
بقلم الأستاذة حبيبة عدّاد
التقديم
Le Navire du Délire
مجموعة شعرّية من الحجم المتوسّط تمتدّ نصوصها على اِثنتين وتسعين صفحة يليها فهرس لقصائد يبلغ عددها اثنتين وثلاثين قصيدة باللّسان الفرنسي مترجمة من اللّغة العربيّة، نشرت عن دار أمينة للنّشر والتوزيع في طبعة أنيقة تثير الألوان فيها وصورة الغلاف شهيّة القراءة والتّأويل
أمّا القصائد فتنتمي إلى نمط القصائد النثريّة للشٌاعرة التّونسيّة جودة بلغيث منتقاة من ثلاثة دواوين ،أوّلها ديوان “نافلة الحلم “الصادر سنة ثلاث عشرة وألفين وإليه تنتمي القصائد الأولى من المجموعة ،من قصيدة Eclips إلى القصيدة السابعة عشرMon peigne et le crayon noir ، أمّا الدّيوان الثّاني فعنوانه “حدائق اللّيل …ألوان الفجر ” الصّادر سنة ستّ عشرة وألفين وإليه تنتمي بقيّة القصائد إلى حدود القصيدة الحادية والثّلاثين وعنوانها Entre la nuit et le matin ,أمّا القصيدة الأخيرة وعنوانها Dames des saisons فتنتمي إلى أحدث دواوين الشاعرة الذي صدر مؤخّرا وعنوانه “ثورة الماء وحرير العواصف “.
انتقت المترجمة نجاة البكري هذه الباقة من القصائد وقامت بترجمتها في هذه المجموعة الشعرية المميزة ،وقد سبق أن تعرّفت إلى السيّدة نجاة من خلال روايتها “ولي خطوات في فلسطين “التي حظي منتدى” دروب الإبداع الأدبي “برأس الجبل بشرف تقديمها ،ولئن اِعتبرت إقدامها على زيارة فلسطين والإقامة بها والتأقلم مع طبيعة الواقع الذي فرضه المحتلّ الغاشم على أهلها ،مغامرة تنبئ بشجاعتها وإقدامها فإنّي أعتبر إقدامها على ترجمة هذه المجموعة من القصائد مغامرة لا تقلّ جرأة ولا شجاعة وذلك لعدّة أسباب ،منها ما يتعلّق بتجربة التّرجمة ذاتها وما يحفّ بها من صعوبات، ومنها ما يتعلق بطبيعة النص المنقول وخصوصيته .
فالترجمة عملية تتطلّب شروطا وكفايات وجب على المترجم ان يتملّكها وأهمّها الكفاية اللغوية وضرورة تملّك المترجم للّغتين اللّغة المصدر أو الامّ واللّغة المنقول إليها بل والتعمّق في معرفة كلّ منهما.
وفي هذا السياق، يعدّ هذا الشّرط أيسر الشروط نظرا لإلمام المترجمة باللغتين وتشبّعها بكلتيهما، ولعلّ ذلك من الأسباب التي شجّعتها على خوض هذه المغامرة وساعدتها على إنجاحها.
امّا الصعوبة الكبرى التي جعلت عمليّة التّرجمة في هذا المقام أشبه بمغامرة، في رأيي، فهي طبيعة النّص المنقول.
فالقصائد المترجمة تنتمي إلى نمط شعريّ حديث أسال ولا زال يسيل حبرا غزيرا نظرا لحداثته أوّلا ولخصوصيته ثانيا وهو قصيدة النّثر التي يتهيّب بعض الشّعراء والنقّاد على حدّ سواء الولوج إليها فما بالنا بترجمتها! فقد أجمع الباحثون على أنهّا من أعسر النّصوص وأشقّها على الفهم لغموضها وعمقها وطابعها الرّمزيّ الذي يجعل منها فضاء مفتوحا على تأويلا ت عدة. فهي على حدّ قول أحد النقّاد “قطعة مظغوطة كقطعة بلّور تتراءى فيها مئات من الانعكاسات المختلفة ” وهو ما يجعل من مهمّة ترجمتها مغامرة وتحدّيا كبيرا للمترجم.
