
الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم
تأتي أطروحة “عزيز كريشان” والمنشورة في كتيب بالفرنسية عن منشورات “كتابات عابرة” وبدعم من جمعية “نشاز “ومؤسسة “روزا لوكسمبورج ” لكي يزيح التراب عن مناظرة قديمة ظن البعض أن الزمن تجاوزها، وهو ما يسميه الماركسيون أطروحات “الخط السياسي” وفى مقدمته تحليل طبيعة السلطة والتحالف الطبقي الحاكم وهي وفق تقاليد المجموعات اليسارية التي تنشأ عادة في ظروف السرية حجر الأساس لبناء منظمة أو تيار يعتبر مرجعيته الماركسية.
“عزيز كريشان” ليس عابر سبيل ولا شخص يدلي برأيه كمتفرج على سيرورة تاريخية يشاهدها من الخارج فهو أحد مؤسسي وقادة “أطروحات”(برسبيكتيف)وقضى سنوات عدة خلف القضبان كضريبة كفاحية و بعد انقضاء حبسه هاجر لكي يصير من أبرز الكُتاب التونسيين المثقفين اليساريين في العديد من المنشورات الفرنسية والتونسية وهو اقتصادي وسوسيولوچى متميز وخلال المرحلة الانتقالية تبوّأ خطة مستشار للرئيس المؤقت “منصف المرزوقي” ومازالت كتاباته يتبادلها العديد من المناصرين سواء من قدامى المجموعة (برسبكتيف ) أو الشّباب الراديكالي الجديد.. بمحبة وتقدير بالغ وهي على الدوام محمّلة بأسئلة مستقبلية.
هو من أرباب القلم الذين يستطيعون بسلالة التعبير عن مواقف وآراء اجتماعية وسياسية عميقة بسهولة ويسر وكتباته في معظمها باللغة الفرنسية الميسرة.
العنوان الفرعي للكتيب الذي صدر في سنة 2021 والذي يستهل به”كريشان” أطروحته هو “فهم الاقتصاد الريعي ” وهو المفهوم الذي ابتدأ استخدامه أكاديميا في أوائل السبعينات بواسطة الاقتصادي الإيراني/الانجليزي “حسين مهداوي” ثم أعطاه تعريفه المحدد كلا من الاقتصاديين المصري “حازم الببلاوي” والإيطالي “جياكومو لوسيانو” وهو ما يتعلق بدول المداخيل البترولية والتي تعتمد عليها الدولة لاقتصادها وتستغني بها عن إنشاء اقتصاد مُنتج سواء زراعي أو صناعي! من قبلهم كان المُفكر “سمير أمين” قد استخدم مفهوم” نمط الإنتاج الخراجي” كأداة لتحليل الانتقال في الشرق “العربي-الإسلامي” للعصر الحديث !لا يرتكز “كريشان “على المفهوم انطلاقا من تحديدات كلّ من “الببلاوي” ولا “أمين” لكن بمناقشة ونقد مفهومين انطلق بهما التياران الرئيسيان في اليسار التونسي المعاصر وهما تيار حزب العمال الشيوعي (البوكت) وتيار الوطنيين الديموقراطيين( الوطد) وهو ما يعتبره “كريشان” الأساس فيما يظنه عجز اليسار التونسي عن تكوين استراتيجية مناسبة وتيار شعبي جماهيري قادر في شروط معينه على الوصول للحكم وذلك بسبب الخطيئتين التحليليتين المؤسستين! ذلك لان الخط الأول اعتبر تونس “رأسمالية تابعة “بينما الخط الثاني افترضها “شبه إقطاعية -شبه مستعمرة”.
