spot_img

ذات صلة

جمع

المدرسة العمومية في مراحلها الثلاث تشهد انهيارات كبرى تتهددها جديا . !

 *حاوره أبو جرير  في زمن تتهاوى فيه المدرسة العمومية وتتصدع...

حوار مع وحيدة المي : الكتابة كجمرٍ لا يخبو

حاورها: عمّار الطيب العوني في عالمٍ تتنازعه السرعة والسطح، تكتب...

“أوجات وطقس الفم المفتوح” لمِنّة الله سامي

سعدية بنسالم العمل مجموعة قصصية للكاتبة المصرية المتميّزة منّة الله...

المدرسة العمومية في مراحلها الثلاث تشهد انهيارات كبرى تتهددها جديا . !

 *حاوره أبو جرير 
 

في زمن تتهاوى فيه المدرسة العمومية وتتصدع فيه الأسس الثقافية والفكرية، يظل صوت المثقف الحقيقي نشازًا في جوقة التهميش والنسيان، يصرخ من الأعماق، ويجتهد في التأسيس لاجتهاد فكري جديد، بعيدًا عن الشعارات الزائفة والمعالجات السطحية.

من هؤلاء المثقفين الذين اختاروا درب البحث والتوثيق والنقد الجاد، يبرز اسم الأستاذ الباحث بلقاسم بن جابر، أستاذ اللغة والآداب العربيّة، والباحث المتخصص في الشعر الشعبي التونسي، دراسة ونقدًا وتحكيما وتوثيقًا. مسيرة ثقافية متفرّدة امتدت على مدى عقود، جمع فيها بين الدرس الأكاديمي، والاشتغال الميداني، والمساهمة في المشهد الثقافي الوطني والعربي.

هو صاحب عدد من المؤلفات النوعية، منها:
🔹 إشكاليات الشعر الشعبي التونسي عند محمد المرزوقي (2017)
🔹 المرأة في السيرة الهلالية – صورة الجازية الهلالية وشخصية سعدى الزناتية (2024)
🔹 الإبل في الشعر العربي القديم والشعر الشفوي التونسي (2024)
🔹 الخيمة: بيت الشعر في التراث العربي والمأثورات الشعبية (الشارقة – 2024)

كما أشرف وشارك في العديد من الندوات، المهرجانات، ولجان التحكيم، وكان له حضور لافت في مختلف المحافل الأكاديمية والشعبية.

في هذا الحوار، نحاول أن نقترب من رؤيته الثقافية، ونفهم مشروعه النقدي والتوثيقي، ونستجلي مواقفه من واقع المدرسة العمومية، ووضعية المثقف العربي، ومآلات الشعر الشعبي.

يقول رولان بارط: “لا نقول شكرًا لمن نحب.”
لكن نقول: جريدة “الشعب” ترحب بك، أستاذ بلقاسم.

بل يجب الشكر لمن يستحقه، وقد ذكّرتني ببيت من قصيدة إخوانية أرسلها الشاعر أحمد البرغوثي لصديقه منصور المهذبي، يقول فيها:

“جوابك فرّج للهم والتخميمة،
لو كان ما تشكرش فيا ديما.”

أما جريدة “الشعب”، فهي بالنسبة إليّ صدى ذكرى عظيمة، أيام كنتُ فتىً أطالع نشرتها السرية زمن العُسرة بعد أحداث جانفي 1978، وكان يحملها خالي المرحوم الأستاذ البشير بن خليفة. وما زلت أذكر أشعار المختار اللغماني في قسمها الثقافي. فلم تكن لسان حال المنظمة النقابية فحسب، بل كانت رئة الثقافة الوطنية، وصانعة الإبداع المناضل، وصرح المقاومة. فكيف لا أتشرف بها وأنا ابنها الصميم منذ أن كنت فتى؟

مسيرة فاخرة في البحث والتأريخ والإبداع… لو تتفضل وترسم للقراء لوحة بالألوان اسمها: بلقاسم بن جابر، النشأة والبيئة؟

ولدتُ في الثاني من جانفي سنة 1970، في قرية صغيرة تمثّل الضاحية الجنوبية لمدينة دوز، هي قرية غليسية، التي تُكوّن مع قريتي زعفران ونويل موطن قبيلة بدوية مجيدة هي قبيلة العذارى، القبيلة التي رسمت المجال الترابي الصحراوي التونسي بالدم، في ملحمة زملة البرمة التي جرت سنة 1846 بالعرق الشرقي الكبير، وردّت صولة القبائل الطرابلسية الغازية.

لذلك فتحتُ عيني على أشعار الملاحم والعشق والصحراء، وشاركت قبيلتي الصغيرة في كل معارك التحرير الوطني: من مقاومة “الرومي”، إلى “الهجرة الطرابلسية”، و”مجزرة الحقف” بقصر غيلان 1882، إلى “ثورة الجنوب الكبرى” سنة 1915، إلى “معركة برج دوز” سنة 1944، إلى “ثورة التحرير الوطني”.

وكان جدي لأمي، الشيخ خليفة بن سعيد بن سالم، شيخ قبيلة العذارة، رجلًا وطنيًا دستوريًا من بناة البلاد. أما والدي، فقد جمع بين العسكرية والقرآن، فهو مؤدِّب، ومن أوائل من انخرطوا في “الفوج الترابي الصحراوي”، وشارك في معارك رمادة، وفورسان، وبنزرت، وحمل جثامين شهداء ثورة التحرير الجزائرية الذين قصفتهم فرنسا بالنابالم في بير عوين بالصحراء التونسية سنة 1961.
وقد حفّظني، رحمه الله، قسمًا كبيرًا من القرآن، وقصيدة البردة، وبعض المتون، كما كان راويةً لشعر سي أحمد بن حمد بن سالم البرغوثي.

درستُ المرحلة الابتدائية وقسمًا من المرحلة الثانوية بمدينة قبلي، وكان المناضل الوطني المرحوم سنان العزابي صديقًا لشقيقي، وكثيرًا ما كان يبيت في منزلنا. وكان مغرمًا بالشيخ إمام، وكنتُ أحب كثيرًا أداءه لأغنية “واه يا عبد الودود”. ومن الطرائف أن جارًا لنا، كان منتميًا للاتجاه الإسلامي، كان ينصح والدي ويحذّره من خطر هذا “الشيوعي الكافر” على أولاده، فكان يرد عليه:
“ولد الشيخ المنوبي العزابي ما يجيش كافر.”

انتقلتُ إلى دوز حيث تحصلت على شهادة الباكالوريا، ودرستُ بالجامعة في كلية الآداب بسوسة، وكنتُ ناشطًا سياسيًا في التيار القومي الناصري الثوري القريب من ليبيا. ووقع اعتقالي سنة 1992 في السجن المدني بقابس مدة ستة أشهر، بسبب نشاطنا في رفع الحصار عن القطر الليبي، وإرسالنا برقية تنديد إلى السفارة الأمريكية بتونس. وكدتُ أُحرم من الدراسة الجامعية، لولا موقف نبيل من العميد اليساري الشهم سيدي نجيب عياد، أصيل قصيبة المديوني، رحمات ربي ورضوانه على روحه الطاهرة.

وفي تلك السنة، تحصلتُ على الشهائد الستّ المكوّنة للأستاذية في اللغة والآداب العربية، وهو ما يشبه المعجزة، وفاءً لوالدي وعميدي رحمهما الله.

