
بقلم سعدية بنسالم
قد يبدو الربط بعيدا للوهلة الأولى، ولكن، متى تمعّنا في الأمر بدت لنا منطقية العلاقة، فالمشترك المعرفي (الأدبي) يخلق نوعا من الألفة بين حملة المعرفة نفسها، ويحمل نوعا من الحنين إلى فترة الاكتساب وما حفّ بها من أحداث ومواقف ونقاشات.
ولئن كان المشترك المعرفي شاسعا ومتنوّعا فإنّي في هذا الحيّز سأتحدّث عن المشترك الأدبي الذي يكتسب سنوات التمدرس بمختلف مراحلها بناء على ما تشهده المدرسة العمومية في تونس.
أجيال متعاقبة، لم يكن لها، في أغلبها الأعمّ، غير المدرسة العموميّة التي كانت الدولة تسطّر برامج تعليمها وتحرص على تكافؤ الفرص، في البرمجة على الأقل، ونشأت بذلك أجيال تنهل من معين شاسع واحد يتميّز بتنوعه ويحمل على تفهّم الآخر، فالمسالة أبعد من الفهم إلى التفهّم، ومتى أدركنا مرحلة التفهّم وضعنا أقدامنا على سبيل السّلم الاجتماعي.
وسنأخذ مثالا على ما نقول، البرامج الرّسمية للأدب باللغة العربية، وهي برامج تنقسم إلى فرعين كبيرين، المطالعة والتي تنقسم بدورها إلى مطالعة مسيّرة وأخرى حرّة، وبرامج الأدب التي تضمّن في محاور المقرّرة في البرامج الرّسميّة.
بالنسبة إلى المطالعة، كانت المدرسة تحرص منذ المرحلة الابتدائيّة على برمجة مجموعة من النصوص المتناسبة مع الفئة العمرية المستهدفة بالاكتساب ضمن ما يعرف بالترغيب في المطالعة، وتتميز تلك النّصوص عادة بكثافة الوصف، وقصر الجمل السرديّة، ووضوح الشخصيات والعلقات بينها، وسلاسة الأحداث وقلّتها وإبهار الصور المرافقة للنصوص، وهي نصوص عادة ما تكون من التراث العالمي على غرار سندريلاّ وليلى والذّئب والبطّة القبيحة ومجموعة جحا القصصيّة وفلّة والأقزام السبعة وغيرها من النصوص التي يحرص المدرّس أن يبادلها بين تلامذته، فإذا حانت نهاية السنة الدراسية يكون تلاميذ القسم الواحد قد قرؤوا النصوص جميعها وأصبح بينهم مشتركا معرفيّا يمكن أن يشيروا إليه ببعض الكلمات فيفهم الجميع المقصد من القول المشار إليه. فتلك المشاركة، وإن تراءت للوهلة الأولى دون أثر فعليّ في المجموعة، وإن كان الهدف منها تنمية قدرات المتعلّم اللغوية وإكسابه ألفاظا جديدة وتراكيب لم يكن يعرفها وتدريبه على استعمالها في مواضع جديدة وفي مواضيع أخرى، فإنّ لها أثرا أبعد من ذلك بكثير، إنها المعرفة المشتركة الأولى التي ستجعل للذاكرة الجمعيّة أسسا مشتركة تمكنها من فهم العالم الذي تعيشه بناء عليها، وذاك الصراع بين قيم الخير والشرّ والصدق والكذب والجمال والقبح الذي ينتصر فيه الخير والصّدق والجمال ضرورة، هو الذي سيحدّد تصوّرات طفل اليوم وشاب المستقبل لطبيعة المعاملات في العالم الخارجي فيحمل أثر ذلك التعلّم إلى حياته اليوميّة الاجتماعية، مطمئنا في ذلك إلى تلك الثقافة المشتركة التي يحملها من تلقوا المعرفة ذاتها ومن استفادوا من المطالعات عينها.
