حاورتها: سعدية بن سالم
حين طرحت فكرة إجراء الحوار، تبادرت إلى الأذهان أسماء كثيرة لنساء أثّرن في مجالات متنوّعة وتركن بصمة لا تمحى، وكان الاختيار صعبا. ثمّ استقرّ الرّأي أن نستضيف السيّدة «شريفة الدّالي السّعداوي» لأسباب عدّة، أوّلها أنّها سيّدة كان لها حضور بارز في فترة ثرية ومهمّة من تاريخ تونس الحديث وهو فترة الأربعينات والخمسينات، ثمّ كان لها حضور لافت في العمل النسوي في الستينات، وثانيها، ونحن على بعد أيّام من الاحتفال باليوم العالمي للمرأة 8مارس، أنّ لشريفة السّعداوي شرف المشاركة باسم تونس في أوّل مؤتمر عالمي للمراة سنة 1950 ببرلين. وثالثها أنّها تحمل ذاكرة جيل وشعب ووطن وزوجة مناضل اغتيل لفكره ومبادئه، ولم يعد إليه الاعتبار إلاّ مؤخّرا وهو المناضل النقابي حسن السّعداوي وفي تكريم السيّدة شريفة السّعداوي تكريم للمناضل حسن السّعداوي. وقبل هذا وذاك، فالسيّدة «السّعداوي» امراة تتميّز بعمق التجربة وثرائها وببصيرة نافذة وقدرة على العمل والخلق قلّ أن نجدها عند غيرها. لهذا وغيره كان لقاؤنا مع السيّدة شريفة احتفاءً بها وبالمرأة المناضلة حيثما كانت.
* من البدء ندرج، من هي شريفة السّعداوي؟
– أنا شريفة الدالي السّعداوي، مناضلة تونسية، ولدت في باب الأقواس بتونس العاصمة في 9 نوفمبر 1929، لأب مؤدّب في كتاب بباب الأقواس ومناضل في الحزب الشيوعي التونسي هو محمّد الدالي وأمّ من عائلة ابن فرحات من منوبة، حرمت من التعليم في سنّ مبكّرة، إذ بعد أن سجّلني والدي في المدرسة وبدأت بالتردّد على القسم لمحني عمّي عائدة ذات جمعة، فأسرّ إلى والدي أنّ التعليم شأن يخصّ الأبناء الذكور لا الإناث وأقنعه أن يبقيني في البيت، وقد تكفّل عمّي بتحفيظي القرآن رفقة إخوتي في فناء منزلنا.
* ما الذي حمل فتاة باب الأقواس المنقطعة عن الدّراسة باكرا إلى العمل الجمعياتي والسياسي؟
– حملتني عوامل عدّة إلى العمل السياسي والجمعياتي، فقد تربيت في بيت سياسيّ، وكنت أشهد أنا وإخوتي نشاط والدي السرّي حيث كنّا نفطن إليه وهو يتعمّد حرق المناشير التي تصله بعد قراءتها وإتلافها، لم يكن يعلم أنّي وإخوتي نتجسّس عليه فنشعر بجسامة ما كان يفعل. من هنا كانت البداية، بداية الوعي بجسامة النشاط السّياسي وصعوبته، ولم يكن الحزب الشيوعي حينها ذا إشعاع كبير وامتداد شعبيّ ولكنّه كان يضمّ نخبة من المثقفين أمثال الطاهر بودمغة وعميد المحامين آنذاك الهادي الغربي إضافة إلى والدي محمد الدّالي الذي كان من بين قلّة متعلّمة حينها، وأذكر أنّه كان يحرص على قراءة جريدة «بوقشة» الفكاهية على رواد المقهى في حيّنا فكان إذا تأخر عن الذهاب إلى «جمهوره»، جاء طارقا من يسأل عنه إلى درجة أن اسم «بوقشة» أصبح لقبا ثانيا للعائلة بل هو لقب أول بدل لقب «الدّالي».