ثم انتُدبت أستاذًا في معهد تطاوين، ثم انتقلت إلى مطوية (قابس)، ثم إلى مدينة طبلبة بالساحل التونسي، حيث ما زلتُ مباشرًا إلى اليوم، في مسيرة تنيف على ثلاثة وثلاثين عامًا، تخرّج فيها على يدي آلاف التلامذة الذين ربّيتهم على حب العربية والأدب، وعلى القيم العالية النبيلة.

وعيتُ منذ نعومة أظافري على قضايا المجتمع والأمة، فكنتُ كائنًا مُسيَّسًا، وطالعتُ في سنّ المراهقة أدبيات التيار القومي، والتراث الماركسي. ورغم تديّني، فقد نفرتُ مبكرًا من التأثير الكبير للتيار الإخواني، وكان الفضل في ذلك يعود إلى اطلاعي على كتابات فرج فودة ورفعت السعيد.

في تلك الفترة، كنتُ قارئًا نهمًا، وأتاني الله حافظة رهيبة، فحفظتُ المعلقات في وقت وجيز، وكنتُ أختار قصائد شهيرة وأردّدها، لأجد نفسي قد استظهرتها. وانبجس الشعر من لساني، فكتبتُ القصيدة العمودية، وشاركتُ في نشاطات نضالية وثقافية نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل بتوزر، ودوز، وقبلي، والحامة، وبنقردان، وقابس، وكنت ألتقي فيها بالشاعر الكبير علي الأسود المرزوقي، وبلقاسم اليعقوبي، وبلقاسم الثليجاني، وآدم فتحي، وجمال الصليعي.

كما شاركتُ في عكاظيات المهرجان الدولي للصحراء بدوز، وتحصلتُ على جائزة الشعر الفصيح سنة 1988، وألقيتُ محاضرات أدبية، منها محاضرة بمناسبة ستينية الشابي سنة 1994.

وترأستُ لجان التحكيم في عكاظيات الشعر الشعبي مرات عديدة في دوز والحامة، وأنا حاليًا الكاتب العام للاتحاد التونسي للشعراء الشعبيين ومؤلفي الأغاني منذ 2021.

شاركتُ في ندوات أكاديمية وثقافية، وألقيتُ عشرات المحاضرات في بنعروس، وطبرقة، والقصرين، ومدنين، وقابس، ودوز، والمنستير، وبنزرت.

وكانت باكورة كتبي:
🔹 “إشكاليات الشعر الشعبي عند محمد المرزوقي” الصادر عن دار البدوي للنشر سنة 2017
🔹 “المرأة في السيرة الهلالية من خلال صورة الجازية الهلالية وشخصية سعدى الزناتية”، عن دار خريف (2024)
🔹 “الإبل في الشعر العربي القديم والشعر الشفوي التونسي”، دار الأطرش، 2025

ولي نحو سبعة كتب مخطوطة جاهزة للنشر، وقد نشرتُ مقالات ودراسات وحوارات في جرائد ومجلات كثيرة، منها:
الحياة الثقافية، وأصوات ثقافية، ومجلة الجازية الليبية، وجريدة الشروق، والشارع المغاربي، والمغرب، والجديد الجزائرية.
كما شاركت في كتب جماعية محكّمة، وقدمتُ خمسة دواوين شعرية لأهم الشعراء الشعبيين المعاصرين، كما قدمتُ ثلاثية الروائي البارع نصر بلحاج بالطيب: تنبايين، بير عوين، سيف الصوان.
حاورتني أغلب الإذاعات الجهوية التونسية، وشاركتُ في برامج تلفزية تُعنى بالتراث الشعبي.

أنا الآن منشغل بإتمام أطروحة الدكتوراه التي يشرف عليها الأستاذ الجليل سيدي مبروك المناعي، وعنوانها:
“الحكمة في الشعر العربي القديم والشعر الشفوي التونسي.”

ولا يفوتني أن أقدّم الشكر لرجال وقفوا معي ووثقوا بي، منهم:
الأخ الصحفي المبدع نور الدين بالطيب، والأستاذ الجليل مبروك المناعي، وأستاذي المرحوم محمد البدوي، وأخي المرحوم الشريف بن محمد، وغيرهم كثير.

ورغم هذه المسيرة الثرية، فإنني أرى أن المشاريع الثقافية التي أرنو إليها ما زالت لم تتحقق بعد.
نسأل الله أن يمدّ في أعمارنا حتى ننجزها، فهذا ما يبقى خالدًا ويمكث في عمق الأرض والوطن.

الباحث المتوهج والمؤرخ الكاشف، ما هي العناصر التي حملتك إلى مدوّنة الشعر الشعبي التونسي، وخاصة اهتمامك بالعميد محمد المرزوقي؟

ذكرتُ في مقدمة كتابي “إشكاليات الشعر الشعبي عند محمد المرزوقي” أني رأيتُ سي محمد المرزوقي وأنا أحمل صينية الشاي إلى مضافة جدي، الشيخ خليفة بن سعيد، ولاحظتُ الحفاوة التي استُقبل بها. سألتُ عنه، فقيل لي: “هذا كاتب كبير، وله برنامج في الإذاعة يستمع إليه سي الحبيب بورقيبة”. كنتُ مستغربًا من ذلك “الطربوش المجيدي” الذي بدا في الانقراض، فقال لي جدي: “هذا طربوش مليء علمًا”.

كما لاحظتُ حجم الحزن المخيم على أهلي عندما أعلنت الإذاعة عن وفاته سنة 1981. فتعلّقتُ بالرجل، وأقبلتُ على مطالعة كتبه في المكتبة العمومية بقبلي. وكنتُ أحفظ، مع إخوتي، قصائد رثاء الدغباجي التي أوردها في كتابه حول المجاهد محمد الزغباني الدغباجي.

في أوائل التسعينات، عثرتُ على كنز عظيم، هو كتابه في الأدب الشعبي، ذلك السفر الصغير الذي مثّل بداية انكبابي على دراسة شعرنا الشعبي. لقد أدركتُ، عندما طالعتُ الدراسات حول الأدب الشعبي والمأثورات في البلاد العربية، أن الأدب الشعبي التونسي توقّف عند لحظة الجمع والتدوين. وهذه خطوة مهمة دعمتها الدولة الوطنية التونسية منذ الستينات، وتولاها الأستاذ محمد المرزوقي من خلال إدارة الأدب الشعبي بوزارة الثقافة — هذه الإدارة التي أُغلقت في التسعينات نتيجة رؤية سياسية ضيقة، كانت تربط بين تراثنا الأدبي الشعبي وبين “قافلة تسير”.

أما انطلاقتي الفعلية في دراسة الأدب الشعبي التونسي، فكانت بعد تخليدنا لأعمال سي محمد المرزوقي بمناسبة مئويته سنة 2016، من خلال كتابي “إشكاليات الشعر الشعبي عند محمد المرزوقي”، وهو كتاب انطلق من دراسة أعماله وأبحاثه، وقد لقي القبول والترحاب من النخب التونسية. وما زلتُ أذكر وصية الأستاذ توفيق بكّار، عندما أهديته كتابي، فقال لي:
“كن على نهج سلفك العبقري محمد المرزوقي.”

وكان الدافع إلى تحويل هذا البحث إلى عمل أكاديمي، أستاذي الجليل سي مبروك المناعي، الذي أشرف على رسالة الماجستير التي بحثتُ فيها “حضور الإبل في الشعر العربي القديم والشعر الشفوي التونسي”. وقد نالت التقدير والثناء من المجمع الأكاديمي التونسي، رغم تحفظه حينها من تكريس الأدب الشعبي كمبحث أكاديمي في الجامعة التونسية.

