spot_img

ذات صلة

جمع

خواطر حول “ديسمبر”..

شاهين السّافي في ديسمبر لا يقف المرء أمام شهر يعلن...

” إشراقات الوجد” للشاعر تهامي الجوادي: …الكتابة بطعم القيروان وعطرها

بقلم: رياض خليف نشأ تهامي الجوادي في ذلك المناخ الذي...

أشرف أبو اليزيد: الإنسان خارج وطنه يعيد اكتشاف ذاته

حاوره: طارق العمراوي، كاتب وناقد من تونس كيف تقدمون الروائي...

توفيق الجبالي مسرحي “لا ينسي ولم يسأَم”

الكاتب: حسني عبد الرحيم الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيمعندما نتحدث...

ما الجامعة: كتاب للأستاذ محمّد الحدّاد نشأة العلم والتعلّم وآفاقه

سعدية بنسالم أصدر المعهد العالي للغات بتونس، كتابا للأستاذ محمّد...

خواطر حول “ديسمبر”..

شاهين السّافي

في ديسمبر لا يقف المرء أمام شهر يعلن انتهاؤه بداية شهر جديد. إنّه الشّهر الذي يمثّل ذلك الحدّ الفاصل الواصل بينَ فَصْلٍ وفَصْلٍ وبين حَوْلٍ وحَوْلٍ. إنّه إنذار بالنهاية وتبشير بالبداية في آن معا. إنّه لحظة تذوب فيها الفوارق بين الحياة والموت، بين التوديع والاستقبال، بين التذكّر والاستشراف. وهذا ما يجعل منه محاطا بهالة من السّحريّة منذ القديم، وقد نسجت حوله أساطير وحكايات كثيرة، وارتبط قدومه بأعياد واحتفالات عديدة منها الديني ومنها الدنيوي ومنها الجامع بينهما، وكلّ ذلك يجعلنا نقرّ بمكانة هذا الشّهر وأهمّيته في وجدان الشعوب بثقافاتها المختلفة.

ارتبط ديسمبر أيضا بوقائع وأحداث بعضها تاريخيّ لا جدال فيه، وبعضها اختلط فيه التاريخ بالخيال والأسطورة، وبعضها ملهم يسر القلوب وبعضها مؤسف يجلب الأحزان، وقد عرفنا في بلادنا جانبا من هذا وذاك. وشهد هذا الشهر ميلاد أناس لهم حضورهم وبصمتهم في مختلف أوجه الحياة، كما ودّعنا فيه البعض منهم، فهو عبارة عن مزيج فريد بين زغاريد الولادة وطقوس الوفاة: إنّه جامع المتناقضات، يؤلّف بينها بحيث يعسر التفطّن أين تبدأ أطرافها وأين تنتهي.

****

في ديسمبر، وتحديدا في الخامس والعشرين منه، تقرع أجراس الكنائس في كلّ أصقاع الأرض إحياءً لذكرى ميلاد ابن مدينة الناصرة يسوع (عيسى) وهو يعرف أيضا باسم (أو بصفة) “المسيح” (“ماشيح” بالعبرية) ويكنى في الأدبيات الإسلامية بـ”ابن مريم” نسبة إلى أمه مريم بنت عمران أو مريم العذراء أو البتول في الأدبيات المسيحية لأنها أنجبته و”لم يمسها بشر ولم تك بغيا” -وفق العبارة القرآنية- ليكون هذا الطفل آية من آيات الخالق و”كلمته” ونبيّا من أنبيائه.

دار جدلٌ كبير قديمًا وحديثًا حول دقّة هذا التاريخ في تحديد ميلاد يسوع الناصري، هذا فضلا عن الجدل الدائر حول حقيقة وجوده كشخصيّة تاريخيّة. ذلك أنّ بعض التيارات المسيحيّة تحيي عيد الميلاد في 7 جانفي (يناير) على غرار الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، وتيارات أخرى تحييه في 6 جانفي (يناير) مثل الكنيسة الأرمنيّة الرسوليّة. أمّا من زاوية تاريخ الأديان أو علم الأديان المقارن، فإنّ اختيار 25 ديسمبر موعدا لإحياء ميلاد المسيح قد ظهر أول مرّة في الرابع ميلادي وهو يتزامن مع احتفالات دينيّة رومانيّة قديمة بمناسبة “عيد الشمس” أو “ميلاد الشمس التي لا تقهر” (Sol Invictus) احتفاءً بالانقلاب الشتوي، وهو ما يعني أنّه قد اسْتُبْدِلَ اسم العيد ولكن مع المحافظة على العيد نفسه الذي يحتفي بفكرة “الميلاد”، فصار “ميلاد الشمس” هو “ميلاد المسيح” محاطًا بهالتها.