وكان للصداقة التي تجمع المناضلة التونسية «قلاديس عدّة» بوالدي الأثر الموجّه في التحاقي بالنشاط الجمعياتي، فقد كانت «قلاديس» تتردّد على البيوت في الأحياء الشعبية تستحثّ النساء على المشاركة في الحياة العامّة، وكان من عادة «قلاديس»، الناشطة مع والدي في الحزب الشيوعي، أن تتّصل بالرّجال قبل الحديث إلى نسائهم وكان الرجال يوسعون لها ويكرمون وفادتها وقد يأخذون برأيها في تعليم بناتهم أو في لسماح لنسائهم بحضور الاجتماعات الخاصّة بمشاغل المرأة، وكن منزلنا من المنازل التي تتردّد عليها «قلاديس عدّة» بكثرة بمباركة والدي، ومنها تعلّمت فائدة الاتصال المباشر بالناس ورافقتها في زيارات عدّة لأتعلّم عنها.
والعامل الأخير الذي أذكره لما له من تأثير في تنمية وعيي المبكّر وهو مشاهدة بنات «نهج الباشا» يدرسن، بل يتكفّل خادم بحمل المحفظة إلى القسم، كنّ يثرن غيرتنا بالملاءة المصري، وبتردّدهن على المدرسة في حين نعاني الحرمان والفقر والجهل، ذاك الاختلاف الطبقي عمّق في الاستعداد للعمل الجمعياتي.
* لو حدّثتنا عن بداياتك في العمل السياسي وهل تذكرين بعض الأسماء التي رافقتك في النشاط أو ساعدتك أن تكتسبي تكوينا سياسيا؟
– التحقت في سنّ الرابعة عشرة من العمر باتحاد الفتيات الذي كانت ترأسه زكية حرمل، وهي منظمة تنتمي إلى الحزب الشيوعي وتضمّ الفتيات الصغيرات لتدريبهن على العمل الجمعياتي، ومن بين الناشطات في المنظمة أذكر سعاد عبد الكريم ومنجية المولدي، وكان يوكل إلينا توزيع المناشير ودعوة النساء إلى الاجتماعات التي تعقدها المنظمة لتوعيتهن بدورهنّ في المجتمع.
* بدأت النشاط السياسي قبل الزواج بالمناضل النقابي حسن السعداوي، رغم ارتباط اسمك به، فما الإضافة التي تعتقدين أنه قدّمها لك؟
– نعم، بدأت النشاط قبل زواجي بالسعداوي الذي كان يكبرني بثلاثين سنة، وكان صديقا لوالدي، ولكنه اختفى واختفت أخباره مذ سافر إلى موسكو، وحين عاد إلى أصدقائه وغدا من المتردّدين على منزلنا سواء للاستماع إلى الرّاديو الذي نملكه دون البقية أو للاجتماع بوالدي في شؤون الحزب، عرض عليه والدي الزواج مني وأنا التي لم أتخطَّ الرابعة عشر بعد إلاّ بشهرين، ولئن رفض «حسن السعداوي» العرض في البداية بدعوى التفاوت الكبير في السنّ في البداية إلاّ أنّه استجاب لطلب والدي في ما بعد، لنتزوّج في 5 جانفي سنة 1945. وتبدأ مرحلة جديدة من حياتي.