وأود بالمناسبة أن أُعيد التحذير من العبث بمدوّنة الأدب التونسي، وخاصة مجلدات الشعر الشعبي، وهي نحو 147 مجلدًا، تقبع في قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية التونسية. ذلك بعد أن تم إخراج “مدوّنة” تعيسة، ضمّت عشرة مجلدات مليئة بالأخطاء الشنيعة الفادحة سنة 2015، وشوّهت شعرنا الشعبي.

وقد نبّهتُ وزراء الثقافة المتعاقبين، وكتبتُ في الصحف، وذكرتُ أن هذا التراث الشعبي المجموع لا يقلّ أهمية عن التراث الأركيولوجي الأثري، ويجب ألا يقع بأيدي غير المختصين والأكاديميين العارفين بسبل التحقيق العلمي الرصين، وذلك ضمن مشروع ثقافي تشرف عليه الدولة والجامعة والمجمع التونسي للآداب.

هنا نسألك: ما هي أهم المراجع التونسية التي تنافس الرموز العربية في المغرب والمشرق؟

في الحقيقة، قد أخالفك — وأخالف العديد من المثقفين — في مسألة “الصراع الثقافي” بين المشرق العربي والمغرب العربي، فأنا أراه تكامُلًا، رغم النزعة الاستعلائية المشرقية التي تردّد صداها منذ قال الصاحب بن عباد:
“هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”، تعليقًا على كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي، حيث خاب أمله لأن الكتاب، رغم أندلسيته، زخر بأخبار وأدبيات المشرق.

ومع ذلك، فمن السهل جدًا إبراز نماذج العبقرية التونسية، قديمًا وحديثًا، والتي حظيت بتقبّل رفيع في المحافل الأدبية والعلمية والدينية في المشرق العربي. فبلادنا، رغم صغر مساحتها، عريقة المحتد، وقد ورثت جينات العبقرية القرطاجية، وتأسس فيها مفهوم الدولة منذ عهد الأغالبة. وقد انصهرت فيها كل العناصر الوافدة، لتنطبع الشخصية التونسية بسمات فريدة، جمعت بين عقلانية التاجر، وكدح الفلاح، وانفتاح البحّار، وحكمة البربر، وحماسة العرب، حتى “صار التونسيون تونسيين”.

من رموزنا الأدبية:

  • ابن رشيق صاحب العمدة

  • حازم القرطاجني

  • ابن هانئ (متنبي الغرب)

  • ابن حمديس

  • تميم بن المعز

  • أبو القاسم الشابي

  • الميداني بن صالح

  • المنصف الوهايبي

  • أحمد فوزي أولاد أحمد

وفي الشعر الشعبي:

  • أحمد البرغوثي

  • أحمد ملاّك

  • بن موسى

  • العربي النجار
    وهؤلاء كُفاةٌ لأضرابهم في المشرق العربي.

وفي الفكر والعلوم:

  • ابن خلدون

  • ابن الجزار

  • ابن منظور (صاحب لسان العرب)

وفي العلوم الدينية:

  • الإمام سحنون (صاحب المدوّنة)

  • الإمام المازري

  • ابن أبي زيد القيرواني

  • ابن عرفة

  • الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (صاحب التحرير والتنوير)

  • الإمام محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر)

  • أحمد بن أبي الضياف

  • حسن حسني عبد الوهاب

وفي القصة والرواية والمسرح:

  • محمود المسعدي

  • علي الدوعاجي

  • البشير خريف

  • شكري المبخوت

  • محمد الباردي

  • عز الدين المدني

وفي النقد واللسانيات:

  • توفيق بكار

  • محمد القاضي

  • حسين الواد

  • مبروك المناعي

  • عبد القادر المهيري

  • عبد السلام المسدي

  • صالح القرمادي

  • محمد الشاوش

كباحث تجولتَ في أغلب مناطق الجمهورية التونسية، هل هناك خصوصيات وعناصر مشتركة بين الشعراء الشعبيين التونسيين في الجغرافيا؟

الشعر الشعبي التونسي يمتلك خصوصية محلية، مثلما يتقاطع مع بعض فنون القول العامي في البلدان المغاربية والعربية. وله جذور عميقة تمتد إلى الشعر العربي القديم، وقد ساير تطوّر الأزجال العربية وفنون التوشيح، مثلما استقى روافده من الشعر الهلالي انطلاقًا من القرن الخامس للهجرة.

وقد استقرّ على أشكاله البنيوية الإيقاعية الخمسة، وهي:
القسيم، الملزومة، الموقف، المسدّس، المحجوز، وهي أشكال تتفرّع إلى نحو ستة وعشرين وزنًا، حضرت في الأغراض الكبرى القديمة للشعر الشعبي التونسي، مثل:

  • الأخضر  – العكس – النجع – العرس – الضحضاح – الشني – الثوامر – الكوت
    ومعانيها الفرعية الكثيرة جدًا.

هذه الخصوصيات وسمت الشعر الشعبي التونسي عبر أجيال، منذ أقدم النصوص التي وصلتنا في العهد الحفصي، إلى يومنا هذا. فما يزال بعض الشعراء يتبعون هذه الأغراض تقليدًا، رغم تغيّر الحياة.

وهذه الخصوصيات مشاعة بين البدو والحضر. فلك أن تجد شاعرًا أندلسي الجذور من مدينة بحرية كبنزرت، هو العربي النجار، يكتب في أغراض البرق، الكوت، الضحضاح، فلا تجد فرقًا بينه وبين شاعر بدوي مثل محمد انبيخة، إلا في بعض الألفاظ.

أما غرض الأخضر، فقد سار فيه أغلب الشعراء على نفس نسق الوصف الجسدي والعاطفي. ومن الطريف أن شاعرًا مالطيًا “تتونس”، هو تونين المالطي البرجي، نبغ في شعرنا الشعبي، حتى أصبح فيه عرفًا وناقدًا وشاعرًا مجيدًا، يخشاه الأعراف والشيوخ.

ساهمتَ طيلة مسيرتك البحثية والإبداعية المؤثرة، بمساهمة قيّمة في تفكيك عديد المفاهيم المتصلة بعلاقة اللغة بالشعر الشعبي التونسي، وبمسألة هيمنة اللغة الفصحى على الشعر الشعبي. لو نسألك: ما هي العراقيل التي تعيق البحث الأكاديمي في الجامعة التونسية؟

سؤال وجيه ومهم جدًّا.

أهم ما يعيق البحث الأكاديمي في الجامعة التونسية هو العائق اللغوي. فإلى حدّ اليوم، لا يوجد لدينا معجم لساني للهجات التونسية، رغم المحاولات التي جرت في عهد الاستعمار الفرنسي من قبل الإثنولوجيين واللسانيين، وأهمهم:

  • جورج مارسي، الذي جمع في تسعة مجلدات لهجة محلية ساحلية في منطقة تكرونة التونسية.

  • جيلبار بوريس، الذي جمع نحو خمسة آلاف كلمة من لهجة مرازيق نفزاوة.

ولا ننسى العمل المضني للباحثين الأكاديميين التونسيين، مثل الطاهر الخميري وإبراهيم بن مراد.

