spot_img

ذات صلة

جمع

خواطر حول “ديسمبر”..

شاهين السّافي في ديسمبر لا يقف المرء أمام شهر يعلن...

” إشراقات الوجد” للشاعر تهامي الجوادي: …الكتابة بطعم القيروان وعطرها

بقلم: رياض خليف نشأ تهامي الجوادي في ذلك المناخ الذي...

أشرف أبو اليزيد: الإنسان خارج وطنه يعيد اكتشاف ذاته

حاوره: طارق العمراوي، كاتب وناقد من تونس كيف تقدمون الروائي...

توفيق الجبالي مسرحي “لا ينسي ولم يسأَم”

الكاتب: حسني عبد الرحيم الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيمعندما نتحدث...

ما الجامعة: كتاب للأستاذ محمّد الحدّاد نشأة العلم والتعلّم وآفاقه

سعدية بنسالم أصدر المعهد العالي للغات بتونس، كتابا للأستاذ محمّد...

صراع الهوية في رواية (ميلانين) للأديبة فتحية دَّبش

بقلم ثابت محمد القوطاري- اليمن.
 
(ميلانين) عمل روائي للأديبة التونسية (فتحية دَّبش)، يقع في (177صفحة) من القطع المتوسط، من إصدارات منشورات عندليب 2019م.
اعتدتُ أن أدخل إلى العمل الأدبي في قراءتي المتواضعة من عتبته الأولى (العنوان- الغلاف- الإهداء- الخطاب المقدماتي) باعتبار أن هذه العتبات هي أول ما يوجهه القارئ، وهي المحطة الأولى التي تقع عيناه عليها، ولها وظيفة مهمة في جذبه لاقتناء العمل، كما أنَّها ذات دلالة واضحة تفصح عن طبيعة العمل ومحتواه، وعن علاقتها بمتنه، وللدخول إلى عالم رواية (ميلانين) فإننا سنمر بهذه العتبات بشيء من الاختصار، على سبيل الإشارة، والربط. 
 
• العتبات
1- العنوان (ميلانين).
(ميلانين) عنوان من حقل دلالي علمي، فالميلانين صبغة تنتجها خلايا الميلانوسومات تعطي اللون للجلد والشعر والعيون، وقد جاءت هذه المفردة في المتن الروائي خلال السرد عن صراع الهويات حيث تقول الساردة: ” حتى السود […]تسميات تعكس عنفاً، تصالح الجميع معه وما عاد يخدش حياء أحد، ولا احتاج من أي كان، وكأن الطبيعة والميلانين وحدهما المسؤولان على هذا التقسيم” صـ74، وقد جاء العنوان مفرداً منكَّراً ليعطي دلالة بالعمومية وعدم التحديد والتعريف.
 
2- لوحة الغلاف.
جاء الغلاف بلونه المتدرج بين الأسود والرمادي، ليعطي انطباعاً بحالة من الحزن والغموض، والفقد، وهذا ما يؤكده المتن الروائي من حالة فقد الهوية وضياعها، كما أنَّ الغلاف حمل صورة لوجه امرأة يبدو من ملامحها أنَّها العربية أو الأفريقية، وهذا ما يشير إليه المتن الروائي على لسان الساردة: ” وحدهم الأفارقة والعرب يهرولون دائماً للبحث عن ملاذ أو لقمة، حاملين غربتهم على وجوههم” صـ118.
وعلى لوحة الغلاف يظهر برج (إيفل) في باريس كوشم باهت في وجه المرأة، بما يفصح عن غربة الشخصية واغترابها في فرنسا، تلك البلاد التي ” أصبحت غولاً كبيراً يبتلع أطفاله الذين يحملون ملامحه ولا يحملونها في آن” صـ50
3- الإهداء 
اعتدنا كثيراً أن يهدي الكاتب عمله إلى عائلته، باعتبار أنَّ قد استقطع وقتاً كان مخصصاً لهم لإنجاز هذا العمل، إلاَّ أننا في (ميلانين) نجد الإهداء إلى الأصدقاء والقراء، على اعتبار أن الأصدقاء الذين ينثرون البسمة حولنا، هم جزء من تكوين الهوية التي نحن عليها، كما أن القارئ شريك حقيقي في إنتاج العمل السرد من جديد، من خلال ما سيخرج به من قراءة جديدة كنص موازٍ للنص الأصلي، وإعادة إنتاجه على نحو مختلف. 
4- الخطاب المقدماتي 
يأتي الخطاب المقدماتي كمفتاح آخر، وكعلامة كاشفة لمضمون المتن السردي، يفصح عن طبيعة العمل ومحتواه، إذ تقول الساردة:” للآخرين الذين تغويهم الإقامة فيعتقدون أن المتحولين في الهوية وحدهم القادمون هنا” صـ7.
كما أن الكاتبة في تصديرها، قد استدعت شخصيتين تاريخيتين، الأولى: من الثقافة الإسلامية (جلال الدين الرومي)، والثانية: من الثقافة الفرنسية (جان بول سارتر)، وتلتقي هاتان الشخصيتان في البُعد الإنساني، فالإنسان مخلوق حُر ومسؤول عن اختياراته، كما أنَّ الإنسان أخو الإنسان، ولا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه (الأنا) المؤمن، و(الآخر) الكافر، بل الجميع يحمل هوية واحدة هي (الإنسانية).
 
