
ترجمة: الأسعد الواعر
تصدير المقال: “إنّ خطاب السلطة لا يقابله الصمت وإنّما يقابله الكتمان.” (ميشيل فوكو)
***
ظهر مؤخرا عن دار الثقافية للنشر بالمنستير (تونس) كتاب “طريقي إلى اليسار- من معتقل رجيم معتوڨ إلى المؤتمر 18 الخارق للعادة” للمناضل غريبي بن منا الذي باغتنا جميعا ببيوغرافيا سياسية وثقافية تجاوزت شخصه الفردي لتكون بيوغرافيا الوطن بأسره، وثّقت آثارَ سيره من تاريخ 1985 حين تهرّم نهائيا وجهُ تونس البورقيبي ليتهيّأ الزمان لإبراز وجهها النوفمبري، وهو تهيّؤ إن مرّ بسلام للحاكمين الجدد فإنّه قد مرّ بآلام كبرى لمن كانوا سنة 1987 يطالبون ليس بالحكم بل بديمقراطية الحكم.
ولم تكن آلام اليسار التونسي في الزمن النوفمبري جديدة لأنها ابتدأت في أصلها منذ فترة الستينيات، في بداية دولة الاستقلال تحديدا حين كان الضحايا شبابُ حركة برسبكتيف الأسطورية، ثم شباب حركة العامل التونسي المجيدة، ولم تكد تنتهي فترة الستينات حتى أتت النار حتى على شيوخ اليسار التونسي وأعني قامات الحزب الشيوعي التونسي الذي لم يكن أبدا حزبا غريبا عن حركة المقاومة الوطنية المنادية بالاستقلال، بل قل إنّ ذاك الحزب قد كان بمثابة النواة الصلبة لتلك المقاومة غير أنّ دولة الاستقلال كانت التنّين الهوبزي، ذاك الحيوان الخرافي الضخم (من أساطير الأناجيل) الذي يخرج النار من فمه فيحرق ثم يلتهم بلهيبه المسعور كلّ من يعارضه حتّى إن كان معارضا ديمقراطيا ومسالما.
ذكّرنا بعجالة كبرى بتلك المسائل من تاريخ اليسار لنقول إنّ كتاب “طريقي إلى اليسار” لم يولد من عدم سياسي بل إنّه في اعتقادنا حلقة جديدة في سلسة الزمان الثقافي والسياسي في تاريخ الوطن، وهو أيضا كتاب آت من المكان البديع داخل جغرافية نفس ذاك الوطن وأعني قرية تاكلسة بالوطن القبلي الأخّاذ، تلك القرية التي عاشت الظلم والقهر والحرمان. لم يكن لجمال تاكلسة أن لا ينجب يسارا جميلا يكتب الرواية والشعر والمسرح والسيرة الذاتية ويؤرّخ أيضا للوطن العزيز. من تاكلسة بدأ لدى غريبي تكوّن كلّ شيء، وفي مدينة سليمان المجاورة نضج كلّ شيء، وفي كلية الحقوق بسوسة، تحوّل النضج النظري لديه إلى براكسيس عملي ناشط داخل الهياكل النقابية الطلابية المؤقتة. لقد سرّنا فعلا غريبي بن منا بهذه السيرة الذاتية التي تمثل بوّابة كبرى نعبر بها إلى الطريق نحو الحقيقة في سيرة الوطن.