ولا سبيل إلى إنجاز هذا المعجم إلا بعد إتمام التدوين الحاسوبي للشعر الشعبي التونسي، باعتباره الوعاء اللغوي المحفوظ للهجات التونسية منذ خمسة قرون تقريبًا. ويجب أن يسبقه التحقيق العلمي وضبط المفردات وتتبع التطور التاريخي للغة. وهذا مشروع وطني طويل المدى، جماعي الطابع، منفصل من حيث التقنيات عن الدراسة الأدبية للشعر الشعبي، لكنه متصل بها أشدّ الاتصال من حيث المضمون.

أما العائق الثاني، فهو عائق إبستيمولوجي معرفي، يتمثل في الصراع القائم بين “الثقافة العالِمة المتعالية” و”الثقافة العامية الشعبية”. الجامعة التونسية كرّست هذه القطيعة، وهو أمر يتناقض تمامًا مع طبيعة البحث الأكاديمي، الذي يجب أن يعتبر أن كل الظواهر الثقافية والإنسانية قابلة للدراسة وفق المناهج العلمية الوضعية. وإلا، فلم يعد للدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية والتاريخية معنى وفق هذا المنظور القاصر.

أما العائق الثالث، فهو عقدة التأسيس. الجامعات العربية في مصر والعراق ولبنان سبقتنا منذ عقود في هذا المجال، وأرست تقاليد أكاديمية لدراسة المأثورات الشعبية. إذ نُوقشت أول أطروحة دكتوراه في الأدب الشعبي في مصر سنة 1955، أعدّها الباحث عبد الحميد يونس حول السيرة الهلالية بين الأدب والتاريخ، وناقشها العميد طه حسين بنفسه.

ورغم أن بعض المعاهد العليا التونسية سدّت جزئيًا هذه الفجوة (مثل معهد بئر الباي للتنشيط الثقافي، ومعاهد الموسيقى، وبعض أقسام علم الاجتماع)، فإن الأعمال البحثية في الجامعة التونسية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. أبرزها الرسائل الجامعية الثلاث التي نوقشت في كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، وأشرف عليها الدكتور مبروك المناعي:

  • رسالة حول الخيل والكوت، أعدّها عمار الجماعي.

  • رسالة حول المطر في الشعر الشفوي، أعدّها المرحوم الشريف بن محمد.

  • رسالة حول الإبل في الشعر الشفوي، أعدّها الباحث بلقاسم بن جابر.

*يقول الأستاذ عبد السلام المسدي: “وما الثقافة إلا المنهج الذي نتوسل به لتحويل المجاهيل إلى معاليم.”

لو نسألك عن واقع الثقافة والإعلام في تونس؟*

الجميع يتحدث عن أزمة في الثقافة التونسية وتردٍّ في المشهد الإعلامي، وهذا صحيح.
لكننا لا نعثر على تشخيص حقيقي وعميق يمكننا من تجاوز هذا الداء العضال، الذي يهدد المجتمع والذات والدولة والأجيال القادمة.

أغلب المقاربات التشخيصية والعلاجية مجرد مسكّنات وتلفيقات تزيد من استفحال الأزمة. البعض يربطها بالأزمة السياسية، أو بإرث الاستبداد، أو بالفساد الكامن في الإدارة البيروقراطية المشرفة على الثقافة والإعلام. لكنّي أرى أن الأزمة مردّها أولًا وأخيرًا غياب المشروع الثقافي والإعلامي الوطني:
مشروع قائم على تصورات، ومسارات، وأهداف مرحلية وبعيدة المدى، لا تتأثر بالتغيرات السياسية، وتُصاغ في شكل مواثيق وقوانين وعهود، تتحول إلى برامج مستمرة.

ولكي لا نظل أسرى الكلام النظري، أذكر أننا نملك نماذج تاريخية لمشاريع ثقافية ناجحة أسهمت في بناء ثقافة تونسية رائدة، ما تزال تؤتي أُكلها إلى اليوم، مثل مشاريع:

  • محمود المسعدي

  • الشاذلي القليبي

  • البشير بن سلامة

تلك مشاريع ذات أبعاد استراتيجية، ساهم في نجاحها مثقفون أفذاذ آمنوا بها وخدموها بإخلاص.

أما اليوم، فلدينا مؤسسة ثقافية مترهلة، تمثل ميزانيتها 1% فقط من ميزانية الدولة.
وهي مؤسسة توزعها إدارات مركزية تكبّل المثقفين والكتّاب والشعراء بحزمة من القوانين الجامدة، وتعطل حركة الإبداع، وتحوّل الفنان والمبدع إلى شحّاذ يحمل رزمة من الوثائق لنيل منحة مخجلة ومخزية. لذلك، يلجأ الكثير من المبدعين إلى أبواب الخليج العربي بحثًا عن العطاء والمنح والجوائز.

أليس من المخجل أن يموت كثير من كبار مبدعي تونس فقراء، ينهشهم المرض، دون ثمن دواء أو إيجار، في حين لا يحصل الكاتب التونسي إلا على أقل من 30% من ثمن بيع كتابه، بينما تُصرف مئات الملايين على حفلات مطربين تجاريين، وتُخصَّص ميزانية سخية لمهرجانات بائسة لا تقدّم أي إضافة للثقافة التونسية، بل تغرق في العبث والزبونية والفساد المالي والأخلاقي.

أما المشهد الإعلامي، فهو أشدّ سوادًا ووحشة.
حين توهّم التونسيون أنهم تنفّسوا نسمة حرية التعبير، تسللت الرأسمالية الفاسدة المتوحشة، وقدّمت لنا مشهدًا إعلاميًا مدمّرًا غايته التخريب، وخدمة الأجندات الحزبية، وإفساد الذوق العام، وضرب الشخصية التونسية وقيمها وتربيتها، مستغلة هشاشة الأدوات الرقابية وضعف الدولة.

فتحوّلت القنوات الإعلامية الخاصة إلى منصّات تجارية بائسة.
أما الإعلام العمومي، فرغم التمويل والتجهيزات والكوادر، فهو نَمَطيٌّ، يذكّر بإعلام الستينات في عصر السماوات المفتوحة، والثورات الرقمية، والمنافسة الشرسة.

أنت كائن لغوي، وفيّ للتاريخ، متصالح مع عصرك، وتتحرك في تخوم الجغرافيا. لو نسألك عن واقع التعليم: من الابتدائي، مرورًا بالأساسي والثانوي، وصولًا إلى التعليم العالي؟

المدرسة العمومية التونسية في مراحلها الثلاث شهدت انهيارات خطيرة منذ الثمانينات، حين وقع التراجع عن التصورات التي وضعتها النخبة الوطنية في بناء مدرسة تونسية تقوم على:

  • مجانية التعليم

  • تعميمه وتوحيده

  • صنع الكفاءات

  • التصعيد الاجتماعي

  • تعصير التعلمات والمهارات

بسبب التخلي عن الدور الاجتماعي للدولة، والاتجاه نحو الخصخصة والرأسمال، وقع التراجع تدريجيًا عن التعليم العمومي، وفتحت الأبواب للتعليم الخاص. كما أدت الارتباطات بصندوق النقد الدولي إلى التضييق على الانتدابات، وبدأت مشاكل الاكتظاظ، وتدهورت البنية التحتية، وبدأ الهروب الكبير من المدرسة العمومية، كما تُظهر أرقام مفزعة عن:

  • الانقطاع المدرسي

  • العنف المدرسي

  • تدني المستوى التربوي

وقد زادت الأوضاع سوءًا بعد ثورة 2011، خاصة مع تدهور الوضعية المادية للمربين، وتوالي الإضرابات، حتى صارت الدروس الخصوصية قاعدةً لا استثناءً، مما ضرب في الصميم مبدأ تكافؤ الفرص ومجانية التعليم.