ثمّ تتوسع المطالعات خارج المدرسة بالنسبة إلى من وقعوا في عشق الكتاب، ويكون الإقبال على نصوص أطول وأكثر تعقيدا وأمتن حبكة، يتبادلها أطفال السنوات النهائية من المرحلة الابتدائية بينهم في تقليد لسلوك رافقهم داخل القسم بصفة رسمية لسنوات حتى أصبح تقليدا، فتتكون بذلك ميولات مشتركة لأنماط من الكتابة دون غيرها.
في المرحلة الإعدادية، تأخذ المطالعة نسقا جديدا وهي تتوزع بين المطالعة المسيّرة، وتتضمن قائمة من الأعمال الأدبيّة التي يدرسها التلاميذ بصفة إجبارية، والمطالعة الحرّة التي تضبط قائمتها ويترك للتلميذ اختيار نصوص منها.
ما يميّز هذه المرحلة هو التنوّع الذي تتضمنه القائمات، فهي تجمع بين الأدب التونسي المحلّي، والادب العربي، والأدب العالمي الذي يكون إعادة كتابة عادة بلغة فهمها من هم في سنّ الإعدادي، ونذكر على سبيل المثال سندباد الفضاء للطيب التريكي، ومن القمر إلى المريخ لأحمد الفاني، ودون كيشوت وتاجر البندقيّة وحيّ بن يقظان في إعادة كتابة لكامل الكيلاني، ورحلة حول العالم في ثمانين يوما لجول فيرن (Jules Verne)، هذا إضافة إلى أعمال لعبد القادر بلحاج نصر (الزيتون لا يموت) وجرجي زيدان (فتاة القيروان، عبد الرحمان الناصر) وجبران خليل جبران (عرائس المروج، الأجنحة المتكسّرة) ومحمود تيمور (دنيا جديدة، وأبو الهول يطير، والشيخ جمعة، والمخبأ 13، شفاه غليظة)، توفيق الحكيم (حمار الحكيم، رحلة إلى الغد)، طه حسين (المعذبون في الأرض، دعاء الكروان) عبد المجيد عطية (المنبتّ) توفيق يوسف عوّاد (قميص الصوف) وغيرهم.
كلّ الذين مروا بالمرحلة الإعدادية في المدرسة التونسية اطلعوا على إبداعات هؤلاء الكتاب ودعموها في نصوص القراءة والتحليل الأدبي بإبداعات أخرى كوّنت بعضا من ذائقتهم الأدبيّة المشتركة، وأطلعتهم على تجارب إنسانيّة لكتّاب عرب وتونسيين وغربيين، وجعلتهم يدركون نسبية الزوايا التي يتناول منها كلّ أديب موضوعه، وجماليّة التنوع التي ستجعله في مرحلة موالية من مسيرته الحياتية لا يأنف من الاختلاف ولا يرفضه.
في المرحلة الثانوية تدخل دراسة الأدب مرحلة جديدة قوامها التمييز بين الأجناس الكتابيّة المختلفة: بين قصّة ورواية ومسرحيّة ونقد أدبي، فلا يكفي أن يكتنه المرء جمال النصوص وإنما لابدّ من تذوّق علميّ لها يعتمد المناهج النقديّة المختلفة، لذلك نجد من النصوص النقدية المبرمجة في الأدب الجاهلي وحديث الأربعاء لطه حسين، والغزل العذري ليوسف اليوسف، وعالم تيمور القصصي لفتحي الأبياريّ، وتتلاءم هذه النصوص النقدية مع محاور الدّرس المتعلقة بالشعر الجاهلي وشعر الغزل في القرن الأول للهجرة وخصائص القصّة القصيرة، ولذلك سنجد حزمة أخرى من كتب المطالعة المعربة أو الأصيلة، مثل ديوان قرط أمي للميداني بن صالح، وديوان العصافير تموت في الجليل لمحمود درويش وديوان محي الدين خريّف الرباعيات، وغيرها من النصوص الشعرية والمسرحية والقصصية والروائية مثل مولاي الحسن الحفصي لعزّ الدين المدني، ويوغرطة لحسن الزمرلي
ونجد في السرد، الزلزال للطاهر وطّار والصمت لنافلة ذهب، والدقلة في عراجينها للبشير خريف وحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي وسأهبك غزالة لمالك حدّاد وغيرها من الأعمال مشرقا ومغربا.