* لو حدّثتنا عن أهمّ معالم تلك المرحلة…
– بدءا، حرص السعداوي على تدريسي فأوكلني إلى مؤدّب «جريديّ» يتعهّدني بدروس في العربيّة، وأوكل إلى مدرّسة فرنسية في المدرسة الصّادقيّة أمر تعليمي اللغة الفرنسية، وكان يحرص على متابعة تقدّمي في الدراسة حين يعود مساء محمّلا بالجرائد ويطلب منّي أن أقرأ حتى يعرف مدى تقدّمي. بعد ذلك التحقت بمدرسة تكوين الإطارات وهو هيكل يتبع الحزب الشيوعي التونسي آنذاك، فدرست مع مجموعة من الفتيات أذكر منهنّ: سعاد جراد ومنجية المولدي ودليلة مجاجي ووسيلة جاب الله وغيرهن ممن لا تستحضرهنّ الذاكرة الآن. وقد درسنا على يد خبرة من كوادر الحزب الشيوعي على غرار محمد حرمل ومحمد النافع ومحمّد الماجري، وتتمحور الدروس حول مفهوم الحزب ومفهوم العمل السياسي وأذكر أنّي حين سُئلت عن مفهوم الحزب بدء التحاقي بالتكوين أجبت بما ترسّخ في ذهني من صورة للينين فقلت: «الحزب هو برشة ناس وجندي واقف يخطب كيف لينين». ثمّ تقدّم التكوين وبدأت المفاهيم تتضح، وأذكر أنّي تخرجت الأولى على دفعتي بعد أن أجبت عن السّؤال «من أين يستمدّ الحزب قوّته؟» بقولي: «إنّ القوة التي يعتمد عليها أيّ حزب هي القوة العمّاليّة» وكان نتيجة ذلك أن نجحت الأولى أمام رفيقاتي. وانخرطت أكثر صلب العمل داخل اتّحاد المرأة المتفرّع عن الحزب الشيوعي الذي أسسته السيّدة «جولان»، وهي سيّدة فقدت زوجها في الحرب العالمية الأولى وفقدت ابنها في الحرب العالمية الثانية وكرّست نفسها للعمل الجمعياتي ومناهضة الحرب.
* فيم تمثّل نشاط الاتحاد حينها؟
– كان أساس العمل هو الاتّصال المباشر بالمرأة لذلك كنّا نطرق الأبواب لندعو إلى اجتماعات الاتّحاد ونحدّث المرأة في بيتها عن ضرورة تغيير واقعها بالتعلّم والانخراط في العمل، وكانت «قلاديس عدّة» تقول «يستمرّ الاستعمار مادام هناك جهل» وهكذا كانت تقنع الرّجال بالسماح لها بالحديث مع نسائهم.
ولم يقتصر عملنا على توعية الأسرة بضرورة محاربة الأميّة ومساهمة المرأة في الحياة الاجتماعيّة بل تعدّاه إلى تقديم الإعانات العينيّة لمستحقيها خاصّة وقد عصفت الحرب العالميّة الثانية بالاقتصاد وضاعفت نسب الفقر والخصاصة وانتشرت الأمراض بين فئات الشعب المعوزة خاصّة، فكنّا ننشر الإعلانات في الجرائد طلبا للتبّرع من الميسورين والمؤمنين بالإنسانيّة، وكانت الإعانات تفد علينا بوفرة ولذلك اتّخذت المنظّمة مخزنا لها لتجميع التبرّعات وكان مقرّه نهج الحريّة ثمّ نتولى توزيع تلك التبرعات على مستحقيها وخاصة في الأعياد والمناسبات مثل مناسبة العودة المدرسيّة أنّى تتضاعف المصاريف وتقف الأسر عاجزة عن تأمين حاجاتها، وشهد ذاك المخزن حالات معاينة الأطباء للمرضى من الفقراء، فالأطبّاء المنتمون إلى الحزب الشيوعي كانوا يتطوّعون أياما في الأسبوع لمراجعة المحتاجين ومدّهم بالأدوية المناسبة وكانوا يتخذون من ذلك المخزن وغيره من المقرات التابعة للحزب في «باب سويقة» و«باب الأقواس» عيادات مجانية.
كما حرصت المنظمة على بعث مطابخ لتوفير الأكلة الصحيّة للمحتاجين وللمشرّدين خاصّة، فكان أن بعثت مطبخا في «باب الجزيرة» وآخر في «حومة سيدي عمر» تشرف عليه الناشطة «ساسية» ومطبخا في منطقة «زيتون الجربي» تشرف عليه إحدى نساء المنطقة. كان الشعار المتداول حينها «حيث وُجد الفقر ذهب إليه الحزب الشيوعي».
إضافة إلى ذلك حرصنا على تعليم الفتيات فنّ الخياطة حتّى يتقنّ صناعة تساعدهن على تأمين حاجياتهنّ وتحفظ كرامتهنّ.