رغم محاولات الإصلاح، فإن أغلبها تعسّفية، فوقية، وعبثية، وبعضها كارثيّ أنفقت فيه المليارات على كتب بيضاء وسوداء لم تُطبَّق، رغم الاستعانة بخبراء أجانب، خاصة فرنسيين.

تظلّ وزارتا التربية والتعليم العالي محل تجاذبات سياسية، وهو ما عطل كل مشروع إنقاذي حقيقي. لكن، رغم ذلك، ما تزال الطبقة الوسطى التونسية تثق في المدرسة العمومية، كما يظهر من نسبة التمدرس العالية، حتى في الأرياف، وعدد المتخرجين، والسمعة الطيبة للمدرسين التونسيين في البعثات التعليمية، خاصة في الخليج.

في مسارك البحثي والإبداعي نجد لك العديد من المسرحيات. لماذا لم تُحوّل هذه الأعمال إلى الركح؟

لدي أعمال إبداعية مخطوطة:

  • رواية أكتبها منذ سنوات تستلهم تاريخ قرطاج.

  • رواية أخرى حول مستكشف فرنسي عبر الصحراء التونسية أواخر القرن التاسع عشر.

  • مجموعة قصصية.

  • نصوص تراثية سياسية تستلهم فن المقامة والخبر والتاريخ، بمضامين معاصرة.

  • ديوان شعري بالفصحى والعامية.

  • ومسرحية باللهجة الدارجة البدوية الجنوبية، تستوحي حادثة تاريخية من التاريخ الوسيط، وهي جاهزة تمامًا.

لكنّي أحرص على أن تُعرض بشكل احترافي، وأن أضمن حقوقي الأدبية والمادية، ونحن نسعى حاليًا لأن تكون جاهزة للعرض والتوضيب الدراماتورجي المسرحي قريبًا، إن شاء الله.

كتبت عن صورة الجازية في الشعر الشعبي. لو نسألك عن صورة المرأة التونسية في الشعر الشعبي التونسي؟

الجازية الهلالية – كما ذكرت في كتابي الصادر عن دار خريف للنشر – هي أيقونة النجع الهلالي، صاحبة ثلث المشورة، المرأة الفاتنة الجمال التي تُسمّى نور بارق، والشاعرة الحكيمة، المرشدة، ومسعرة الحروب، والملتحمة مع قبيلتها، العاشقة للحرية والسيادة. لذلك احتفت بها الذاكرة الشعبية، والسير، والأمثال، وكانت رمزًا جماليًا في الشعر الشعبي التونسي، وصورةً للمرأة الكاملة. يقول أحمد ملاك:

يحكوا قبل ع الجازية العصرانة
هي حرة وناسها محارير

والمرأة في الشعر الشعبي التونسي متعددة الصور، مثلما هي في الثقافة الشعبية التي تقوم على مفاهيم الجندر العربي التقليدي، ومعايير الفحولة الذكورية. فهي المعشوقة الفاتنة كاملة الأوصاف التي حرص الشاعر الشعبي على تصوير مواصفات الكمال الجسدي الأنثوي فيها من شعرها إلى “فارة” قدمها. وظهرت في غرض أثير يسمى الأخضر، فيه أكثر من ستين فرعًا (منها الغثيث، والوشام، والطير، والجرح، والخلخال، والمرسول، والسخاب، والطيف، والفراق، وغيرها). وقد استقصيناها في بحث مطول بعنوان: “فروع المعاني الغزلية في غرض الأخضر في الشعر الشعبي التونسي”.

والمرأة أيضًا تحضر بصورة سلبية، تحمل الخيانة والغدر والضعف. حتى إننا نجد هذه الظلال السلبية عند شعراء اعتبروا تقدميين ومناضلين سياسيًا واجتماعيًا، منهم عبد الرحمان الكافي الذي يقول:

النسوة ما فيهمش حنين
لو تبدى عمرها تسعين
النار تشعلها في الحين
وتلزك ع الفعل الشين

وهذه صورة موروثة عن التصور الجندري في الثقافة العربية الإسلامية التي تعلي من قيمة الفحولة الذكورية، وتسم المرأة بكل صور الضعف والخيانة. وهي صورة ستتحول لاحقًا مع الشعراء الشعبيين في الستينات والسبعينات، إذ كان أغلبهم ضمن المنظومة الدعائية البورقيبية التي أعلت من قيمة تحرير المرأة، وتعليمها، وتثقيفها، ومساهمتها في معركة البناء والتشييد. يقول الهاشمي المدني، شاعر العكاظيات الأثير لدى الزعيم بورقيبة:

أنت زينة والزين اسماك
قدك وبهاك
خلي الناس لكل تراك
كنت مهمومة، مغمومة
في وسط الحومة تدرق
كنت مهانة
في الهانة
ماكش شرهانة
يا فلانة
ديما تعبانة
وامك واخواتك هكاك
بورقيبة قرّى وتجرا
وليتِ حرّة، يا درّة
لا عادت ضرة تلفالك

وعلينا ألا نغفل أن المرأة نفسها كانت شاعرة شعبية، ونعثر على أشعار وأهازيج كشفت فيها المرأة عن عواطفها، وحزنها، وصراعها، خاصة في أهازيج الملالية، وأغاني الرحى، والأعراس. وهذا موروث يحتاج بحثًا ودراسة خاصة، وقد تم جمع أهمه عبر أبحاث، من أهمها كتاب “أغاني النساء في بر الهمامة” لنعيمة غانمي.

تتجول في عديد التخوم، ونعلم أنك من أبرز الباحثين في مجال الشعر الشعبي وأغراضه وتقاطعاته. لو نسألك عن أهم الأسماء التي نراهن عليها أمام الأسماء العربية؟

شهد الشعر الشعبي التونسي تحولات مهمة منذ العشرية الأولى من القرن العشرين مع ظهور الصحافة التونسية الهزلية، خاصةً وأنها واكبت الكفاح التحريري والسياسي التونسي، ثم رصدت التحولات المجتمعية الكبرى. ورغم محاولة جعله جهازًا دعائيًا للحزب وزعيمه، فقد تطورت أساليب القول الشعري ومضامينه، إلا أنه ظل منشدا إلى النظام الإيقاعي التقليدي الكلاسيكي، رغم بعض المحاولات التحديثية من بعض شعراء الزجل ذوي التوجه اليساري، خاصة (التيجاني زليلة، وصالح القرمادي، وبلقاسم اليعقوبي، ولزهر الضاوي). وقد سبقهم بيرم التونسي.

وقد أحصيت تقريبًا نحو 400 شاعر لديهم مجموعات شعرية ودواوين مخطوطة ومطبوعة، عدا المقلين والمجاهيل الذين هم أضعاف هذا الرقم. ويمكن أن نرصد خمسة مراحل تاريخية لتطور الشعر الشعبي التونسي:

  1. مرحلة الأشياخ والفحول والأعراف، وتمتد من نهاية القرن الثامن عشر إلى العشرية الأولى من القرن العشرين. ومن أهم أعلامها: علي القصري، وأحمد ملاك، وأحمد بن موسى، والبرغوثي الأب والابن، ومحمد العياري، وبلقاسم الورشفاني، ومنصور العلاقي، والعربي النجار، وبوسيف، والعبروق المكنّى.

