
الكاتب والشاعر: شاهين السّافي
انطلقت القافلة.
لنا في ذاكرتنا تراث غزير مع القوافل. لنا أغانٍ وأهازيج وحداء للعيس وأشعار وقصص شعبيّة وخرافاتٌ.. كلّها تحكي عن القوافل بكلّ ضروبها وتفاصيلها، وهي تبين مدى التصاقها بوجداننا.
القافلة هي الرحلة والراحلة، وأيا كانت الوجهة أو الغاية، فإنّ قلوبا تخفق لحظة انطلاقها وتظلّ ترفرف حولها طيلة المسيرة، ذهابا وإيابا، في انتظار لحظة العودة. انتظار قد يطول ولكن لا تكفّ القلوب عن الأمل في أن تكون العودة مظفّرة.
انطلقت القافلة، وانطلقت معها قلوب الآلاف أو ربما آلاف آلاف. فالزمن غير الزّمن، والقوافل كانت تمضي بعلم قلّة من الناس، سواءً لأنّ وسائل الاتصال كانت لها محدوديّتها في نقل المعلومة، أو لأنّ أهلها استعانوا على قضاء حوائجهم بالكتمان، وفي ذلك مراوغة للصوص وقطاع الطّرق وشذّاذ الآفاق. ولكنّ القوافل اليوم صارت تمضي على مرأى ومسمع من كلّ العالم، وكلّ إنسان على سطح الأرض -نظريّا على الأقل- بمستطاعه تتبع خطّ سيرها لحظة بلحظة ليس فقط لأنّ وسائل الاتصال الحديث تتيح له ذلك، بل لأنّ أهل القافلة أنفسهم أردوا أن يكون الأمر كذلك، فلا يمكن أن تكتمل صورتها دون ذلك.
*****
انطلقت قافلة الصمود من تونس بعد أن التحق بها جمع من المشاركين من الجزائر. انطلقت من تونس البلد ومن تونس العاصمة تحديدا، ووجهتها رفح. نعم رفح. الرحلة طويلة ولكنّ الراحلة ليست كما في الماضي، فبمستطاعها أن تحقق المبتغى في أيام قليلة.
لنا أجداد كانوا ينطلقون إلى الشرق في رحلات مشابهة -في خطّ سيرها- إمّا للتجارة وإمّا لأداء مناسك الحج أو العمرة، ولنا أجداد قريبون انطلقوا إلى الشرق أيضا للالتحاق بباقي المتطوعين العرب سنة 1948 ذودا عن درّة العروبة فلسطين، وقد وصل البعض منهم إلى جبهات القتال وكانت لهم صولات وجولات، ولنا أيضا من أبناء تونس وقوّاتها المسلحة أبطال انطلقوا أيضا، في رحلة مشابهة، خلال حرب أكتوبر 1973 ليشاركوا في هذه الحرب على الجبهة المصريّة، ورغم شحّ المعطيات حول هذه المشاركة فإنّ ما وصلنا منها يؤكّد أنّ الكتيبة التونسيّة قد أبلت بلاء حسنا في مواجهة العدوّ الصهيوني.
*****
انطلقت القافلة وانطلقت قلوبنا معها في كلّ خطوة تخطوها. جابت القافلة بعض المدن التونسيّة وصولا إلى الحدود الليبيّة. أينما حلّت القافلة استقبلت بالهتاف والغناء والورود والزغاريد. في ليبيا كنّا على علم بتعقيدات الوضع هناك. كنّا نتابع سيرها على التراب اللّيبي من جهة الغرب والفرحة تغمرنا. ما رأيناه وسمعناه عن الحفاوة وكرم الضيافة في مختلف المدن الليبيّة هناك، غربا، كان يشعرنا بالطمأنينة والفخر في ذات الآن. هؤلاء أهلنا وتربطنا بهم روابط ثقافيّة وعلاقات مصاهرة، وهم امتداد لنا ونحن امتداد لهم.
وصلت القافلة إلى بوابة سرت. بوابة كشفت لنا مدى التعقيد الذي يعيشه الواقع الليبي. هي بوابة الشرق، ليس الشرق الليبي فحسب وإنما الشرق بشكل عام. هي بوابة إذا مرّت القافلة منها فالوجهة القادمة مصر بكلّ امتدادها المجالي من السلوم إلى رفح.
صارت الأخبار التي تردنا من تلك البوابة شحيحة. لم تعد وسائل الاتصال الحديثة تعمل بالشكل المعتاد، وأحيانا لا تعمل أصلا، فكأنّنا بالقافلة عادت بالزمن إلى الوراء، إلى زمن الأجداد الذين كلّما انطلقت قوافلهم شحّت أخبارهم أو انقطعت. عشنا أوقاتا عصيبة ولا شكّ عندنا أنّ المشاركين في القافلة قد عاشوا أضعاف أضعاف ما عشناه من قلق، فهم هناك على أرض الميدان يواجهون جانبا من تعقيدات الوضع الليبي ونحن خلف شاشات هواتفنا وحواسيبنا نحاول تبيّن أخبارهم بصعوبة.