-في نقده لخط “رأسمالية تابعة”:يحاجج كريشان بأن الرأسمالية التي نعرفها تاريخيا في الغرب ترتكز على الإنتاج الصناعي وتنشأ تبعا لذلك طبقتان أساسيتان في المجتمع هما البرجوازية والبروليتاريا ووظيفة الدولة هي تمثيل الأولى فهي مجلس إدارة المصالح المشتركة للمستثمرين وتعمل على تطبيق التشريعات التي تضمن وتحافظ على الاستثمار ونموه بينما الوضع التونسي منذ الاستقلال هو أن الدولة تعيق نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر استقطاعات وحواجز إدارية واحتكار عدد صغير من المجموعات الاستثمارية الكبيرة(%0,5) للقروض البنكية المحبوسة عن المشاريع الناشئة (%97) مما يحولها للاقتصاد الموازي أو التوقف عن النشاط، والدولة في هذه الحالة تقوم بتخصيص المنافع بزبونية فهي لا تُمثل المصالح الرأسمالية الكليّة بل هي التي توزّع الثروات على أولئك القريبين منها سياسيا وعائليا (مثال الطرابلسية)، وبطبيعة الحال فإن الاستقطاعات المبالغ فيها على العمل الرسمي(60%) تؤدي إلى التهرّب واللجوء للعمل الأسود بدون حماية اجتماعية وتقلص حجم العمالة القانونية إلي حوالي(%12)وهذا بالطبع لا يمكن توصيفه كرأسمالية كما يعرفها الاقتصاد السياسي ويعزي “كريشان ” هذا التعميم الخاطئ لأعمال نظرية لأكاديميين مهنتهم التنظير و بعيدين عن الممارسة الفعلية للصراع الاجتماعي وصنعوا مخططا جريديا شاملا لعالم رأسمالي بكليته له مركز في الغرب ومحيط تسود فيه رأسمالية فاسدة وغير خلاقة وزبونيه هي الرأسمالية التابعة والتي لا تماثل الرأسمالية المركزية ولكنها أيضا لا تماثل العلاقات الاجتماعية الملموسة ولا تفسر الصراعات الواقعية
-في نقده لخط شبه مستعمر-شبه إقطاعي :يتحفظ الكاتب على الجزء الاول من التوصيف ويفضل تعريفا أكثر علميه وهو (نيو كولونيالية) وبحسبه هذا لا يؤدي لمشكلة تحليلية مهمه بينما الشطر الثاني هو ما يشكل مفارقة كبيرة فالتوصيف المأخوذ من كتابات “ماوتسي تونج” في الثلاثينات والذى يتضمن أربعة عناصر: وجود طبقة من الملاك العقاريين الزراعيين الكبار والذين يسيطرون على الدولة وعبرها على مجمل الجسم الاجتماعي، اقتصاد وطني يتميز بهيمنة كلية للإنتاج الزراعي، سيادة علاقات القنانة وليس العمل المأجور وأخيرا غالبية السكان تتشكل من فلاحين (بلا أرض أو فلاحين فقراء)!
بناءا على هذا التحليل فإن الطبقة العدوة هي كبار المُلاك والفلاحين الفقراء هم بالتالي هم القوة الاجتماعية المحركة للثورة الوطنية الديموقراطية وعلى جيش الفلاحيين أن يحاصر المدن للوصول فيما بعد لسدة الحكم، وهو ما يكون ربما ما حدث في الصّين في الثلاثينات من القرن العشرين ويمكن اعتباره ناجحا على هذا الأساس.
يحاجج الكاتب بأن الأوضاع التونسية في السبعينات (زمن إنتاج التحليل) كانت مخالفة كليآ لذلك، فكبار ملاك الارض لم يكن لهم أيّ نفوذ على الدولة وتوجهاتها السياسية والاقتصادية، هبوط نسبة ألفلاحين بالنسبة إلى قوة العمل النشطة من60% (1956) إلى 30% (1980) حتى 15% الآن، وهبوط مساهمة الإنتاج الزراعي في الاقتصاد الوطني لمعدل لم يحدث من قبل، وأخيرا اختفاء القنانة كليّا من الملكيات الزراعية الكبيرة.