ما زلنا إلى اليوم نأمل في جمع شتات عناصر سيرة تاريخ ذاك الوطن، إذ هي فعلا عناصر ما تزال عندنا مشتّتة ومغيّبة ومهمَلة، لم يعد يهمّنا حقّا معرفة من نسي من؟ ولماذا نساه؟ وكيف تسنّى له نسيانه؟ إذ هي أسئلة قد أصبحت عندنا خرقاء وعقيمة، والحال أنّ الظرف الآني يفرض علينا جميعا ربح الوقت والشروع بعجالة في الكتابة من أجل هدف أوّل هو نسيان النسيان. وجب علينا كتونسيين أن ننسى نسيان الوطن، وأن نكتب من جديد بذاكرة جديدة من أجل رؤية عادلة لذواتنا. النسيان أزلي في الإنسان حسب فرويد، ولذلك عندما يكتب غريبي بن منا عن بداية يساريته في تاكلسة المنسيّة في بداية السبعينيات وعندما يكتب عن اعتقال حريته بمحتشد رجيم معتوڨ الصحراوي، عندما يكتب عن كلّ ذلك فلأنه يقاوم بالكتابة رغبةَ السلطةَ في جعلنا سوائمَ سريعة النسيان، أي كائنات قد رأت كلّ شيء، وسمعت كلّ شيء ولكنها نسيت رغم أنفها كلّ شيء، وأهم ما يجب أن تُنسينا إياه السلطة هو تاريخ اختراقها للقانون ! كانت السلطة في بداية السبعينات متجاوزة للقانون، وكذلك كانت أيضا في الثمانينات والتسعينيات، أي كانت ضاربة عرض الحائط به فوضعت طلبتها ومثقفيها في السجون والمنافي وجلدتهم بالسّياط. تسنّى للسلطة فعل كلّ ذلك دون وجل من القانون. ولكن في المقابل كان للمثقفين التونسيين الدور الهام في ترسيخ الذاكرة، وذكر من فعل وماذا فعل. لقد كان لهم أن يكتبوا ويكتبوا ويزيدون من الكتابة لتثبيت ما فعلت بهم السلطة في تلك الأزمنة وتلك الأمكنة. لقد تواردت في كتاب “طريقي إلى اليسار” ذكرى الشواهد عمّا فعلته السلطة بمن رفض أن يكون صامتا عن الظلم، أومن رفض أن يكون ليّنا وطيّعا وكيّسا لها لقضاء مآربه الوصولية الشتّى، لقد كان ذاك الكتاب شاهدا أيضا على حجم التخريب الذي ألحقته السلطة بالحرية. كان بإمكانها مثلا أن تستفيد من الطاقات الابداعية والقدرات العلمية والسياسية الهائلة التي كان يتمتع بها طلبة الاتحاد العام لطلبة تونس حتى إن خاصموها أو عاركوها. هل نسيت السلطة دور تلك النقابة الشبابية في جامعات باريس حين كانت عضدها الذي لا يفلّ في معركتها من أجل الاستقلال؟ هل نسيت أنهم شباب متعلّم ومستنير قادر على مطاردة ظلمات الأمية والجهل الجاثم بكلكله على تونس في الستينات والسبعينات من القرن الذي مضى؟ ألم يكن من الممكن لها تطويعهم وجرّهم عبر العقل لا عبر السلاسل إلى حب الوطن؟
كيف لنا إذن أن نرتق ثقوب الذاكرة؟ كيف لنا أن لا ننسى أبدا وأن نتذكّر دائما أنّ الحرية هي الأصل في الإنسان؟
لا شكّ أنّ الكتابة والزيادة من الكتابة هما طريق التحرّر، وأولى خطوة في تلك الطريق كان قد قام بها اليسار وليس غيرُه في تونس، لأنّ غيره قد أتى بعده وليس قبله في اقتراح الحلول الاجتماعية والسياسية والتعليمية والثقافية لتونس. لم يكن غريبي بن منا مناضلا يساريا في معهد سليمان ثم في كلية الحقوق بسوسة الاّ لأنه كان يعرف جيّدا أنّ الحرية لا تتناقض مع التنمية الاقتصادية، وأنّ العدالة الاجتماعية هي سبب الزيادة في الإنتاج، وأنّ احترام الدولة للقانون هو مصدر احترام الفرد للدولة إلخ. وإن كان من المرجّح أنّ غريبي بن منا قد عاقبته السلطة لأنه كان يعرف كلّ ذلك، فإنّه