  2. المرحلة الثانية، وتمتد من أول القرن العشرين إلى الخمسينات، ونبغ فيها محمد الصغير ساسي، وأحمد الصافي، ومحمد انبيخة، والطويل المرزوقي، وشبيل الجبراني، وعبادة السعيدي، وتونين المالطي، وعبد الرحمان الكافي.

  3. المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاستقلال إلى نهاية السبعينات، وفيها نجد الشاهد الأبيض، والهاشمي المدني، وحسن المحنوش، ومحجوب بن عمران، والحبيب بن عبد اللطيف، وعلي الكيلو، والمولدي العويني.

  4. المرحلة الرابعة، هي مرحلة السبعينات والثمانينات، ونجد من أعلامها: محمد الغزال الكثيري، والبشير بن عبد العظيم، ومحمد الملوح باللطيف، ومحمد المبروك، ومحمد الوحيشي، والمولدي هضب، والطاهر انبيخة.

  5. المرحلة الخامسة، تمثل المرحلة المعاصرة، ومن أهم أعلامها: محمد بوكراع، ولمجد بن منصور، وعلي بالناجي، وأيوب الأسود.

وهناك غير هؤلاء كثيرون، وإنما ذكرنا نماذج للتمثيل لا الحصر.

يقال إن الإبداع مهمة شاقة بمجرد أنها نشاط ذهني متمايز لفئة من الأشخاص. نسألك: ما هي ملامح وحدود ووظيفة الإبداع والمبدع؟

الإبداع هو لحظة ولادة شاقة وعسيرة، شديدة الغموض، عجز العقل الإدراكي عن تحديدها وفهم اشتغالها. فهي لحظة مكاشفة وإطلالة على مدارات الرعب، كما يقول الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي. ولذلك شبهها بلحظة الوحي والنبوة. وغالبًا ما يقفز النقاد على تلك اللحظة الغامضة منشغلين بما نتج عنها. ومن هنا سيأتي السؤال عن حدود الإبداع ووظيفة المبدع.

أعتقد أن المبدع كائن مشتبك دومًا، وإلا فقد دوره، أو كان إبداعه سلطويًا بطريركيًا. وهذا الدور – نعني به الاشتباك – هو الذي خلّد كبار الشعراء والفنانين والكتاب عبر التاريخ، وكانت نهاية أغلبهم مفجعة، أو كانت حياتهم قصيرة استنزفها الوعي والصراع. “ودماء العشاق دومًا مباحة”.

وقد عبّر جورج لوكاتش بجملة واضحة عن وظيفة المبدع، فهو كائن نبيل يواجه مجتمعًا متدهورًا بقيم أصيلة.

الإبداع عمومًا تمرين على النقد: ما هي أهم النصوص التونسية المشعة التي تناولت ومساءلة قضايا الوطن؟

الأدب الحي، النابع من عمق التجربة الإنسانية ومن اقتدار فني وموهبة خلاقة، لا يمكن إلا أن يكون تعبيرًا عن قضايا الإنسان التي هي قضايا الوطن. ونستحضر قول نزار قباني: “عندما أكتب شعراً باسم امرأة، فأنا أكتب لتحرير الوطن”. لكن هناك مبدعون ارتبطوا بقضايا التحرير والحرية والنضال الاجتماعي والسياسي، والحلم بالدولة العادلة، وبعضهم خصّ قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، بقسم وافر من كتابته الإبداعية.

ومن أهم النصوص الشعرية التي انخرطت في قضايا الوطن، نصوص أبي القاسم الشابي ومنور صمادح والمختار اللغماني وأحمد اللغماني والميداني بن صالح وأولاد أحمد وجمال الصليعي.
وفي الإبداع القصصي والمسرحي نجد عز الدين المدني وعبد القادر الحاج نصرو وحسونة المصباحي.
ونعتبر أن تجربة الطليعة الأدبية في الستينات نحتت منحى الالتزام رغم تمردها على القوالب الفنية الكلاسيكية، كما ساهم مبدعون يساريون في ترسيخ الوعي الاجتماعي والنقابي عبر تجاربهم الإبداعية.

يعد مصطلح “الأزمة” الأكثر تداولًا واستخدامًا وانتشارًا في جميع مناحي الحياة. هل طالت الأزمة الفكر والعقل العربي والتونسي خاصة؟

المثقف العربي المعاصر إنسان مأزوم، فهو يعاني في مجتمع متخلف مستبد، ويعيش زمن الهزائم الفكرية والسياسية. ولا ريب أنها أزمة عميقة ولدها فشل تجارب التحديث. فبعد مائة عام من انطلاق العقل العربي نحو ارتياد سبل الحداثة والعقل والتقدم والخروج من دائرة السلفية الفكرية والانتكاس الحضاري، يصطدم المثقفون التنويريون بمجتمعات غارقة في الجهل والتدين الشكلي والوهابية المظلمة.
أليس من العجيب أن نخبتنا التونسية، مثلاً، كانت تناقش قضايا الحرية والتقدم والترقي في صحف الثلاثينات، وأنها نخب دعت باكرًا إلى تحرير المرأة وتعصير التعليم وتثوير العقول وتحريك السواكن، بينما يناقش البعض اليوم مسائل فقهية قررها الكهنوت في العصور القديمة على أنها ثوابت ومعلوم من الدين بالضرورة؟
أعتقد أن أكبر أزمة يعانيها الفكر العربي والتونسي هي أزمة التخلص من الأوهام التي زرعها الإسلام السياسي في الفكر والسياسة والمجتمع والثقافة والدين، وإلا ستعاني مجتمعاتنا من تصور مشوّه للديمقراطية والحقوق والتنمية، وستنتكس المكاسب الحداثية القليلة التي صارع من أجل تحقيقها جيل متنور مثقف.

يقال إن المثقف الذي لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف. هل أنت غرامشي في الإبداع وفي النقد وفي الحياة؟

تقسيم غرامشي للمثقفين إلى نوعين: مثقف عضوي فاعل ومشتبك مع السلطة، ومثقف كلب حراسة، تقسيم واضح جدًا. غير أن ثمة صنفًا ثالثًا من المثقفين هم أخطر الأنواع، فهم بارعون في التخفي والازدواجية والفصام الثقافي، ينحتون شخصية نمطية غامضة تقدس الذات وتعتبرها مصدر المعرفة واليقين. هذا صنف عصي على التصنيف، ولكنه يحسن جيدًا التموقع وصنع الرأي العام، خاصة في ظل السلطة الثقافية الرقمية الواسعة.
والمثقف الحقيقي هو إنسان ذو مهمة رسولية تبشيرية مقاومة للرداءة والوهن، مستقل عن مراكز النفوذ المالي والأكاديمي والسياسي، ذو عمق إيديولوجي لا يكبل عقله الحر النقدي ولا يركن إلى المسلمات، ويمتلك الشجاعة العقلية ليواجه العقلية التحشيدية والشعبوية، ولا يخشى المواجهة أو الخسارة، ولا يسعى إلى الوجاهة الاجتماعية والشهرة والمكانة، وهو متعفف عصي على التدجين، لا يؤمن بأنصاف الحلول. ولذلك فهو كائن مشكلي متفرد.
ولا يمكن أن يكون المبدع الحر إلا غرامشيًا، وإلا كانت كتاباته زخرفة نوستالجية مهادنة وبائسة لا تحظى بالخلود والرفعة. فما أكثر المبدعين الروس، ولكن التاريخ لم يخلد إلا تولستوي وغوركي وديستوفسكي ورحمانوف.