في الواقع إنّ ترجمة النصوص الشعرية بشكل خاصّ تضع المترجم أمام تحدّيات كبرى ،نظرا لاختلاف النص الشعري في ترجمته عن النّص النثري، فلغة الشّعر تختلف عن لغة النّثر والمقاصد من ترجمة النّص الشعري تختلف عن مقاصد ترجمة النّص النثريّ وهو ما يجعل المترجم أمام تحدّ هام وهو المحافظة على شعريّة النص وشاعريّته عند نقله من لغة إلى أخرى .فلئن كان التركيز في النصوص النثرية على المتون والمضامين خدمة لغرض الإخبار فإن الخصائص الشكليّة والجماليّة في النصوص الشعرية لا تقلّ أهميّة بل لعلّها الأهمّ لأنّ غاية النصّ الشعريّ تتجاوز الإخبار إلى التّأثير والإبهار، وهذا يتطلب ان يكون المترجم شاعرا أو فيه شاعريّة، وأرى ان هذا الشّرط متوفّر في المترجمة التي تشي ترجمتها للقصائد بشاعريّة لافتة ومؤثرة تبدأ من العناوين لتصل إلى المتون. ولعلّ انتقاء المترجمة لقصائد دون غيرها من دواوين ثلاثة للشاعرة أصدق دليل على يقينها بأهميّة الجانب الشعوري لتحقيق الشاعريّة، فقد اختارت المترجمة ما لامس وجدانها وخاطب روحها من النصوص ودعاها إلى ترجمتها.
فليست الترجمة إذن مجرّد نقل للنص من لغة إلى أخرى بل هي نقل لمشاعر الشّاعر ورؤيته ورسالته التي تحتضنها الاسطر مع المحافظة على عبق الحرف وجماليّة الأسلوب. لذلك ترى المترجمةَ تتصرف في بعض عناوين القصائد معبّرة على رؤيتها الجمالية وتذوّقها لما تترجم، كترجمتها لعنوان “الروح تدخل الغياب في حضورك ” بـ Eclips اي اختزال العنوان الاصلي في صورة كسوف الشمس وما فيها من جمالية ودلالات، أو ترجمتها لعنوان قصيدة “أكتبك تكتبني “ب l’Arôme de l’âme وهو عنوان لا تغيب عنه الشاعريّة.
وإن كانت العناوين بهذا الجمال والتأنّق، فإنّ على القارئ أن يتخيّل جمال المتون وأناقة اللّغة وسحر الخيال في هذه المجموعة.
تقول الشاعرة في قصيدة “معزوفة لقاء “:
الروح غائبة، تركت ظلالها تلامس التيه،
أعبر فيافي الشوق
وأمدية الريح،
لألقاك…
واحة باسقة النخيل،
غابة زيتون نيّرة الحبّ،
بئرا عذبة الماء …
اما المترجمة فتقول في قصيد:
La symphonie des retrouvailles
L’âme est absente,
Elle a permis à ses ombres d’effleurer
l’errance,
Je traverse les pénombres de la passion
Et les rafales du vent,
Pour te retrouver…
Une oasis aux palmier colossaux,
Une forêt d’oliveraies aux fruits lumineux
Un puits d’eau douce .
تعتبر المترجمة السيدة نجاة البُكري الترجمة فنّا له سحره الخاص له فرشاته وألوانه وله فضاؤه السحريّ، وكلّما زادت القيمة الجمالية للنّص الأصلي كلّما تضاعفت مهمّة المترجم ودقّت وتفرّدت، لذلك أعتبر إقدام السيدة نجاة على ترجمة نصوص الشاعرة جودة بلغيث التي تملك من القيمة الادبية والجمالية الشيء الكثير، مغامرة ناجحة تستحق الإشادة والتقدير.