وحرصت المنظمة على التعريف بوضعيّة البلاد المزرية وهي ترزح تحت الاستعمار، وأذكر أنّ إحدى الباحثات الفرنسيات قد زارت تونس للتعرف على الأوضاع الاجتماعية للبلاد فرافقتها صحبة «قلاديس عدّة» إلى منطقة الملاّسين حيث كانت قنوات الصرف الصحّي منعدمة والمياه الآسنة تجعل من المكان موطنا للأوبئة وأذكر أنّ ابنتي الكبرى قد أصيبت بما يعرف بحمّى المستنقعات نتيجة مرافقتها لنا في تلك الزيارة التي انتهت بمداهمة قوات الاحتلال المتمثلة في شرطة الملاّسين لنا وافتكاكها لآلة التصوير التي كانت بحوزة الباحثة وإتلاف ما التقطته من صور، ثمّ ترحيلها مباشرة إلى المطار لتستقل أوّل طائرة إلى بلادها أمّا أنا و«غلاديس» فقد قادونا إلى مركز الشرطة.
* لم يكن اتحاد المرأة التابع للحزب الشيوعي هو المنظمة النسائية الوحيدة في الأربعينات، فكيف كانت علاقة اتحادكم ببقية المنظمات وهل من تنسيق بينكم؟
– وُجد في تلك الفترة إضافة إلى منظّمتنا الاتحاد النسائي الإسلامي برئاسة بشيرة بن مراد، ولكنّ نشاط منخرطاته كان أقرب إلى عمل الصالونات حيث تجتمعن لتبادل الآراء والنقاش وتركّز عملهن على تجميع الأموال لمساعدة التونسيين الدّارسين في الخارج، لم يكن بيننا في الحقيقة تعاون كبير إذ كان عملنا يقوم على الاتصال المباشر بالمحتاجين وبالفئات الشعبيّة وكان هدفنا تنمية الوعي ومساعدة المرأة على المحافظة على كرامتها، كانت بين المنظّمتين منافسة خفيّة ربما تكون لأسباب أيديولوجية وهو ما يفسّر اتهامهم لنا بالإلحاد الذي لا يمكن أن يفهم إلاّ في إطار المنافسة وقد استغلوا في ذلك تنوّع العنصر البشري المؤلّف لمنظّمتنا فبيننا المسلمات واليهوديات والمسيحيات وبيننا التونسيات والفرنسيات وكنّ فقط تونسيات مسلمات. ورغم تلك لم نكن في قطيعة ففي مرحلة أولى تعاونّا في جمع التبرعات حتى يستكمل الطلبة التونسيون دراستهم في الخارج، وأذكر أنّنا عرضنا على رئيسة الاتحاد النسائي المشاركة في أحد مؤتمرات المرأة العالمي التي كان يؤمّن تذاكرها الاتحاد السوفياتي وبعد استشارة والدها شاركت في أحدها.
* نأتي إلى مشاركتك في المؤتمر العالمي الأوّل للمرأة في برلين؟ ما الظروف التي حفّت باختيارك للمشاركة في هذا المؤتمر؟ وماذا بقي في الذاكرة منه؟
– انعقد المؤتمر في برلين سنة 1950، قبلها بأشهر كنت قد أصبت بشلل بعد الولادة الرابعة، وشخّص الطبيب حالي بأنّ الإنجاب المبكّر وتكرّره قد أثّر على جسدي وأضعفه، فقرر زوجي «حسن السعداوي» أخذي إلى الاتحاد السوفياتي للتداوي واستخرج لي في الغرض جواز سفر كان الأوّل لامرأة من عامة الشّعب بشهادة عامل الجوازات. وقبل السّفر إلى موسكو بدأت بالتعافي وصادف حينها انعقاد المؤتمر في برلين فوقع الاختيار عليّ لتمثيل المرأة التونسية باعتباري متعلّمة وباعتبار توفّر جواز السّفر. فكانت المشاركة في مؤتمر برلين. وقد حفّت بتلك المشاركة أحداث لا تمحى من الذاكرة. أوّلها حفاوة استقبالي على مدرج الطائرة، وصورة الواقعة أنّ «السعداوي» قد أوصاني أن أحمل حقيبة صغيرة معي فإذا حطّت الطائرة وقبل النزول أخرج منها «السفساري» التونسي و«الخامة» وأضعهما رمزا للمرأة التونسية حينها. وكان الأمر كذلك، وفوجئت وأنا أخطو على سلّم الطائرة بالمصورين الصحافيين يطلبون مني التوقف عند كلّ درجة ليأخذوا صورا وهم يتساءلون عن بلد هذا اللّباس، كنت أشعر بالفخر وهم يردّدون اسم «تونس» الذي بينهم من يسمعه للمرة الأولى. ومن الغد جاءتني إحدى المشاركات بجريدة وقد وُشّحت صفحتها الأولى بصورتي.