من المؤكَّد تماما أنها قد عاقبته لأنّه لم يكن فقط يعرف ما أمكن له معرفته، بل كان يعرف أكثر ممّا يجب معرفته. تقول الأساطير اليونانية الخالدة أنّ “أوديب” قد عاقبته الآلهة بأن فقأ عينيه ليصير أعمى لأنه عرف أكثر ممّا يجب معرفته، أي عرف أكثر ممّا هو مسموح بمعرفته، فأوديب عرف، بعد دخول أثينا ظافرا في الحرب، أنّه تزوّج بأمه واختلى بها. لم تعاقبه السماء لأنه تزوج أمه، بل لأنه عرف أنه تزوج أمه. كم تخشى السلطة العلم والمعرفة ! هي تلك الخشية التي أرادت إخفاءها عنا ففضحها كتاب “طريقي إلى اليسار”، وهي تلك الرهبة من العلماء التي عرّاها المناضل بن منا وكشف عن سوآتها أمام الملأ. نحن نعلم في فلسفة ميشيل فوكو أنّ مهمة المثقف هي فضح خطاب السلطة، ويتسنى له ذلك بإنشاء خطاب مناقض لخطابها، والإصداح به في الأماكن والفضاءات العمومية ليصبح خطابا شرعيا يحدّ من عنف خطابها “القانوني”، أي فضح خطابها لمزيد تزيين تلك الأماكن بحرية المهمَّشين (les marginalisés) ، والزيادة في إنارتها بحقوق المقصيّين (Les exclus) . حدّثنا الكاتب بن منا بسلاسة أسلوبية كبرى عن فقر الآدميين في قريته، وعن غياب الدولة عنهم، وعن إقصائهم بالعنف اللّين، إذ لا عمل لهم، ولا مشفى لهم ولا صيدلية، ولا ماء، ولا كهرباء. قال مثلا: ” بسبب الفقر الذي كانت تعاني منه قريتُنا، لم نكن نعرف ما يسمّى دارا أو منزلا، كلّ ما نعرفه هو الأكواخ والبيوت البدائية وكنا نطلق عليها اسمَ ‘ معمّْرَة ‘. وهي بيوت طينية… لذلك لا غرابة أن تسمع كلّ سكان القرية يقولون ‘بيت’ ولا يقولون دارا أو منزلا. كانت أمي تقول ‘هاني ماشيا لبيت خوي أو ‘بيت أختي’… نشأتُ في منزل يتكوّن من غرفة واحدة وكوخ صغير للطبخ وكوخ أكبر(معمّرة) نضع داخله أكياس القمح والشعير والطماطم والفلفل والبصل… وفي هذا المسكن ذي الغرفة الوحيدة، كنا نعيش وننام جميعا: أبي وأمي وستة أطفال إضافة إلى جدّتي عندما تأتي لزيارتنا أو ابن عمتي… كان بداخل هذا البيت شبه سرير مصنوع من الطوب والحجارة يسمى ‘دكانة’ يستعمله أبي وأمي، أما نحن الأطفال فكنّا نفترش بعض جلود الخرفان، وبعض الأقمشة البالية لننام عليها ونتغطى بالقليل… دخلتُ المدرسة في أوّل يوم وكنت أرتدي ملابس رثة وقديمة لا أعرف من أين اشترتها لي أمي… أما لقدَميّ فقد كنتُ أنتعل حذاء قديما لبسته أختي قبل ثلاث أو أربع سنوات… تعرّفنا على المعلم وكانت هذه أول مرة أرى فيها رجلا أنيقا وليس رثا كرجال قريتنا وقلت لنفسي وقتها ‘أريد أن أكون مثل هذا الرجل عندما أكبر، سألبس مثله وأكون جميلا وأنيقا مثله ولن أكون رثا مثل رجال قريتنا. ” (ص. ص 21- 22)
لقد فضح الكاتب تعميم السلطة للفقر، وكشف بالكتابة رغبته في أن لا ننسى أبدا ما جرى له ولنا داخل الجحيم الاجتماعي، ولقد كان طريق اليسار هو الطريق التي اختاره لنفسه للخروج من ذاك الجحيم. كتب “نيتشه” ما يلي: “لا أحد بإمكانه أن يبنيَ لكَ الجسر الذي ستعبُر منه لتغيّر مجرى حياتك، لا أحد يمكنه ذلك سواك أنت.” لقد بنى غريبي بن منا بنفسه الجسر الذي غيّر به مجرى حياته، وعبر فوقه إلى اليسار الذي اعتبره منذ صغره أنّه الجهة الصحيحة التي ستتختارها بعده الإنسانيةٌ جمعاء.