ولئن كان البعض يرى أنّ الشعر يضيع بالترجمة، فإنّي أرى أنّ ترجمة هذه القصائد يفتح لها آفاق الانتشار وتجاوز الحدود المحليّة إلى العالميّة. وإن كانت قصيدة النثر من أصول فرنسيّة، فإنّ ترجمة قصائد الشاعرة جودة بلغيث يعيدها إلى المنبت الأصلي، إلى الجذور ولكن بروح تونسية عربية للشاعرة، ولغة فرنسيّة شاعريّة للمترجمة لتحلّق القصائد بجناحين عربيّ -فرنسيّ وفي عالمين عربيّ وغربيّ، فشكرا للمترجمة السيدة نجاة البكري على هذه المغامرة الشيّقة وعلى ترجمتها القيّمة وأرجو لعملها ان يحظى بعناية المختصين في مجال الترجمة وباهتمامهم وتقديرهم.
2- قراءة في العنوان وصورة الغلاف:
Le Navire du Délire
أو سفينة التيه عنوان للمجموعة الشعريّة المترجمة وهو عنوان لإحدى قصائد المجموعة، ورد مركّبا إضافيّا جامعا بين مفردتين تمثّل كل منهما حقلا دلاليا خصبا قد يمكّننا الغوص فيه من سبر أغوار متون القصائد وفكّ شيفراتها ورفع الحجب عنها. فللسّفينة دلالة السفر والرّحيل وهي في الشعر رمز لصخب الحياة وتوتراتها، أمّا التيه لغة فهو الصّحراء الواسعة المستوية لا علامة فيها يُهتدى بها ويُقال “أرض تيه” اي مُضلّة يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجهة مقصده، ولا تخفى على القارئ المرجعيّة الدينيّة التي يحملها العنوان ،فالسفينة في الشّعر الحديث عادة ما تحيل إلى سفينة نوح في القصص القرآنيّ ،أمّا التّيه، فهو عقاب الله لبني إسرائيل، امّا الجمع بينهما فيخلق توترا دلاليا ،إذ تعتبر السفينة رمزا للإنقاذ في قصة نوح غير أنّها تحيد عن وجهتها ومقصدها في هذا العنوان لتتحوّل إلى سفينة للتيه والضلال. إنّه إذن الحدث ومصيره، الرحلة ووجهتها والسؤال هنا عن بطل الرحلة، أهو الإنسان، الذّات الفرديّة الباحثة عن ذاتها وعن معنى لوجودها، أم هي الأوطان، الذّات الجماعيّة وما تعيشه من توترات وصراعات جعلتها تتوه عن وجهتها وتضلّ عن وجه مقصدها، تبحث لها عن سفينة إنقاذ كسفينة نوح ولكنّها تجد نفسها في أرض للتّيه والضياع والشتات؟
أمّا صورة الغلاف فلا تنأى عمّا أوحى به العنوان من دلالات، فالعنوان تتجاوب أصداؤه في صورة الغلاف والألوان البارزة فيها، فما اللون الرماديّ في الصورة إلّا عنوان ضبابيّة وغموض وانعدام لرؤية واضحة، وما اللّون الأسود فيها سوى رمز للقتامة والحزن السّاكن في الأعماق، وما الأمواج الثائرة سوى دليل اضطراب وتوتر…إنه الواقع بمختلف تجلّياته …
أمّا السفينة فعلى أهميتها في العنوان، إلا أنّها تتخذ من صورة الغلاف حيّزا ضئيلا لا يكاد يكشف عن ملامحها ولا عن وجهتها، لكأنّها سفينة بلا ربّان، بلا بوصلة، بلا مرفإ ولا مرسى، تائهة في عرض البحر لا تدرك لها وجهة …
وعلى عكس السّفينة، تتضخّم صورة المرأة على ظهرها حتّى يكاد حجمها يفوق أو يساوي حجم السفينة، وما تضخّمها إلا دليل تضخّم الذّات وتضخّم معاناتها ومأساتها، تضخّم وحدتها وغربتها، ذات منهكة مرهقة، خائرة قواها، مستسلمة للأقدار، فاقدة للإرادة والقرار …
فالذات إذن محور الاهتمام في هذه الصورة، هي بطل الرّحلة، بطل الحكاية …
تحتل صورة المرأة نصيب الأسد من المشهد واللّافت فيها هو وضع الجسد الذي يتموضع في مكانين، ففي حين يقبع نصفه ساكنا بلا حراك على ظهر السفينة، يتدلّى الرأس واليدين خارجها في اتصال بحركة الموج الثائر. فلعلّها الرّوح الثائرة ترنو إلى الخلاص من وضع الجسد الساكن، لعلّها الرغبة في التحرّر والانعتاق نحو فضاء أرحب، لعلّه الموت الذي تعقبه الحياة الأبديّة …
أما اللّون الأبيض الذي يغطٌي الجسد، يكفّنه، فرمز لأمل منشود تصبو إليه الذّات المنهكة في رحلتها إلى المجهول وبحثها عن الخلاص، عن الحقيقة، عن المعنى …
إنّ الرحلة تبدو وجوديّة تراجيديّة، تواجه فيها الذّات صراعات متعدّدة، والذات جزء من كلّ، فلعلّه صراع الإنسان في هذا الوجود، ولعلّه صراع الأوطان في عالم تتلاطم امواجه، تقوده سفينة تائهة، تخشى طوفانا محتملا.