ألقيت في هذا المؤتمر الذي حمل شعار «الثروة البشريّة» خطابا عن وضع المرأة في تونس باللغة العربية ترجم إلى لغات متعدّدة تعرضت فيه إلى حالة الأميّة التي تعانيها وإلى تأثير الاستعمار السلبي عليها وعلى أسرتها ومجتمعها. والتقيت بنساء من دول مختلفة منها كثير من الدول العربية مثل مصر وسوريا والمغرب وفلسطين التي مثّلتها فلسطينية يهوديّة حرصت أن تجتمع بالوفود العربيّة وطلبت منّا الاتصال باليهود في بلداننا وثنيهم عن القدوم إلى فلسطين اعتبارا إلى أنّ هجرة اليهود هي مؤامرة على الشّعب الفلسطيني. وهو ما حرصت على القيام به ما إن عدت إلى تونس.
ومن الصور التي بقيت راسخة في ذهني عن برلين، مظاهر الخراب وآثار الحرب التي كانت بادية للعيان. فحيث وليت وجهك لاحت لك الآثار المدمّرة للحرب. وحرص المنظّمون على اصطحابنا إلى ما اصطلح عليه بـ«محرقة اليهود»، ولا نعلم إن كان اطلاعنا على فظاعة ما حدث بريئا أملاه واقع ما أم هي محاولة لكسب التعاطف مع اليهود.
وكذلك نشيد الاتحاد الذي ترجمه إلى العربية حمادي بن عبد الكريم والذي أتغنّى به إلى الآن ويقول:
اليوم العالمي يوم اتحادنا
اليوم العالمي يوم نضالنا
هيا نفتخر باليوم العالمي
نسعى إلى بناء عالم جديد..
ثمّ تتالت المشاركات في المؤتمرات العالمية رفقة مناضلات من بنات المنظّمة أو اللاتي كنّ ينشطن في الاتحاد الإسلامي وانخرطن بعد ذلك في الاتحاد النسائي مثل «نبيهة بن ميلاد» التي ترأست اتحادنا و«علياء ببّو» و«بيّة الخياري» وغيرهنّ.
* ذكرت أنّك حاولت إثناءَ يهود تونس عن الذهاب إلى فلسطين. فإلى أيّ مدى نجحت في الأمر؟
– في الحقيقة فشلن فشلا ذريعا بل كدت أموت لولا بعض الأصدقاء اليهود المنتمين إلى الحزب الشيوعي الذين أنقذوني من مصير مؤسف. وصورة الحادث أنّ «غلاديس» نظّمت لي لقاء في روضة اليهود بالحفصيّة يوم عطلتهم حيث لهم طقوسهم الخاصة، وبدأت الخطاب بالقول «إنهم تونسيون وإنّ آباءهم وأجدادهم مدفونون هنا في أرضهم وأنّ الهجرة إلى فلسطين مؤامرة ضدّ الشعب الفلسطيني.. «وما راعني إلاّ وهم يضربون على الطاولات صائحين «نريد إسرائيل.. نريد إسرائيل..» وامتدّت الأيدي تريد ضربي وعملت «غلاديس» على تهريبي من الباب الخلفي وحملتني إلى شقة امرأة يهودية ينتمي زوجها إلى الحزب الشيوعي، فخبّأتني هناك حتى المساء، ثمّ جاء زوجها وأخرجني من طريق فرعيّ ليهرّبني إلى عائلتي وابني الرضيع حينها.