لكن خوض “الصراع الطبقي” والمغامرة بالحياة داخله ليس كافيا للقضاء على الاستغلال والحيف من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية. كان يجب أن نضيف الحب إلى الحرب والاّ لن تتحقق الثورة البروليتارية أبدا. الحب هو الملَكة الوحيدة في الإنسان التي تعلو فوق “التناقضات الاجتماعية”، وهو “البنية الوسطى” التي تخلق التوازن العجيب بين “البنى الفوقية” و “البنى التحتية للانسان” حين تتصارعان، والحب هو أخيرا المنهج الوحيد المتفوق علميا على المنهج الجدلي في تفسير حقيقة الوجود الإنساني داخل الكون. كانت الطالبة التقدمية “رملة” هي حبيبة “غريبي” البرولتاري. أحبته إلى الدرجة المثلى من العشق، والتي بلغتها حين أخفت عنه أصلها البورجوازي. كان غريبي يحب “رملة”، وكان يجب عليه إذن أن يؤلف داخل نفسيته المراهقة بين هشاشة العاشق وصلابة المناضل، وأن يؤلف أيضا بين ايمانه العلني بحقيقة الثورة البروليتارية واعتقاده الخفيّ بشرعية الثورة الايروسية ! كل المناضلين كانوا هكذا: الصلابة أمام السلطة والأنصار، والهشاشة أمام الحبيبة وأمام الذات، لم يكونوا مجبرين فقط على إيجاد حلّ للتناقضات الاجتماعية، بل أيضا إيجاد حلّ لتناقضاتهم النفسية الذاتية. العاطفة البرولتارية هي دائما عاطفة متوترة، ولأنها متوترة فهي عند اليساريين فائض من الألم، لقد فاض الألم فأعطى الحب، الحب هو فيض الألم، ومن يدري، لعلّ فائض الألم كان سلاحهم اللاّ- مُقال الذي حاربوا به الفائض من القيمة ! يقول المناضل بن منا بأسلوب رائق جدّا: “تواصلت قصتي مع رملة كأبهى ما تكون قصص الحب… كنا لا نفترق الاّ نادرا، كانت دائما إلى جانبي في الاجتماعات النقابية والسياسية والاجتماعية… وكانت تفوقني شجاعة وتقدمية وتجانسا مع أفكارنا الثورية وكنت أعلم أنني مازلت في نقطة ما من عمقي قرويا محافظا، كنت أعتقد منذ تعارفنا الأول أنّ رملة تنتمي إلى الطبقة العمّالية، هكذا قالت لي، أو لعلني ذهبت إلى ذلك تلقائيا دون أن تخبرني هي عنه، لقد كانت دائما حريصة على أن تكون إلى صف الفقراء والمظلومين، كانت شرسة في الدفاع عن العدالة والحرية… ولكنني اكتشفت (عند زيارة منزلهم) أنّ رملة لا تأتي كما اعتقدت سابقا من وسط عمالي بسيط بل إنها تنحدر من أصول اجتماعية بورجوازية راسخة في العلم والثقافة… لا أخفي حالة الارتباك التي انتابتني… وأنا القادم من عمق زراعي شعبي تتضافر فيه مظاهر التفقير مع شظف العيش وغياب المرافق.” (ص. ص. 240- 241).
هكذا تكلم غريبي بن منا في كتابه البديع “طريقي إلى اليسار، من معتقل رجيم معتوڨ إلى المؤتمر 18 الخارق للعادة”، تكلّم بعد أربعين سنة من طرده من الجامعة وسلبه من حقه الطبيعي في التعليم. لم يكن خلال تلك السنين الطويلة خائفا من الكلام، بل كان يكتم ذاك الكلام إلى حين توضّح الطريق أمامه، فباح به أمام العلن في كتاب جاء حقا من أجمل الكتب!
بقيت ملاحظة ينبغي أن أسوقها هنا: عندما أنهيتُ قراءة الكتاب، ازداد وثوقي بقناعتي بأنّ الإحساس بالألم، والوعي بالتناقضات الطبقية، والحاجة إلى العدالة الاجتماعية، والتفكير في الصراع الطبقي، وحسن استعمال المنهج الجدلي في الكتابة والعلم، ووجود الفائض من الحب… هي كلّها طرق تؤدي حتما إلى اليسار!