كجامعي ومبدع مسيس، نسألك: أي مستقبل لتونس في سياق الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية التي تمر بها؟

تونس من البلدان العربية القليلة التي انخرطت في السؤال التحديثي منذ منتصف القرن التاسع عشر، فبحثت عن أقوم المسالك بعيدًا عن المغامرات والانقلابات والمحاور، وكان السبيل الأقوم هو التعليم والمعارف. ولذلك كانت بلادنا سباقة في مجالات لم يعرفها العرب إلا بعد عقود طويلة من الصراع العقيم مع حركة الحياة والحداثة. فحررت العبيد، وكتبت الدستور، وأنشأت الصحف والجمعيات، واندفعت نخبها في حركة نشيطة كسرت الجمود، وكانت حركتها الوطنية بأيدي نخب جمعت التكوين الغربي والعربي الإسلامي.
لذلك لم يجد المشروع البورقيبي أرضًا قفرًا ونجح إلى حد كبير في تحرير المرأة، وتعميم التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، وتحديد النسل، وتكوين الإطارات الوطنية ذات الكفاءة العالية التي كونت جهازًا إداريًا عتيدًا حمى البلاد من هزات كبرى.
ولم تكن النخب اليسارية التي تصادمت مع النظام مختلفة معه حول مسارات التحديث، بل كان صراعها من أجل العدالة الاجتماعية والحقوق والقضايا العربية، ولذا لم يكن الصدام عنيفًا مهددًا للاستقرار السياسي والاجتماعي.
ولكن ظهور الإسلام السياسي لاحقًا وسعيه إلى اختراق الدولة والمؤسسات والجمعيات كان تحت مشروع رجعي ظلامي لا غاية له إلا الاستيلاء على السلطة، وهو ما جرى بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي الذي دشنته بلادنا، ولم تكن ثمة طليعة ثورية ولا قيادة تنويرية تقوده، مما جعله فاتحة للمشروع الإمبريالي الذي يريد تخليق الفوضى والتمكين لما سماه الإسلام المعتدل الذي خرج منه الإسلام الداعشي “الغاضب” المتوحش.
فكانت عشرية اصطلح على تسميتها بعشرية الخراب، وأخطر ما قام به الإسلام الإخواني هو ضرب القوى التقدمية والنقابات والأحزاب والنخب والمبدعين، وصولًا إلى الجريمة الكبرى باغتيال الرموز السياسية الفاعلة.
إن الأزمة التي ما زلنا نكابدها هي نتيجة حتمية لتلك المرحلة العاصفة التي عشناها، ولذا بحثت النخب ومعها القطاع الأعظم من الشعب عن الخلاص بأيسر الطرق وأخفها ضررًا، وتحملت تبعاتها.
ودعنا نقول بوضوح إن حدث الخامس والعشرين من يوليو كان مطلب الشعب والنخبة الوطنية الحقيقية قبل أن يكون قرارًا سياسيًا فرديًا، وبهذا نفسر حالة الرضا والسلم الاجتماعي التي عرفتها بلادنا رغم الحالة الاقتصادية والاجتماعية الكارثية، ورغم حصد جائحة كورونا لنحو خمسة وعشرين ألف تونسي وتونسية، ورغم الوضع الإقليمي الملتهب.
ولكن هذا الوضع ليس مؤبدًا، وعلى السلطة أن تغير من طرق تسييرها للدولة وتعاملها مع الملفات المستعجلة، ولن يتأتى ذلك إلا بحوار وطني جاد ورصين، وإعداد ميثاق وطني جديد، وتعديل بعض بنود الدستور والقوانين المجحفة، وتكريس استقلالية القضاء، وتجنب التصادم مع القوى الوطنية والأجسام الوسيطة حفاظًا على السلم الأهلي، وسعيًا إلى تجاوز الأزمات والمحن والمخاطر.

لو نسألك عن المجازر التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني بغزة أمام صمت وخذلان وتواطؤ أغلب القادة العرب ودعم الدول الغربية؟

ما نشاهده من جنون ورعونة وعنجهية صهيونية هو جوهر المشروع النهائي للهيمنة التامة وإعلان ميلاد إسرائيل الكبرى، تلك الخرافة التوراتية التلمودية التي اتخذتها النخبة العلمانية الصهيونية مدخلاً لجمع الشتات العبراني لتحقيق وعد الرب لإبرام، كما في سفر التثنية. وهو مشروع يخدم القوى الإمبريالية للتحكم في منطقة غنية وشاسعة واستراتيجية تعاني من حكم قروسطي واستبدادي يعتمد الحماية الأمريكية.
لقد تعطل هذا المشروع بسبب وجود قوى الممانعة والمقاومة التي صنعت نوعًا من الردع والتوازن الاستراتيجي، ولذا وقع استهداف هذه الدول (أغلبها شاركت في حرب أكتوبر سنة 1973)، وتفكيكها، ووقع حل ثلاثة جيوش هي الجيش العراقي والسوري والليبي، واختراق الوعي العربي وحرفه إلى وهم الربيع والتغيير، وتمكين قوى الردة من الحكم، وزرع الطائفية والفئوية والمليشيات، وانهيار مفهوم الأمن القومي العربي بتدخل دول إقليمية كبرى.
مشهد قاتم وسوداوي وكالح، وحسبك أن تشاهد الجيش الصهيوني يعربد في القنيطرة المحررة ويتدخل لحماية الدروز ويغتال قادة المقاومة عبر الاختراق السيبراني ويتوغل في مناطق حدودية لبنانية كان لا يجرؤ على الاقتراب منها.
وكانت الكارثة العظمى تدمير غزة وقطاعها عبر حرب إبادة تستعمل أقوى الترسانة العسكرية المعدة للحروب الكبرى لقتل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى وتدمير كل حجر قائم بلا رادع ولا وازع، أمام أعين عالم منافق يغمض عينيه عن مشهد وحشي من مشاهد حروب القرون الوسطى، باستثناء احتجاجات شعبية ومواقف من زعماء أحرار من أمريكا اللاتينية، ولا تجرؤ دول التطبيع والمهانة حتى على قطع العلاقات وطرد السفراء الصهاينة.
ورغم كل هذه القتامة، فإن الأمة لم تمت، وحسبك أن تشاهد شعبًا فقيرًا مدمَّرًا هو الشعب اليمني الحر، يبعد آلاف الأميال عن أرض فلسطين، يرعب العدو بصواريخه ومسيراته، ويفرض حصارًا بحريًا على سفنه، ممزقًا عار الخيانة والتطبيع.
إن الصهيونية العالمية تحصد حقد أحرار العالم وشعوبه الذين طالما ضللتهم دعايتها وزيفها، مثلما تخلق جيلًا عربيًا ومسلمًا يمتلك مفاتيح التكنولوجيا التي طالما احتكرتها الإمبريالية وربيبتها، وسيوجهها حتمًا لحرب العدو وتوهين قواه، وهو سيبقى كما قال سيد المقاومة الشهيد “أوهن من بيت العنكبوت”.