*****

في ديسمبر، ولد قائدان شيوعيّان يعتبران من أهمّ قادة الشيوعيّة في القرن العشرين: ماو تسي تونغ (26 ديسمبر 1893) وستالين (18 ديسمبر 1878).

قاد ماو الثورة الشيوعيّة في الصين، وتجرّع معها مرارة الهزائم والانكسارات ورفع الأنخاب فرحا بما حققته من انتصارات. أسهم في مواجهة الاحتلال الياباني خلال الحرب العالميّة الثانيّة، وله ورفاقه في هذا المضمار صولات وجولات، وحين استقرّ له الحكم أرسى دعائم النظام الاشتراكي، واختطّ لنفسه طريقا مختلفا عمّا هو مألوف في التجارب المماثلة وذلك ضمن ما يعرف بـ”التحليل الملموس للواقع الملموس”، وحين أيقن أنّ الواقع في حاجة إلى “ثورة ثقافيّة” لم يتردّد في إعلانها، فهو السياسي والمفكّر والمقاتل.. والشاعر أيضا.

أمّا ستالين فهو قائد من قادة الثورة البولشيفيّة، وقد لعب دورا مهمّا في إرساء دعائم النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي. خاض العديد من المعارك داخليّا من أجل تحقيق ما رآه صائبا وما قد يراه غيره عين الخطأ، وللتاريخ أن يحكم. كان القائد السياسي لما يعرف بـ”الحرب الوطنيّة الكبرى” ضدّ ألمانيا النازيّة خلال الحرب العالميّة والثانيّة، وقد حسم الأمر لفائدة السوفييت وسقوط النازيّة.

تحيط بمسيرة هذين الرجلين حكايات عديدة قد يكون فيها من الحقيقة نصيب، ولكن من المؤكّد أنّ فيها من الخيال والأسطرة نصيب وافر تماما كما الشهر الذي ولدا فيه. من المؤكّد أيضا أنّهما لمْ يَكُونَا دائما على وفاق، وكذا دائما الرّفاق، ولكن من الوارد أن يرفع أحدها سماعة الهاتف ليتصل بالآخر ويقول له: “عيد ميلاد سعيد يا رفيق..”.

****

في ديسمبر، وفي مراحل متعدّدة من التاريخ، عرفنا في ربوعنا أحداثا مهمّة ومفصليّة كان لها عظيم التأثير. وذلك بدءً بالتاريخ القديم، وتحديدا منذ ذاك النصر الذي حققه ابن قرطاج حنبعل في معركة “تريبيا” (Trebbia) يوم 18 ديسمبر 218 ق.م، في قتاله ضدّ روما خلال الحرب البونيّة الثانية، وكان نصرا عظيما ضرب الصّلف الروماني في مقتل.

ديسمبر له أخ توأم، يرافقه على الدّوام، إنّه جانفي. أحيانا يختلط الأمر عليك فلا تعرف من منهما عامر ومن منهما عمّار. وفي التاريخ الوسيط عرفنا في ربوعنا حدثا مهمّا يقدّم صورة لهذا التوأم البديع، وهو ما يعرف في التسمية المتداولة شعبيّا بـ”الحاجوجة”، وقد أطلقت على انتفاضة أهل صفاقس ضد المحتلّ النورماني في القرن الثاني عشر ميلاديّا، إذ تذكر المراجع (أهمّها “دائرة مقديش”) أنّ لحظة الانقضاض على عساكر النورمان كانت “ليلة يناير” (أي الليلة الفاصلة بين آخر ديسمبر ومفتتح جانفي) من سنة 1160، ولكنّ هذا التاريخ يحمل جزئيّة مباغتة تتعلّق بالتقويم المعتمد، وهو التقويم الأعجمي (راس العام العجمي) المرتبط بأمور الزراعة، وهو يتقدّم على التقويم الميلادي المتداول بأربعة عشر يوما، وهو ما يعني أنّ “ليلة يناير” تلك هي في واقع الأمر ليلة 31 ديسمبر 1159 وهي أيضا ليلة 14 جانفي 1160. نعم 14 جانفي.