 
• موضوعات الرواية
تتحدث الرواية عن صراع الهوية عند الشخصية، بين البلد الأصل (تونس)، وبلد المهجر (فرنسا)، وما تعانيه الشخصية العربية والأفريقية من تفرقة عنصرية مبنية على اللون واللغة، بالرغم من حصولها على جنسية بلد المهجر، ففي موطنها الأصل متهمة بكونها (من عرب فرنسا) أي ليست عربية خالصة التكوين، وفي بلد المهجر متهمة بعروبتها فليست فرنسية خالصة التكوين، وكلُّ ما يحدد ذلك هو اللون، “وكأن الطبيعة والميلانين وحدهما المسؤولان على هذا التقسيم” صـ74، فــــ”اللون عندهم هو الهوية، ونحن هنا عرب أو سود تجترنا البطالة، وتسلمنا لاجترار الوقت والمرارات، حتى الموت جعلوا له ثمناً…تجارب متعددة مع إجراءات فرز الهوية وبين تجربة وأخرى” صـ166.
وخلال هذا الصراع والبحث تنتشر قضايا لا تقل أهمية عن (الهوية) إن لم تكن من مكوناتها الرئيسة فقد أشار السرد الروائي إلى موضوعات مختلفة، وعقد مقارنات سريعة، فتحدث عن أحداث الربيع العربي، والتنظيمات الإرهابية، وعلاقة الإنسان بالدين، والمرأة، والحبُّ والزواج في الغرب وعند العرب، وعلاقة العربي باليهودي بعيداً عمَّا يحدث في فلسطين.
وإذا ما بحثنا حول سلوكيات العربي المسلم في فرنسا فسنجده بهذه الصورة التي أفصح عنها السرد الروائي بقوله: “يسجدون في الشوارع، يكتبون بالعربية على واجهات مغازاتهم، لم يحدث أن خلخلت أقلية مهاجرة فرنسا مثلما خلخلتها الجالية العربية المسلمة، إنَّه زحف ممنهج، متمرد، اندمج حتى السود، أما المسلمون فقد كشفوا عن عجزهم على التأقلم فيها، ظلوا متمسكين بعاداتهم القبلية، وبأفكارهم الخرافية، ساقهم إليها الفقر، حتى إذا شبعوا تنكروا لبلد آمنهم من جوع” صـ15-16.
وعلى لسان (نيكولا) إحدى شخصيات العمل الروائي يقول مفصحاً عن وجهة نظر فرنسا حول المهاجرين العرب والأفارقة: ” لا يمكن إدماجهم أبداً، وكلُّ عرق يجب أن يحافظ على نقائه” صـ16، ففرنسا وإن كانت دولة مدنية مبنية على القانون إلاَّ أنها تنظر إلى القادمين من خارجها على أنَّهم عنصر ملوث لا يمكن قبوله، بالرغم من كون هؤلاء المهاجرين المغاربة والأفارقة هم الذين بنوا المدينة وعمروها، فـــ” منهم من قضى في حوادث شغل، ومنهم من خرج محني الظهر وعاد إلى أقاصيه، ومنهم من مات في غرفة بمبيت السوناكوترا وحيداً، وقلة قليلة شاخت على مقاعد البارات تملأ كؤوسها بالشجن وتفرغها، قلة قليلة جداً تنعم بدفء العائلة والأبناء” صـ40، أما الانطباع الذي قد يخرج به المهاجر عن فرنسا فقد أفصحت عنه إحدى شخصيات الرواية بالقول: “فرنسا كذبة كبيرة، كبيرة بحجم أوطاننا الأصلية، انظري بلا عمل، بلا مستقبل، والبوليس لا شغل له غير اصطيادنا هناك زميقري وهنا راكاي” صـ166.وفي حالة البحث عن الهوية يعود العربي لعقد المقارنة بين الشرق الإسلامي والغرب الكافر، فيقول: “تعلمنا أن الغرب حالة من التفكك والكفر، إلاَّ أن للساردة وجهة نظر أخرى إذ:” تتهاوى يوماً عن يوم كل تلك الاعتبارات التي حفظناها صغاراً، وأقنعتنا أننا فوق الجميع، وأنَّ هذا الغرب الكافر مفكك الأوصال على عكسنا…حتى أنَّهم يودعون موتاهم بـــ(السموكينغ) وبالكأس، كأنَّ الموت عندهم صنو للخلاص أو محطة وصول أخيرة، بينما نودعهم باللطم والعويل، تحسباً لعذاب القبر…أو لعلَّه ذلك الإيمان بأن الحياة تستحق الاحتفاء لا كما نراها أكذوبة فنستهجنها ونلهث وراء الآخرة لهاث الخطائين فنخسر متعة الدنيا وجنة الآخرة” صــ34-35.