لو كانت الحياة كتابًا يعود الإنسان لقراءته متى شاء ليستخلص المستقبل من التاريخ… ما هي أهم مرحلة في كتاب الأستاذ المبدع والباحث بلقاسم بن جابر؟

هو كتاب رجل يعيش الآن أوج الكهولة، وهو منجذذ ومضرّس ومجرب خبر الحياة، حلوها ومرها. خرج يافعًا من بلدة في أقصى جنوب تونس، ليلتمس درب العلم والأدب والثقافة، وينغمس شابًا غضا في أتون السياسة، ثم اختار مهنة تعليم الناشئة الأدب، فكسر حدود البيداغوجيا المقيتة ليصنع عقولا ورجالا ونساء، وليبث فيهم من عزمه وذراع هذا الكهل البلاد طولًا وعرضًا من رأس انجلة إلى برج بورقيبة.
فعرف عروشها وقبائلها وقراها ودواويرها وحواضرها، وشاهد أوابدها السامقة، وسافر برا إلى القاهرة من مدينة المكنين الساحلية في رحلة الثلاثة آلاف كيلومتر، وطاف بالمغرب الأقصى خمس مرات، وعبر إلى شمال المتوسط، وعاج على جبال الألب متخيلاً عبور جدة العظيم حنبعل، ولبس الزّي البدوي في قصر الحمراء بغرناطة، وأنشد قصيدة نزار قباني في قاعة الأسود، ولثم تراب المجد في حارة حريك ببيروت، وتلمس جدران الدم في مخيم صبرا، وغرق في مكاشفاته ومواجده في مساجد إسطنبول وزواياها.
كتاب كهل قرر أن يترك للناس النشب والمال والوجاهة والسلطة، ليكون راهبًا بين دفتي الكتاب، منشغلاً بالعلم والمعارف.
كتاب رجل كان صوت القرآن أول صوت يسمعه، حمل وهو في قماطه إلى أحد أكابر الصالحين من أخوال جدته القادرية ليحنكه، فقال: “هذا مرود ذهب وصاحب قلم”، فكأنما تكلمت الأقدار على لسانه.
كتاب رجل قرر، وقد بلغ أشدّه، أن يكمل مسيرة الرواد الذين انتصروا لأدب الشعب وجمعوه من أفواه العجائز والشيوخ والولدان في أرياف تونس القصية، وأن يخوض معركة الاعتراف بهذا الأدب الشعبي في المحافل والمنابر والجامعات، وأن يدرس جوانبه ويظهر جماليته وعمقه وخطره ودوره.
إن كتاب العمر مازال لم يكتمل مادام الطين ملتصقًا بالروح، كتاب مفعم بالآمال والرغبات والتوق والشوق.

هل هناك كتاب أهملته وأنت تمتلك مكتبة مزدحمة؟

شرعت في تكوين مكتبتي منذ الصبا، وفي مرحلة ما خشيت أن أكون مصابًا بـ”البيبلومانيا”، وهو مرض الهوس بالكتب الذي لا يصنف لحسن الحظ بأنه اضطراب نفسي، ذلك أنني لا أتمالك نفسي أمام الكتب. ولاحقًا، ومنذ العصر الرقمي والكتب الإلكترونية المجانية، اتجهت إلى الكتب النوادر القديمة. وتحتوي مكتبتي اليوم على أكثر من ستة آلاف كتاب، فيها من النوادر والنفائس ما لا يوجد في غيرها من المكتبات العامة والخاصة، ومنها صحف قديمة من القرن التاسع عشر، ونسخة من أول عدد من جريدة “العمل” لسان الحزب الدستوري، ونسخة من الطبعة الأولى من كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، وبعض المخطوطات التي ورثتها عن أهلي وأجدادي، وذخائر جلبتها في رحلاتي العربية من المكتبات العتيقة في القاهرة وبيروت وفاس.
أما معرض الكتاب الدولي فلم أتغيب عنه منذ ثلاثين سنة.
ولي في التعامل مع الكتب طرق متنوعة، فبعض الكتب أعكف عليها حتى أكملها، وبعض الكتب أطلع على فهارسها وأتخير الفصل الذي فيه مقصدي من المعرفة، وبعضها أضعه في موضع خاص لأعود إليه وأسجله في الذاكرة، والبعض الآخر أرتبه في القسم المناسب له. وهذه كتب لا أهملها بل أعود إليها كلما سنحت الفرصة أو طلب مني طالب إفادة.
ولا أخفي ضني بالكتب، فقد علمتني تجارب الإعارة أن القليل جدًا من الكتب التي تُعار تعود إلى صاحبها الأصلي. ولي مع الكتب قصص وطرائف وعجائب لا يتسع المجال لذكرها، منها أنني أعرت في التسعينات كتاب “مع البدو في حلهم وترحالهم” لمحمد المرزوقي إلى أحد زملائي من أساتذة التاريخ، فلما طلبت منه الكتاب ضحك وقال: “وهل تظنني غبيًا لأعيد لك كتابًا نادرًا؟ ومهما أنت تزور المكتبات العتيقة بتونس فلا شك أنك ستعثر على نسخة منه”. وبقيت نحو عشرين عامًا أبحث عن نسخة حتى ظفرت بها منذ نحو خمس سنين في نهج الباشا بتونس.
والكتب التي أنتظر التفرغ والتقاعد لقراءتها كثيرة، أمد الله في أنفاسنا حتى نطلع عليها.

لك حرية اختتام هذا الحوار.

أجدد الشكر لجريدة الشعب الغراء، وللأخ سامي الطاهري، ولكم سي الهادي الوسلاتي، وأقول إن شرف الإنسان المثقف أن يكون متماثلًا مع ذاته أولًا، وبعيد النظر حصيفًا، وأن يحفظ ميثاق العشرة والأخوة، وأن يكون صاحب مروءة ورسالة وهدف. فهذه البلاد حفظت أسماء أعلامها ورجالها الأحرار وخلدتهم، مثلما دونت أسماء الخونة والأوغاد، ليكونوا عبرة وصورة سلبية يجب التطهر منها.
وأختم بقول الشاعر الشعبي التونسي المجيد سي أحمد البرغوثي في حكمته الخالدة:

الأَيَّامْ حَڤّْ خْيَــــــــــــــــــــــــــابُوا *** كْثِرْ عَكِسْهُمْ وِتْبَدّْلُوا وُصْعَـــــابُوا
الأَجْوَادْ صُبْرُوا عَلَى الدّْرَكْ وْطَابُوا *** حَيِّينْ لَمْكِنْتِي حَيَا مَغْبُونَـــــــــــــه
وْالألْيَاشْ زَازُوا طُـــــورْهُمْ وِسْيَابُوا *** خْذَوْا وَجِهْ مَا تِعْرِفِشْ صِيفَةْ لُونَه
خْذَوْا وَجِهْ مَالَهْ صِيـــــــــــفَه *** نْڤَا صُـــــوفْ مِتْخَلِّطْ حَلَالْ وْجِيفَه
غْلِي سُوڤْهُمْ بِالكِذِبْ وِالتِّشْڤِيفَه *** وِالْفَنْدِڤَه وِالزَّنْدِڤَه وِالْخُــــــــــــونَه
وَاهْلِ النّْفُوسْ الزَّاكْيَه وَعْفِيفَـه *** يْطِيڤُوا الدّْرَكْ وْعْرُوضْهُمْ مَصْيُونَه
أَهْلِ النّْفُوسِ الْحُرَّه *** مْسَــــــــــاجِينْ بِينِ المَــالْحَه وِالْمُرّه
نْهَارِ البْلِي يَصْلُوا صْهَايِدْ حَرَّه *** حَيَاةِ اسِمْهُمْ عِنْدِ الثّْنِي مَرْهُــــــــونَه
يْدَارُوا عَلَى كَلْمَـــــةْ ڤْفَا تِتْهَرّى*** تْمِسّْ عَرِضْهُمْ وِالعَرَضْ يَاسِرْ دُونَه.

حاوره أبو جرير

spot_imgspot_img