هذا التنوع في التجارب القرائيّة يؤسّس لعقل نقديّ منفتح على تيارات مختلفة ومستعدّ لفهمها ونقدها في الوقت ذاته.
ولعلّ البكالوريا بما تمثّله من قيمة رمزية وعلمية وهي اكتمال تجربة المرحلة الثانوية، ستكون المحكّ الذي يختبر فيه التلميذ قدراته النقدية والفكرية قبل أن يدرك الجامعة، ولذلك كانت الآثار التي يدرسها تلميذ البكالوريا تتّسم بتلك النزعة الفلسفيّة الوجوديّة التأمليّة، وليس ادلّ على ذلك من دراسته لأثري المسعدي الوجوديين: حدّث أبو هريرة قال والسدّ، أو رواية الشحّاذ لنجيب محفوظ، أو مسرحيّة شهرزاد ومسحيّة أهل الكهف لتوفيق الحكيم، ومن يقرأ أهل الكهف لا يمكن ألاّ يدعهما بكتاب الحكيم التعادليّة وإن لم يكن مبرمجا رسميّا، أو رأس المملوك جابر لسعد الله ونوس، دون أن ننسى الأدب القديم وديوان المتنبي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، تحقيق بنت الشاطئ، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي، والحيوان للجاحظ..
أعمال لم تمثّل مجرّد برامج مدرسيّة ينتهي دورها باجتياز الامتحانات، وهي لا تؤسّس لذائقة عامّة عند المنتسبين لشعبة الآداب فقط، وإنما ساهمت في وجود مشترك معرفيّ بين أجيال تعاقبت ومازالت، ببعض التحيينات في الاختيارات القرائية، ما مثّل رصيدا أوّليّا لمقاربة ما يحدث في العالم اليومي، وإرثا معرفيّا يمثّل سلطة ناعمة ترشد العقل الواعي، وغير الواعي في اختياراته الحياتيّة وتفتح أمامه آفاق معرفة ذاته وكوامنها وبالتالي معرفة الآخر، وجدانيّا، وفكريا، ونفسيّا.
إنّ الأدب، بما يمثّله من سلطة ناعمة، يمكن أن يكون أداة فعّالة في خلق سلم فكريّ اجتماعيّ، وليس المقصود بذلك خلق أجيال تفكّر بالطريقة ذاته أو تنتهج نهج القطيع، وإنما المقصود أنّ ذلك التراكم الجمالي والفكري سيكون حصنا امام مظاهر التطرّف والمغالاة والانغلاق، كلّ سيقدح تلك المعرفة المتراكمة، إضاقة إلى معارف أخرى في مجالات أخرى بالضرورة، في ما يعيشه في عالمه الخاصّ والعام، وسيجد سبيله الخاصّة به ولكنها سبيل لا ترفض الآخر المختلف، ولا تقصيه وإنما تجد معه أرضية تفاهم وتفهّم تجعل اختلافهما عامل إثراء وتقدّم لا معول هدم.
إنّ الجمال، جمال الأدب، لا ينتج غير الجمال، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الأدب قد أهدى السينما والتلفزيون أروع ما أنتجا على غرار الكرنك، وبين القصرين، وأفواه وأرانب، ودعاء الكروان، والأيّام.. بل لعلنا نقول أنّه منذ ابتعد كتاب السيناريو عن النصوص الإبداعية تقلّصت القيمة الفنية للأعمال المنجزة وفقدت كثيرا من عمقها الفكري والوجداني.