فما صدى كل ذلك في متون القصائد؟
3_أصداء العنوان وصورة الغلاف في متون القصائد:
فضاءات الرحلة وهاجس التيه في المجموعة:
إنّ معنى السفر او الرّحيل وما يحفّ به من دلالات وأبعاد حاضر بكثافة في قصائد المجموعة، فالقصائد مجتمعة هي عبارة عن رحلة تعيشها الذّات في عوالم مختلفة او لعلّها رحلة لذوات مختلفة …فمعنى الرحيل تتردد اصداؤه في عناوين القصائد كما في متونها، يبدو صريحا في بعض العناوين ك “رحلة” و”سفن التيه” ومضمّنا في أخرى كـ”شرنقة الحياة” و”سحابة “و”زمن الحكاية “، أما في المتون، فيتردّد معجم السّفر فنجد عبارات :(الرحيل، الغياب الرحلة، السفر، المسافة ….)
تنفتح المجموعة بقصيدة عنوانها “الرّوح تدخل الغياب في حضورك ” لتعلن عن أولى الرّحلات في المجموعة، إنّها رحلة الرّوح الباحثة عن الخلاص، رحلة وجودية، روحانية تتحوّل فيها الروح إلى بطلة للحكاية، حكاية السفر والرحيل بطولة تمتدّ على قصائد عدّة، استندت فيها الشاعرة إلى الرّافد الدّيني، فكانت الرحلة أشبه برحلة الإسراء والمعراج عاشت فيها الروح مجموعة من الصراعات والابتلاءات لتعرج إلى عالمها العلوي وتحقّق خلاصها الأبديّ…
تقول الشاعرة جودة بلغيث في اولى قصائدها:”الأشواق تنتحر على حبل الترقّب …الروح تصعد للخلاص المحتمل …”إنّها روح تائهة تعاني الغربة والضياع، تعاني التيه…
فهي “متمردة “في قصيدة “شرنقة الحياة “، غائبة في “معزوفة لقاء “، تلامس ظلالها التيه اما في “الوردة العاشقة ” “فتتهيّأ لرحلة تيه، لرحلة نزف بحجم أسقامها “…
الروح إذن عليلة تائهة باحثة عن معنى لوجودها في واقع التصدعات والتوترات، في واقع الفوضى والعبث، إنه حنين الروح إلى أصلها، إلى عالمها العلوي، في ظل واقع مأزوم قاتم يشهد الموت بكل وجوهه واشكاله، إنها رحلة الروح المثقلة بهمومها واوجاعها تحنّ إلى مشارف الشوق فتراها في قصيدة “سدرة الشوق ” تبحث عن معنى للحياة فتقول “اعتلي سلّم الكلمات. أتخطى الغبار العالق في المسافات، أعرج إلى مشارف الشوق، أمشي تحملني خطواتي الثقيلة إلى المنابع علّها تسقيني الحياة، أموت يا حلمي الأنيق، ربّما أحيا به وفيه ” …
تنشد الروح خلاصها وإن كان ذلك عبر الموت ومن خلاله فالموت في هذه الرحلة يختلف عن الموت الذي عهدنا، إنّه “الموت المشتهى «، بوابة الخلود والنعيم، إنه الموت الذي تنبعث منه الحياة، ولادة جديدة، بداية جديدة، لا حزن فيها لا خوف فيها، لا شرّفيها …تقول الشاعرة في قصيدة “زمن الحكاية “:”بعطر الزيزفون أستحمّ، أتطهّر، لأعبر إلى فردوس الخلود، نسترجع البدء، نعيد الحكاية آدم وحواء وإله الحب نعيد قصة الخلق الأولى وابليس مغلول “.