هذه المقارنة التي تقَّرع العرب والمسلمون، وتثني على الغرب (الفرنسيين) توحي بحالة الصراع النفسي، والبحث عن هوية جديدة، كما أنَّها تنتصر للغرب (فرنسا)، وتكشف المستور لدى العرب المسلمين إلاَّ أن العربي المسلم -بالرغم من وضعه المتردي- يجد نفسه أرقى النماذج البشرية، فحين سألته أنيسه عزوز إحدى شخصيات الرواية: ” ما الذي يمنع هؤلاء [العرب] من إيجاد مكان لهم بين الأمكنة؟” أجابها: ” إنَّ الله اصطفانا على العالمين سيدتي؟ وكل أرض الله وطن، هل بعد ذلك نحتاج أن نجد لنا مكاناً” صـ38.
ما زال صراع الهوية محتدماً، بين من يرى ثباتها، ومن يرى تحولها، ” فالذين يدافعون عن هوية ثابتة يسيرون عكس الحتمية، فالهوية متحركة متحولة، شأنها شأن كل ما يتأثر بعوامل بعضها من الداخل، وبعضها من الخارج، ومن الظلم أن تتجاهل الصحافة موضوعاً كهذا، وتكتفي بإثارته في الأزمات، غالباً ما حوكمت هذه الأجيال هنا وهناك وقوبلت بالتهميش…الهوية ليست فقط ما ورثناه وهو الثابت، ولكنها أيضاً ما اكتسبناه وهو المتحول” صـ44، صوت آخر معارض:” الهوية لا تتحول، هي ما توارثناه وحفظناه، هي ديننا ولغتنا وأرضنا، وكلُّ منغرس في هوية جديدة لا يعدو أن يكون منبتاً انبتات البعير المعبد” صـ44
وعند مقارنة العرب والأفارقة المقيمين في فرنسا بغيرهم من الجنسيات مثل الصينيين واليابانيين والكوريين نجد أن ” الأفارقة والعرب -وحدهم- يهرولون دائماً بحثاً عن ملاذ أو لقمة، حاملين غربتهم على وجوههم، ما أكثر الخطى التي يرصفونها ليزداد جشع المدينة، ويزداد فقرهم وذلهم وتبعيتهم” صـ118، في حين أن الجنسيات الأخرى المقيمة في فرنسا تعيش على نحو مختلف، “يدوسون على القواعد، ويتخففون من قيودهم” صـ118، إلاَّ العربي المسلم، والأفريقي، فإنَّهم يعيشون “عملية فرز هوية كل يوم هنا، البوليس هنا لا علاقة لهم بأمننا، وإنَّما يأتون للبحث عن المشادات التي تشرع للعنف المسلط علينا، إنَّهم هنا لكسر (الرونوا) الأسود والعربي هنا” صـ164.
ويأتي استدعاء رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، والإحالة إلى أدبيات سارتر وكافكا وبول إلوار ونزار قباني، إحالة وتعزيز لموضوع الرواية، وقضاياها الإنسانية المتعددة.
 
تعتمد الرواية على السرد والوصف، وتدوين اليوميات، كما ينتقل السرد الروائي بين الماضي والحاضر، على نحو من الاسترجاع، واستخدمت تقنية (الميتاسرد): أي أن الرواية تفكر في نفسها في البناء، كما نقلت الروائية عدد من أفكارها من خلال الحوار بين الشخصيات، وبخاصة تلك التي تتحدث عن الهوية، والرؤية الخاصة للعرب والفرنسيين، كل هذا جاء برؤية خارجية ومصاحبة على امتداد الرواية.
spot_imgspot_img