* نصل الآن مرحلة الاستقلال، هل حافظت منظمتكم على العمل بالشكل ذاته؟
– بعد الاستقلال واصلنا العمل رغم التضييقات وكنّا نشارك في المؤتمرات العالمية التي كان آخرها مؤتمر جينيف الإعدادي لمؤتمر موسكو، وأذكر أنّي كنت عائدة رفقة نبيهة بن ميلاد من جينيف يوم 10ديسمبر 1962 عندما تمّ إيقافنا في مطار العوينة، ثمّ وقع تسريح «نبيهة» واستبقائي لأكثر من ساعة ونصف، وقال لي العون المكلّف باستجوابي «عندك دوسي ملْيان بالاحتجاجات»، ثمّ طلب مني التوقيع قبل السّماح لي بالمغادرة. كانت الأجواء بالبلاد متوترة وأخذت التضييقات على الحزب وعلى منظّماته صبغة تصاعديّة، وكانت محاولة الانقلاب التي تعرّض لها بورقيبة تعلّة لحلّ التنظيمات المعارضة. فحُلّ الحزب وحُلّت معه منظماته مثل اتحاد الطلبة الذي كان من بين الناشطين فيه السيّد الجنيدي عبد الجواد والسيّد أحمد إبراهيم وغيرهم وكذلك حلّت المنظّمه النّسائيّة. كان ذلك يوم 11 جانفي 1963. ووقع استدعاء جميع الناشطين في الحزب ومنظماته للإمضاء على التزام بعدم النشاط السّياسي، ولم يمضِ شهر حتّى اغتيل زوجي في مركز للشرطة بعد أن اقتاده أعوان من الأمن إلى مركز باب سويقة ثمّ حملوه إلى المستشفى بعد أن فارق الحياة مدّعين أنهم وجدوه مُلْقى في الشارع ورفضت الحكومة أن تسمح بالتشريح لتحديد أسباب الوفاة كما تمّ التعتيم على موعد دفنه إعلاميّا ومازال اللثام لم يمط إلى الآن عن قضية اغتيال المناضل النّقابي حسن السّعداوي الذي لم يدّخر جهدا في الدّفاع عن العمّال والذي أبى أن يستغلّ زعامته النقابية ليحصل على ربح لنفسه أو لعائلته وانتهت به رحلة الحياة عاملا وقتيا في الصادقية قبل أن يُغْتيل في دولة الاستقلال. ويبدو أنّ السعداوي كان يتوجّس من المستقبل لذلك حرص إبّان وجودي في جينيف أن يتقدّم باسمي بمطلب عمل في مستشفى «شارل نيكول» وحين عدت طلب مني لقاء المسؤول هناك لألتحق بعد ذلك بالعمل «ممرضة مساعدة» إن صحّت العبارة، وقد رحل السّعداوي قبل أن أتلقى جرايتي الأولى في العمل الذي اختاره لي.
* غادرت إذن العمل الجمعياتي والنّسوي منذ 1963؟
– ليس تماما، انقطعت عن النشاط مدّة من الزمن استمرّت ثلاث سنوات من 1963 إلى 1966، انشغلت فيها بتأمين حياة كريمة لأطفالي الثمانية خاصة أنني وجدت نفسي أتحمّل مسؤوليتهم بمفردي. ثمّ عدت من باب الاتحاد القومي النسائي.
* كيف التحقت بالاتحاد القومي النسائي الذي يعتبر «اتّحاد السّلطة» إن شئنا وبينك وبين السّلطة تنافر وثأر ربّما.