تحاول الروح الخلاص من عالم المادة ،عالم طيني مشوه لتحلق إلى عالمها العلوي ،عالم الطهر والنقاء ،عالم الحب والصفاء، فما أحوجنا إلى هذا العالم ،عالم يُغلّ فيه الغلّ والحقد ويُفك عقال الحب والسلام ،ما أحوجنا إلى إعادة النظر في معنى الوجود الإنسانيّ ورسالة الإنسان في الكون ،وما أحوج أرواحنا إلى السكينة ،سكينة روح الشاعرة في قصيدة “محراب الصمت ” حين وصلت إلى مرحلة التجلّي الروحي فإذا هي تتعبّد حين يهجع الليل لتصل إلى مرتبة العشق الإلهي العشق الصوفي ، تقول :”أدمنت عشقك سيد الكون ،حبك بمذاق الهيولى، بمذاق النبيذ ،هاجس انت يسكنني بجنون يتخطى العتبة “.إنه الكشف الصوفي إذن ،إنه الرافد الصوفي الذي تنهل منه الشاعرة أفكارا وخيالات ولغة ،ذلك المعين الذي لا ينضب، ذلك النبع الذي سقى قصيدة النّثر بمائه المقدس فأينعت وأثمرت إبداعا متفردا …
استقت منه الشاعرة رؤاها وصورها وشحنت به لغتها لتحلّق بنا في عوالم فنّية سحريّة، عوالم روحانيّة، تحلّق فيها الروح بحثا عن المعنى، عن الحقيقة عن الخلاص …
ويبدو انها ضمنت خلاصها، فنهاية الرحلة لم تكن إلا بداية لحياة جديدة، إنه الانبعاث من جديد، إنه الاحتراق من أجل معانقة النور والنور الذي أضاء درب الشاعرة وروحها كان نور الحرف وضياء القصيدة، إنه درب الشعر وسفينته التي لا تُضل بل تهدي وتنقذ، وهو ما يحيلنا إلى الرحلة الثانية في المجموعة، رحلة الذات الشاعرة، رحلة الحرف في تشكله لتولد القصيدة بعد مخاض عسير سليمة معافاة …
ففي عتمة التيه ودروب الرحيل، يأخذ الحرف بيد الشاعرة بروحها الشاردة، ليرشدها إلى درب الخلاص والانعتاق فكلاهما يعيش رحلة وصراعا وكلاهما يبحث عن المعنى والهوية. يقول الشاعر المغربي عبد الكريم الطبّال: “منذ كتبت القصيدة الأولى، عقدت ميثاقا مع الشعر يشبه ميثاق القيثارة مع النوح او ميثاق الفراشة مع النار إن انجرحت انجرح وإن انتشيت انتشى، فأنايا أناه وسوايا سواه “.
