور أمريكا الجنوبيّة؟
في الحقيقة، هل من المستغرَب أن تكون نتيجة تحليلاتهما مختلفة؟ ألن يكون العكس هو المفاجئ؟
لن أقول لكم إنّه لم يكن هناك تقسيم جنسانيّ للأنشطة أو إنّ جميع الغويندولينات في العالم كنّ صيّادات عظيمات. فالواقع أكثر تعقيدا من حيث الأساس: لقد كان هناك تنوّع في المجتمعات البشريّة.
هذا ما تظهره لنا أيضا الإتنوغرافيا (علم الأعراق). لمحاولة فهم طريقة حياة أسلافنا، يمكننا دراسة مجتمعات الصّيادين – الملتقطين الّتي لا تزال موجودة حتّى اليوم2. فكيف تُعامَلُ النّساء في هذه المجموعات؟ إنّهنّ في الغالب في وضع المهيمِن. ولكن حيث تتعقّد الأمور هو أنّ هناك هيمنة تختلف عن هيمنة أخرى بدرجات متفاوتة واختلافات في الأداء. أعطت فرانسواز هيريتياي Françoise Héritier كمثال على ذلك شبهَ المساواة الّتي سادت بين ناسكابي Naskapis، وهم شعب هنديّ أمريكيّ في كندا، وفي الطّرف الآخر من طيف الهيمنة، شبهَ عبوديّةِ النّساء بين الأونا الّذين كانوا يعيشون في «أرض النّار»، بأمريكا الجنوبيّة3.
لا معنى إذا للسّؤال «هل كانت نساء ما قبل التّاريخ يصطدن؟». فعصور ما قبل التّاريخ ليست متجانسة. ولا شكّ أنّ النّساء كنّ يصطدن في أماكن معينة، وفي أوقات معيّنة. ومن ثمّة سيكون من الضّروريّ المرور بصيغ طويلة إلى حدّ ما وغير مثيرة صراحة مثل القول إنّ «نساء هذه المجموعة في هذا المكان في ذلك الوقت كنّ يصطدن طرائد كبيرة» أو «يبدو أنّ نساء هذه المجموعة في هذا المكان في ذلك الوقت كنّ مستبعَدات من صيد الطّرائد الكبيرة». من المؤكّد أنّ هذا أقلّ فعاليّة من منظور عناوين المقالات على الإنترنت. وهناك ما هو أسوأ: ففي نفس المساحة، وفي لحظة معيّنة، لا يجب أن نتصوّر أنّ البشر كانوا يعيشون بشكل متطابق. فقد تخصّصت بعض المجتمعات في صيد الخيول بينما برعت أخرى في صيد الرّنّة. ولذلك كان لكلّ مجموعة تقاليدها وخبرتها، بما في ذلك أدوار الجنسين بلا ريب.
في الواقع، من المرجّح جدّا أنّ توزيع العمل في عصور ما قبل التّاريخ كان يعتمد على المعايير الاجتماعيّة والثّقافيّة، ولكن أيضا على المناخ، والفصول، وتركيبة المجموعة في وقت معيّن، وكفاءات كلّ شخص، والعمر. (مثلا النّساء بعد سنّ اليأس). بالإضافة إلى ذلك، كانت بعض المهام تتطلّب وجود المجموعة بأكملها. عند قطع جثث الطّرائد، على سبيل المثال، الّذي كان لا بدّ من القيام به في وقت قصير. لم تكن هيمنة الذّكور بالضّرورة حتميّة تمتثل لها جميع المجموعات، بل كان من الممكن تكييفها مع السّياق. (لنأخذ مثالا حديثا عن هذه المرونة في بلدنا، فعندما ذهب الرّجال إلى حرب 14-18، فإنّ النّساء هنّ من تولّين مسؤوليّة عملهم).