– لا تؤخذ الأمور بهذه الطريقة، فالعمل في المنظمة النسائية هو عمل للصالح العام وليس عملا للسلطة في ذاتها أو في غيرها. ثمّ إنّي التحقت بالمنظمة بمحض الصّدفة وصورة الحادثة أنّ ابنتي الكبرى «كلثوم» رحمها الله، جاءتني باستدعاء وليّ من مدرستها لأحضر في اجتماع للأولياء كانت تحضره راضية حداد. وشهدت الجلسة هجوما على المرأة التي اعتبرت جاهلة وتفتقر إلى الوعي، فاستفزّني الأمر فطلبت الكلمة مدافعة عن المرأة التي لم تدّخر جهدا لتساهم به في توازن الأسرة والمجتمع واقترحت بدَلَ أن نهاجم المرأة علينا أن نضع برامج للنهوض بها والرقيّ بوعيها وحفظ كرامتها، وحين هممْت بالمغادرة استبقني بعض المرافقين لراضية حداد بدعوى أنها تريد الحديث إليّ. ولكنّي كنت مستعجلة للالتحاق بالعمل فحدّدنا موعدا من الغد. حين تحدّثت مع راضية حداد وجدت لديها رغبة في الاستفادة من كلّ الطاقات القادرة على العطاء دون إقصاء فكري وأيديولوجي وألحّت عليّ في العمل صلب المنظمة فوافقت وبدأت مسيرتي مع الاتحاد القومي النسائي متطوّعة.
* ماذا حقّقت شريفة الدّالي السّعداوي في الاتحاد القومي النسائي؟
– تولّيت بعد المؤتمر رئاسة فرع الحفصيّة للاتحاد القومي النّسائي، وبعث الفرع مدرسة للتكوين المهني في مدرسة خير الدّين حيث حرصنا أن نعلّم الفتيات مهنة تحفظ كرامتهنّ وتقيهنّ الحاجة وتحقّق استقلالهنّ الاقتصادي، فكنّ يتعلّمن الخياطة وصنع الحلويات، وأشرفت على المركز بنفسي، وحين أصبح قائم الذات وقع نقله إلى حيّ الزهور ثمّ قرّرت راضية حداد أن تعوّضني بمشرفة أخرى بدعوى أنّ مهمّتي التأسيسيّة قد نجحت وعليه يجب أن أنتقل إلى تأسيس مركز جديد. كما تمّ بعث المركز روضة للأطفال بسعر رمزي، وقد رافق بعث تلك الروضة كثيرا من الطرائف والتعب والمتعة في آن. وقد أوحى إليّ «الكنيس» اليهودي الذي هجره أهله إلى فلسطين وبقي مهملا في نهج «سيدي سيريدك» أن أستغلّ الفضاء في نشاط مفيد بدَلَ أن يبقى مرتعا للمنحرفين والسكارى، فاتصلتُ بالرّبّي اليهودي بوساطة من إحدى الرفيقات القدامى في الحزب الشيوعي وكانت يهودية فآذن لنا باستغلال الفضاء على أن نحفظ التراث اليهودي الموجود هناك من نقوش وكتابات ولوحات حتى يتسّلمها. وهكذا كان. وجاءت بلدية تونس وأعادت تأهيل المكان بالترميم والدهن ثمّ اتصلت بنجّار في الحيّ أعرفه ليعدّ لنا كراسي وطاولات ليتمكّن الأطفال من الجلوس والعمل، وأذكر أنّنا لم نكن نملك مالا في الفرع، فطلبت من النجّار أن يصبر علينا في خلاص أجرته حتى نجمع أموال اشتراكات الأطفال الرّمزية التي كانت تقدّر ب500مي للطفل الواحد، لكنّه رفض بدعوى أنّه صانع ولا يملك حقّ تسليم بضاعة دون الحصول على ثمنها في إبانه فلم يكن أمامي إلاّ أرهن لديه «إسورتي» الوحيدة لأحصل على الكراسي المتّفق عليها وينطلق العمل في الرّوضة. ثمّ تحولت تلك الروضة في مرحلة لاحقة إلى مركز للتكوين المهني أعتقد أنه مازال يعمل إلى يوم الناس هذا. ويبدو أنّ ما كنت أشقى في بنائه كان يغري الآخرين بإدارته فأُكلّف بمهمة أخرى وأترك مهمّة الإشراف على الهيكل الذي أنشأت إلى غيرى.