يشرق الحرف إذن في عتمة التيه شمسا تنير درب الشاعرة وبوصلة توجّه سفينتها التائهة، تقول الشاعرة في أولى قصائدها:” الحرف ضياء، عنبر تضوع عطره، يعتقل المعنى إلى حين سراح مرتقب …”
تعيش الشاعرة جودة بلغيث مخاضا قبل ولادة القصيدة وتكابد اوجاعه تجتاحها “لغة طوفانيّة” ثائرة متمرّدة، لغة تتجاوز المعاجم
تحطّم قبرها، تفك قيدها، تتحول إلى بطلة لحكاية جديدة ورحلة جديدة، إنها رحلة انبعاث الذات الشاعرة وولادة قصيدة ليست كالقصائد. فالمعنى معتقل، يأمل في خلاص مرتقب، إنه صراع آخر، صراع تعيشه اللغة من اجل تشكل المعنى، ولما كان المعنى في قصائد النثر زئبقيا، فإنّه يتطلّب حرفا بألوان” قزحية “…حرفا مختلفا لمعنى مختلف …
تتحول اللغة في هذه الرحلة إلى بطل لحكاية جديدة ، فالشاعرة تبحث عن لغة تستوعب رؤاها وخيالاتها وتعبر عن ذاتها ،تحاول ان تخلق لغة داخل اللغة ،ان تفرغ المفردات من شحنتها القديمة لتملأها بمعان جديدة خصبة .إنها لغة الرمز لغة الإشارة ، لغة الانزياح …فالشاعرة انبعثت بعد رحلتها الروحية ،ذاتا جديدة برؤى جديدة لا يمكن ان تعبر عنها إلا لغة جديدة تتفجّر فيها المفردات مثل عين ماء ،”لغة طوفانية” بكلّ ما تحمله التّسمية من معاني الثورة والتجدّد والتّغيير تقول : “اللّغة الطّوفانيّة تجتاحني ،تنتفض الرّوح بين جوانحي تتشهّى المعنى …المعنى يتشكّل ،يذرو غبار السنين ،فتأت البشرى ..”
إنّها رحلة حرف من أجل تشكّل المعنى، حرف ثائر لمعنى أسير، ثمرته قصيدة ب”لغة برّيّة” حروفها ” بألوان قزحيٌة “، تقول الشاعرة: “لغة برّيّة، تهطل عطرا برائحة الفردوس، ينسكب على الروح، يرمّم تشققاتها، الرّوح تبث شوقها حروفا بالوان قزحية “…أمّا القصيدة فتعرّفها الشاعرة تعريفا فريدا إذ تقول “القصيد لهفة، قشعريرة، نبض، شهقات لهواء يختنق عند أفق الصمت المهيب.. «وتقول:”منفتحة هي القصيدة، وجهتها قبلة الحرف وصلاتها شوق للمعنى “اما السّجّادة فمن “ورق”..
الحرف إذن مقدّس تتعبّد الشاعرة في محرابه ف”يلفّها بطيب الجنّة «، هكذا عبرت.
إنّه التّجسيد لمعنى القصيدة الخارجة عن المالوف، النافرة عن النسق، لكأنّ الشاعرة تزرع حروفها في حقول سحرية فتنبت الصور عجيبة ساحرة خلاّبة، إنّه العزوف عن المجترّمن الصور والعروج باللغة إلى عوالم من الإبداع مخالف للسائد.
يقول أنسي الحاج عن قصيدة النثر “إنّ على الشاعر فيها أن يمارس الجنون والتخريب المقدّس ” ولعلّ الغاية هي خلق نموذج شعري حديث قادر على استيعاب واقع مجنون سِمَتُه “التخريب”، ذلك الواقع الذي كان مدار الرحلة الثالثة في المجموعة، رحلة الذات الجماعية او رحلة الوطن …
ففي قصائد المجموعة، يحضر ضمير المتكلّم الجمع ليعلن انصهار الذات في الآخر، في الجماعة تتقاطع آلامها وآمالها مع آلامهم وآمالهم، تشاركهم ليل الوطن الثقيل وغربته القاتمة فتعبر بصوتهم وهي الشاعرة التي تتحمل مسؤولية البوح وتعبر عن ذاتها وعن كل الذوات، لذلك تراها تقول في قصيدة “شرنقة الحياة “: آمالنا تنبعث من غسق سحيق…هل مازال لقصب العمر بريق؟ ثم تقول: “من بعيد أتيت، من صقيع الغربة أتيت، لأكون في بحر دفئكم، زنبقة، سوسنة، نرجسة، وكلّ الأزاهير…”
لكأنّ الشاعرة تسرد جزءا من سيرتها في هذه الأسطر الشعرية، فقد انقطعت عن الكتابة لأكثر من عشرين سنة لتعود إلى رحاب الشعر بعد ثورة الياسمين، مثقلة بهموم الوطن، حزينة لحزنه، تائهة لتيهه، باحثة عن خلاصها وخلاصه …
وما الشّاعر إلا نبي يرى مالا يراه غيره، يستشعر الخطر المحدق بمن حوله فتراه يوعّي ويبشّر وتراه ينذر ويحذّر،
يهدي النّاس إلى الحقيقة ولكنّ أغلبهم كالذّئاب، تقول الشاعرة “تنهش لحم الحقيقة” او” كالغربان يحجبون نور الشمس “.