يمكن أن تكون النّساء، على سبيل المثال، قاطعات صوّان، إذا أظهرن موهبة في ذلك. علاوة على ذلك، عندما يتمّ العثور على قبر يبدو أنّه يشير إلى مكانة معيّنة للشّخص المدفون، فمن المحتمل أنّ الأمر لا يتعلّق باحترام تسلسل هرميّ محدّد مسبقا بقدر ما يتعلّق بجدارة خاصّة لهذا الفرد – الّذي ربّما كان صيّادا ماهرا أو معالجا متميّزا، وكذلك الأمر مع رجل مينتون .Menton إنّه دَفْن يعود تاريخه إلى 24000 عام، وهو غنيّ بشكل خاصّ مما يدلّ على مكانته الاجتماعيّة المرموقة. كان المتوفّى يرتدي غطاء رأس صدفيّ، وطوقا من أنياب الغزلان المثقوبة، وشفرتين من الصّوان، وقد عُثر فوقه على مسحوقِ حديد، ومغرةٍ حمراء. لذلك ذهب الاعتقاد إلى أنّه كان رجلا. في الواقع، أظهرت أعمال أخيرة أنّها كانت امرأة تبلغ من العمر 37 عاما. فما الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذا؟ إنّه يمكن ربط علامات الهيبة هذه بالنّساء. لا أكثر ولا أقل.
إذا كان يُعتَقد منذ فترة طويلة أنّ النّساء كان يتمّ استبعادهنّ تلقائيّا من أنشطة مثل الصّيد، فذلك أيضا لأنه كان يُعتقَد أنّها أنشطة غير متوافقة مع الأمومة. ولكن هنا مرّة أخرى، كنّا ضحايا للأحكام المسبقة. لقد كان التّصوّر بالفعل هو أنّ هؤلاء البدائيين لم يكونوا يتوقّفون عن ممارسة الجنس: فكانت النّساء بلا شكّ حوامل باستمرار، مع طفلين يتشبّث كلّ منهما بأحد ثدييها. في الحقيقة، لقد صرنا على بيّنة الآن بأنّهنّ كنّ يمارسن المباعدة بين الولادات بفارق ثلاث أو أربع سنوات على الأقلّ بين كلّ طفلين4. لهذا لم يكنّ يستخدمن فقط ما يسمّى بانحباس الطّمث الإرضاعيّl’aménorrhée de lactation ، أي حقيقة كونها أقلّ خصوبة مادامت ترضع طفلا، بل كذلك النّباتات المجهِضة بلا شكّ.
ثمّ أنّ هناك مفارقة. فأولئك الّذين يقولون إنّ النساء لم يكن باستطاعتهنّ الصّيد لأنّهن كنّ مضطرّات للبقاء لرعاية الأطفال هم غالبا أنفسهم الأشخاصُ الّذين يؤكّدون أنه كان يتعيّن عليهنّ إذًا ممارسة القطاف. ففي أذهان هؤلاء النّاس، يُعتبر القطاف أمرا هادئا ويسيرا، وليس متعبا للغاية. أي أنّهم يعتبرونه خاصّا بالفتيات. إنّ القطاف في الواقع عمل مرهق. ولقد قام علماء الأعراق الّذين درسوا الصّيادين وجامعي الثّمار في مجتمع كونغ سان من جنوب إفريقيا بعمليّة حسابيّة تبيّن منها أنّ النّساء يقطعن بين ثلاث كيلومترات وعشرين كيلومترا في اليوم (ثلاثة أيّام في الأسبوع)، ويحملن في طريق العودة ما بين سبعة وخمسة عشر كيلوغراما من الأغذية النّباتيّة. فإذا تمّ تكليف النّساء بالقطاف، فليس ذلك لأنّه سيكون أقلّ إرهاقا لهنّ من الصّيد.