كان العمل صلب الاتحاد القومي النسائي ممتعا رغم صعوبته، وأذكر أنّ الاتحاد كان يوفّر للفروع موادّ غذائيّة لتوزيعها على المحتاجين وخاصة في المناسبات والأعياد، وكم من مرّة كانت المواد المقدّمة أقل من حاجة المحتاجين فأضطرّ إلى شراء موادّ مثل «الفرينة» والسكّر من قوت عيالي لأوفي حاجة المنتظرين، كنت أخجل أن أخبر امرأة جاءت تسعى في أكل لأبنائها أنّ المواد الغذائيّة قد نفذت.
* لماذا انقطعت التجربة إذن؟
– التحقت بالاتحاد في عهد راضية حدّاد، وصادف أن مررت بظروف صعبة بعد مرض ابني ثمّ وفاته، وفي الأثناء وقعت إقالة راضية حداد لأنها طالبت باستقلالية المنظمة النسائية عن اللجنة المركزية وإدارة الحزب. وحين عدت في أوّل اجتماع مع الهياكل الرّسمية طالبت بمعرفة السّبب الذي أقيلت راضية حدّاد بموجبه، وهو سؤال لم يعجب المسؤولين ووجدت نفسي غير مرحّب بي فغادرت المنظمة سنة 1972.
* لو تقارنين بين العمل الجمعياتي لفائدة المرأة ماضيا وحاضرا.
– يهدف المنظمات النسائية سابقا إلى توعية المرأة وإلى مساعدتها على تأمين عمل يحفظ كرامتها ويساعدها على المشاركة الفاعلة في المجتمع، وهي القيم التي أخذت في التلاشي شيئا فشيئا، ويبدو أن وعي المرأة بما حولها وبرهانات الواقع يحرج السّلطة أيّا كان نوعها، إذ سيدفع الوعي المرأة إلى المطالبة بحقوقها والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو أمر غير مرحّب به. الإنسان الحرّ المستقل الواعي يخيف السّلطة لذلك تسعى إلى أن تجعله دائما تحت السّيطرة وهو ما يفسّر نوع البرامج الموجّهة للمرأة والتي يغلب عليها المساعدة العينية لا اكتساب مهارة الفعل. ومن هنا أعتقد أنّ أمام المرأة طريق طويلة لتحقيق ذاتها واحتلال المكانة التي تستحقها في المجتمع، وهي طريق عليها أن تقطعها بإرادتها لتحقق ما تصبو إليه.
* هل من مقترح لتفعيل دور المرأة في المجتمع التونسي؟
– قبل المقترحات يجب على المرأة أن تبادر إلى الدّفاع عن حقها بالعمل الجادّ والثقة بالنّفس دون أن تنتظر الآخر ليدفعها. ثمّ على المنظمات التي تتبنى العمل النّسوي أن تضع برامج حقيقيّة لفائدة المرأة وتحرص على تطبيقها بالاتصال المباشر بالمرأة حيث كانت. ثمّ أن يكون العمل تطوّعا وأن يكون هناك بالعمل التطوّعي لما فيه من نبْذ للمصالح الضيّقة وما فيه من تحرّر من وهم المكاسب الزائلة. يجب أن يكون العمل لصالح المرأة والمجتمع والوطن لا غير.
* أترك لك كلمة الختام.
– أرجو أن تتقدّم للمرأة التونسية أكثر وأن تفرض وجودها في العمل السياسي وتطرق كلّ الأبواب فتعمل للمستقبل بما يحقّق رفاهها ويحفظ كرامتها ويجعلها حرّة أبدا ففي حريّتها حريّة لكلّ الأسرة وحريّة للأجيال القادمة وحريّة للوطن.