ويعزو المؤلف انتشار هذه الأطروحة للمناخ الفكري بعد الثورة الثقافية في الصين والحركات الطلابية في الغرب وكانت الأطروحات الماوية ذات جاذبية كبيرة لدى المناضلين الطلاب الراديكاليين اللذين ظنوا بما أنها نجحت في الصين فإن نجاحها محتمل في بلاد أخرى على الرغم من التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية مختلفة نوعيّا.
-الاقتراح البديل هو الاقتصاد الريعي (Rentièr) ويقدم الرفيق تعريفا للريع باعتباره دخل متحصل من مصادر نادرة ! بينما الاقتصاد السياسي منذ “آدم سميث” و”ريكاردو” مرورا بماركس حتى” أرجيري إيمانويل” يضع الريع في مكان محدد داخل القيمة المضافة التي تتوزع بين ريع الأرض ثم الأجور ثم الأرباح حيث أن المنشئات الرأسمالية(المصانع) يُفترض أن تكون على أراضي غير مملوكة للمستثمر ذاته!
ويعتبر كريشان أنّ هذا المصدر النادر هو “السلطة السياسية” والدّولة بذاتها التي بنيت وهيكلت المجتمع ليس كممثلة لسيطرة طبقة رأسماليين أو إقطاعيين لكى تصير هي بذاتها المولد لتلك الفئات عبر العلاقات الزبونية المكونة للثروات والفئات الاجتماعية المسيطرة عبر التسويات الزبونية أي صارت ليس تعبيرا عن طبقات، بل خالق لتلك الطبقات الطفيلية !
-دولة الاستبداد الشرقي(نمط الإنتاج الاسيوي) ربما يكون مدخلا مناسبا لهكذا إشكالية وهو بحسب “ماركس” (الأصول) وكذلك” أحمد صادق سعد”(تاريخ مصر الاقتصادي الاجتماعي في ضوء نمط الإنتاج الأسيوي) ويتضمن الشروط الاساسية الآتية والمختلفة عن مُخطط التطور في الغرب (المراحل الخمس بحسب چوزيف ستالين)ويغطي مرحلة طويلة من الانتقال من المجتمع البدائي حتى المجتمع الصناعي: عدم سيادة الملكية الخاصة للأرض، جهاز بيروقراطي كبير لتنظيم عمليات الري، الاستحواذ على التراكم من الريف بما يعيق تُشكل أرستقراطية فلاحية، الركود في تطور القوى المنتجة !ما وصفه مركز يتعلق باقتصاد زراعي بالأساس وكانت نموذجه الممالك الحربية في وسط أسيا (الهند) وكذلك في العديد من البلدان التي لم تتطور فيها قوى الإنتاج الرأسمالية وتتابعت عليها مراحل الركود والإنحلال! لكن يمكن إضافة اقتصاديات مٌصنعة في عصر الإمبريالية لنفس النماذج حيث لم يحدث تطور عضوي لخلق ديناميات حديثة رأسمالية على الرغم من بعض مظاهر التحديث.
أطروحة “عزيز كريشان” خطوة كبيرة للأمام للخروج من الدغمائية التحليلية القديمة والجديدة سواء بسواء، وهى لهذا تستوجب مناقشة جدية من قبل المهتمين بالعمل النظري كدليل للممارسة الفعلية من أجل خروج مجتمعاتنا من أزماتها المتكررة حتى لا يهددها الخروج من التاريخ.
نعود إلى مناقشة البرنامج العاجل الذي يقترحه الكاتب وكذلك المتغيرات الكبيرة في التموقعات والتحالفات الدولية في مناقشة قادمة لإن هناك ما يستوجب الاتفاق والخلاف معه مع الاحتفاظ بكل تقدير واحترام عنوان الكتاب بالفرنسية (La gauche Et son Grand Récit)
(Comprendre l’Economie Rentier)