*****
عادت القافلة.
قبل ذلك أجمعنا أنّ اتخاذ مثل هذا القرار يعود أوّلا وأخيرا إلى قيادة القافلة. ونزعم أنّهم قد اتخذوا القرار السليم حفاظا على سلامة المشاركين فيها من كلّ الأخطار التي باتت تهدّدهم بجديّة.
لكلّ فعل مقاوم أنصاره، وكذلك خصومه بل وأعداؤه أيضا. لم تكن المصاعب والمتاعب نابعة فقط من التناقض بين الغرب الليبي وشرقه، ففي تونس أيضا لنا غرب وشرق وشمال وجنوب. فمنذ انطلاق القافلة كانت هناك أصوات تجاهر بالعداء لها وتشكّك في نبل غايتها ومقصدها، وكذلك في الجانب المصري كانت هناك أصوات مماثلة ترمي القافلة والمشاركين فيها وقيادتها بأبشع النعوت وتراهم جزءا من مؤامرة دنيئة تستهدف مصر، وتحديدا النظام المصري، وكانت في الأثناء تصلنا أنباء عن ترحيل العديد من المشاركين الذين وصلوا الأرض المصريّة جوّا، كما كانت تصلنا أنباء عن خروج قافلة من الغرب الليبي لنجدة القافلة هناك على بوابة سرت..
عادت القافلة.
لكلّ فعل مقاوم أخطاؤه أيضا، ولا شكّ عندنا أنّ القافلة فكرةً وإنجازا في حاجة إلى تقييم، ولكن، في نفس الوقت، نزعم أنّ من يعجز عن رؤية الجمال، فلا يرى غير القبح، لن يكون قادرا على فهمها وتقييمها، ومن سارع إلى الانخراط في حملات التشويه ونشر المعطيات العارية عن الصحة (بعضهم يقول مثلا إن المناضل اليساري وائل نوار هو عضو في مجلس شورى حركة النهضة) هو لا يملك الأهلية أصلا في الخوض في أمر القافلة وطريقة تنظيمها ومسارها وغاياتها وأهدافها.
*****
عادت القافلة.
قد يرى بعضنا أنّ القافلة قد مضت في طريقها دون تخطيط دقيق وإعداد جيّد واختيار دقيق لتوقيت انطلاقها، وقد يرى بعضنا أنّها إن لم تنطلق في ذلك التوقيت بالذات فإنّها لم تكن لتنطلق أبدا. وقد لا يرى بعضنا في حضور مجموعة دينيّة يهوديّة -وإن كانت معادية تماما للصهيونيّة- خلال فعاليات استقبال القافلة أمرا موفّقا لدواع عديدة، وقد يرى بعضنا العكس تماما لأنّ هذه الحركة (ناطوري كارطا) كانت دائما محل حظوة لدى جانب من جمهور المقاومة، وهي تقيم الدليل على وجود فوارق بين اليهوديّة كدين والصهيونيّة كتوجّه سياسي استعماري يتسربل بغطاء الدين إلخ..
قد يهمس بعضنا -بكل حبّ- في أذن قيادة القافلة ملتمسا منهم الابتعاد عن الجانب الفرجويّ والاستعراضي مبيّنا مزالقه الخطيرة، وقد يردّ البعض على هذا الرأي بالقول إنّ الجماهير العربيّة في حاجة إلى رموز جديدة للمقاومة، وبالتالي لا ضير أن تستحيل عناصر هذه القيادة إلى رموز نقدّمها لجماهيرنا إلخ…
المهم أن يكون الحوار بين أنصار المقاومة وجمهورها الوفيّ حوارا راقيا، يهدف إلى تجذيرها ومزيد الانتصار لها، ويعمل على إبداع سبل جديدة في تحقيق هذه الغاية.
*****
عادت القافلة. كما عادت من قبلها قوافل أخرى مماثلة بعضها مظفّر وبعضها أثقلته الخيبات، وإن كان بلغ الجبهات.
عادت القافلة. ونزعم أنّها من القوافل التي عادت مظفّرة، وإن كانت لم تبلغ وجهتها في المستوى الجغرافي (معبر رفح المصري)، فثمة حالة نضاليّة فريدة خلقتها هذه القافلة، حالة من التعبئة الشعبية حول القضية الفلسطينيّة ونصرتها من خلال الممارسة العملية، لا الاكتفاء بالدعاء والبكائيات والاستسلام لمنطق الهزيمة وما جاورها.
وهذا ليس بالأمر الهين، وهو مرتكزٌ حقيقي يمكن المراكمة عليه مستقبلا.