أمّا في تاريخنا المعاصر والآني، فلهذا التوأم صولات وجولات، فكثيرا ما نرى ديسمبر يمهّد للحدث ليكون جانفي لحظة التنفيذ، أو قد نرى الأوّل نقطة انطلاق والثاني لحظة الحسم، كما هو الحال مع الهبّة الشعبيّة التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد والتي سرعان ما انتشرت في كلّ ربوعنا حتى صارت لحظة 14 جانفي 2011 لحظة الحسم.

****

في ديسمبر قدّمنا للحبيبة فلسطين خيرة أبنائنا ومن مُهَجٍ فكريّة مختلفة. قدّمنا الشهيد محمّد الزواري الذي اغتاله الموساد في صفاقس ذات 15 ديسمبر 2016، وهو مهندس تونسي قدّم خدمات جليلة للمقاومة الفلسطينيّة حيث أسهم في تطوير نماذج من الطائرات المسيّرة، وبعضها بات يحمل اسمه. وقدّمنا قبل ذلك الشهيد عمر قطاط وهو مناضل وسنيمائيّ تونسي (من السينمائيين الهواة) انتسب إلى المقاومة الفلسطينيّة وارتقى شهيدا يوم 22 ديسمبر 1992 أثناء مشاركته في عمليّة بطوليّة في مرج الزهور بجنوب لبنان.

في ديسمبر، وتحديدا في 5 ديسمبر 1952، فقدت تونس واحدا من خيرة أبنائها، هو الشهيد فرحات حشاد ابن الحركة الوطنيّة والقائد النقابي العمّالي الذي اغتالته عصابة “اليد الحمراء” التابعة لسلطات الاستعمار الفرنسي.

في ديسمبر أيضا ولد ابن جزيرته (قرقنة) الشاعر والمناضل عم خميّس (المولدي زليلة) وذلك يوم 27 ديسمبر 1917، وله قصيدة رائعة بالدارجة التونسية تمجّد خصال حشاد وتضيء جوانب من شخصيّته، وقد تناولنا هذه القصيدة -سابقا- بالدرس في المستوى الأسلوبي، ونرجّح أنّها قد كتبت وحشاد مازال على قيد الحياة، أي أنّها ليست في مقام الرثاء، وهو ما يعزّز فرادتها.

خير ما نختم به هذه الخواطر هو كلمات عم خمّس في هذه القصيدة الموشحة بروح ديسمبر والمتيّمة بهواه.

يقول:

لَـوْ مَــاهُـوَّ، لـوْ مَــا هُـوَّ

آشْ مِ الضّعْفْ يولّي قوَّهْ

لـوْ مَـا هُـوَّ بْـنضالاتُو

بتَضْحِيَاتُو طولْ حْيَاتُو

لــوْ مَــا هُـوَّ بـقـيـاداتُو

وفَجْر اللّيلْ يْبَانْ بضَوَّهْ

لـوْ مَـا هُـوّ بمـجهُـودَاتُو

واش نعْرفْ آشْ ثَمّه توَّهْ

لَـوْ مـا هـوَّ تكلّمْ قَـالْ

لا استقلالْ بْلاَ عُمّالْ

لوْ مَا هُوَّ صنعْ أبطالْ

وفي العالمْ بَلّغهَا دعْوَى

لـوْ مَـا هُـوَّ في لَجْبَالْ

واشْ يفيدْ كلامْ القهْوَهْ

لـوْ مَـاهُـوَّ عْـقَـدْ الـنـيّـة

وجْعَلْ المبدأ تـضـحـيَّـهْ

وناضلْ منْ أجلْ الحريّهْ

لا طالبْ شهرة ولا مروَّهْ

لـوْ مَـا ولدْ “الـعبّـاسـيَّة”

راهُو البحْرْ بلَعْنَا بْنَوَّهْ

spot_imgspot_img