وبعد ذلك، لم تكن المباعدة بين الولادات فقط هي الّتي سمحت بتحرّر النّساء. كانت هناك أيضا – ومن المثير للاهتمام أنّنا لم نفكّر في هذا الأمر لفترة طويلة – الجدّات. هناك ما يسمّى «فرضيّة الجدّة». إنّ مهمّة العلماء هي حلّ هذا اللّغز المربك: لماذا تبقى النّساء على قيد الحياة لفترة طويلة بعد انقطاع الطّمث؟ نعم، إنّه سؤال علميّ حقيقيّ. من وجهة نظر تطوّريّة، يجب أن تنتهي حياتنا مع انتهاء وظائفنا الإنجابيّة، كما هو الحال مع الرّئيسيات الأخرى. فما الفائدة من الجدّات إذا؟ ما هي وظيفتهنّ البيولوجيّة؟
فقط لدى الحيتان القاتلة والحيتان الطّيّارة، يكون للإناث مثل هذا العمر المتوقّع الطّويل بعد انتهاء قدرتها الإنجابيّة. لقد أظهرت إحدى الدّراسات أنّ المعرفة الّتي تمتلكها الحيتان القاتلة بعد انقطاع الطّمث تفيد المجموعة بأكملها: ففي حالة نُدرة الغذاء، يصبحن قادة هذه المجموعة. إنّ لديهنّ إذا فائدة اجتماعيّة.
وفقا لفرضيّة الجدّة، سيكون سنّ اليأس ميزة تطوّريّة للجنس البشريّ، لأنّ الجدّات قادرات على رعاية أطفالهنّ وأحفادهنّ. يجب القول إنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ التّكاثر البشريّ لا يصبّ في صالح الإناث. فالانتقال إلى المشي على قدمين فقد جعل الولادة أكثر صعوبة وألما وخطورة. وبالإضافة إلى ذلك، من أجل مرور جمجمة الوليد، تلد النّساء أطفالا أبعدَ ما يكونون عن الاكتمال. ولذلك سيختبر الأطفالُ الرّضّعُ معظمَ نموّهم خارج الرّحم. عند الولادة، يكون صغار البشر في حالة ضعف تامّ ويحتاجون إلى الكثير من الرّعاية لفترة طويلة. سوف يَسمح سنّ اليأس للنّساء بالتّوقّف عن المخاطرة بحياتهنّ أثناء الولادة وفي نفس الوقت برعاية الأمّ الشّابّة والأحفاد، وبالتّالي تحسين فرصهنّ في البقاء على قيد الحياة. سيكون هذا أحد الأصول التّطوّريّة – وليس عائقا مخزيا أو مرضا مزعجا كما يميل مجتمعنا إلى اعتقاده. إنّ انقطاع الطّمث هو فرصة.
وهكذا، لم تكن الأمومة في العصر الحجريّ القديم تعني بالضّرورة أن تظلّ النّساء محبوسات في ملاجئهنّ للكنس بالمكنسة المصنوعة من شعر الماموث. إنّ الفكرة القائلة بأنّ الأسرة هي أمٌّ تمكث في المنزل لرعاية الأطفال وأبٌ يذهب للصّيد تعود إلى القرن التّاسع عشر. في الواقع، ترى بعض عالمات الأنتروبولوجيا الحاليات على غرار كورتني ميهان Courtney Meehan وروث مايس Ruth Mace أنّ جزءا من نجاح التّطوّر البشري يكمن على وجه التّحديد في ما يسمّى بالتّنشئة الوالديّة alloparentalité، وهي أنّ المجموعة بأكملها يتمّ حشدها لرعاية الأطفال، بما في ذلك إرضاعهم رضاعة طبيعيّة، وتولّي نساء أخريات في المجموعة المسؤوليّة. من وجهة نظر التّاريخ البشريّ بأكمله، فإنّ بقاء الأمّ في المنزل هو اختراع حديث للغاية، يرتبط ارتباطا وثيقا بثقافة غربيّة من القرن العشرين. إنّه تقريبا حادثٌ تاريخيّ، انحرافٌ عن الأنظمة المعتادة. وهذا ما يفسّر، في رأيي، الإرهاق الّذي تعاني منه الأمّهات. فنموذجنا الحاليّ يطلب الكثير منهنّ ولم يعد يعتمد بشكل كاف على هذه التّنشئة الوالديّة.
فصل من مقدّمة كتاب Les grandes oubliées. Pourquoi l’histoire a effacé les femmes, The Iconoclast, Paris, 2021.