لقد طال ليل الوطن، وتحلم الشاعرة بانبلاج الفجر بل تصرّ
على نسج خيوطه فتقول في قصيدة “علامة: “يبتلي اللّيل النّهار، يطول بقاؤه في قاعة الانتظار …لأنصار الليل أنسج حكاية الفجر، أحيك قصة شراشف الصباح، أغزل لحن الحياة من ألوان صوتي “…
تحلم الشاعرة بخلاص الوطن ولكنها ترى “الجدران سميكة يتفتت عندها الحلم “فتصرخ وجعا “لك الله يا وطني، لك الله يا وطني …”
إنّ رحلة الوطن هي أقرب الرحلات الثلاث إلى رحلة البطل التراجيدي التي تمثل المأساة نهايتها، فما التيه والضلال إلا تيه الوطن وضلال أبنائه وما السّفينة إلا رمز لثورة حادت عن وجهتها وتحوّلت من سفينة إنقاذ إلى سفينة للتيه …
لقد كانت الثورة أملا في خلاص الوطن من طوفان محتمل ولكنّ “دود المنابر” كما أسمتهم الشاعرة حوّلوا وجهتها إلى أرض للتيه، يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده، عقاب إلهي لأعداء الوطن.
إنّ حلم الثورة والحرّية والكرامة الوطنية تحوّل إلى “سحابة عالقة “كما تقول الشاعرة أو هي “غيمة سفرها كان حلما كاذبا ” والوصف للشاعرة كذلك.
لقد كان حلما كاذبا او هو حمل كاذب عشنا على وقعه لنعي بعد سنوات أن “المرج بعيد والسحابة عالقة “ويظل السؤال عالقا هو الآخر إلى أين المصير؟
إنّ سفينة التيه إذن هي سفينة الوطن التي تاهت عن مسارها عن حلمها، “حلم الصيادين والبنّائين والتجّار والعمّال، حلم التّراب والشّجر والحجر “
إنّ الشاعرة تدرك حجم الحرائق التي تضطرم في جوف الوطن وهي مستعدّة للسير “على الجمر حافية ” (وهذا عنوان إحدى قصائدها) إن كان ذلك سبيلا إلى تطهير الوطن من ادرانه وشفائه من أسقامه بل تودّ لو كانت بوصلة لسفينته التائهة تقيه شرّ الطوفان فتراها ترثي لحاله قائلة: “يداك مغلولتان، تسافر حيث انت والأفق ضيّق ضيّق…”
الوطن إذن هو مرفأ الشاعرة ومرساها تنتهي عنده الرّحلة لتكتبه الشاعرة قصيدة واي قصيدة!
قصيدة تنهل من معين الإبداع ولا ترتوي، تبوح فيها الذات بمكنونات ذاتها وذوات غيرها، تَعُبّ فيها الشاعرة من منابع مختلفة خيال، دين، فلسفة، أسطورة …تتفجّر فيها اللغة طوفانية، فتبرق وترعد وتهطل إبداعا وإيقاعا دون الحاجة إلى بحر ولا وزن ولا قافية …إنّه إيقاع الصورة المبتكرة واللغة المبتكرة والذات الباحثة عن الاختلاف.
إنها قصيدة النثر كما تمثّلتها الشاعرة جودة بلغيث فأبدعت وأمتعت وأقنعت ونسجت لها فيها دربا من حرير.