
إعداد سعدية بنسالم
المقدّمة:
يعرّف عادل الأسطة في كتابه “أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات” أدب المقاومة بأنّه “من الآداب الإنسانية التي تجدها في كلّ أمّة من الأمم نتيجة وقوعها تحت ظلم طويل خانق دفع بمشاعرها وأحاسيسها لرفض هذا الظّلم والتمرّد عليه والانقلاب على مفاهيم الخضوع له والتعامل معه بوصف أمرا واقعا، وبالتالي فإنّ هذا الأدب الإنساني يلتزم عادة بقضايا التحرّر”
ويرى الكاتب إنّ هذا الصنف من الأدب، كتابة المقاومة، تكاد تختزل الأدب الفلسطيني، رغم وجود بعض المواضيع الأخرى المرتبطة بهذا الموضوع، موضوع التحرّر والبطولة والفداء والشهادة والثورة والصلابة، وغيرها من الموضوعات.
نبدأ بهذا التعريف لأنّه أدب المقاومة ترسّخ في الذهن أنّه الأدب الذي يعكس الرّغبة في التحرّر ويصورّ العمليات الفدائّية والصراع ضدّ المستعمر، ويحرّض على الحريّة ويرسمها مغرية. بل إنّ أدب المقاومة أصبح الوجه الآخر للأدب الذي يعنى بالقضيّة الفلسطينيّة، سواء كتبه فلسطينيون أو غيرهم، يكفي أن تحضر فلسطين بثقلها الدلالي ليميل النصّ المنجز إلى أدب المقاومة والتمرّد.
ولكن، نعتقد أنّ أدب المقاومة، ورواية المقاومة، يتضمّن الأدب الذي يشحن منسوب التمرّد على المستعمر، ويجعل قضيّة تحرّر الوطن، مركزيّة في عمله ولكنّه لا يقتصر على ذلك، نعتقد انّ رواية المقاومة هي رواية الهويّة وحفظ الذاكرة، وهي رواية الالتزام بقضايا المجتمع.
- رواية الهوية وحفظ الذاكرة:
ما الرواية؟
هي جنس كتابيّ يستند إلى مراوحة بين الواقع والتخييل في بناء ذاته، فأمّا الواقع فنقصد به ما يوجد في العالم الخارجي من حوادث ووقائع اتفقت في شأنها المجموعة. وهي معاينة ومدركة حسيا وذهنيّا. الواقع هو المرجع “الثابت” وهو مصدر من مصادر المعرفة التي يعيد بها الإنسان تمثل العالم الذي ينتمي إليه وهو واقع متحوّل، والواقع أيضا يمكن أن يكون افتراضيا نصيّا، فلكلّ نصّ واقعه المادّي الذي يمثل مرجعيته الدّاخليّة وهو واقع يرتبط بصلات مع الواقع الإحالي في العالم الخارجي دون أن يتطابق معه.
وأمّا التخييل فهو قدرة ذهنية تحوّل تمثّلات الإنسان وأفكاره إلى إنجاز يستند إلى واقع ما دون أن يكرّره وينشئ عالما جديدا ممكنا له نظامه الخاصّ وعلاقته المنطقية الدّاخلية وإحالاته المحدّدة وغير ذلك، النصيّة وغير النصيّة، أداته في ذلك لغة مخصوصة تعبُر بالواقع إلى مجالات أخرى شعارها الجمال وإن كانت تنقل لنا القبح.
والتخييل لغة، مصدر مشتقّ من خيّل، “خيّلت السّحابة إذا أغامت ولم تمطر”، فإذا أمطرت لم يعد تخييلا، وقد توقفنا عند هذا التعريف المعجمي، لما فيه من إيحاء بالكون، فالتخييل متى انقلب واقعا فقد صفته، إنه حقيقة تهمّ أن تكون وتعد بحياة ممكنة، وهو ما يحيلنا على الأدب باعتباره واقعا ممكنا، أو هو واقع وَهْمٌ ترتبك فيه حواس المتلقّي فيخيّل إليه من سحر القول أنّه واقع وقد جاء في القرآن” يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى”، إنّ التخييل في الرواية فعل قصديّ، يتوسّل إليه المبدع بأدوات فنيّة، وهو قبل ذلك انعكاس لإدراك ما للكون والواقع وإعادة تشكيل لهما ضمن رؤية فكرية وفنية. يقول جيري هوبز: “يمكن نمذجة الخيال باعتباره مجموعة من التعابير المنطقية تشبه إلى حدّ بعيد المعتقدات/ الوقائع ولكن بفوارق ثلاث واضحة، أوّلها لابدّ أن يكون التخييل واعيا (conscious) في حين يمكن للمعتقد أن لا يكون كذلك. ثانيها لا يمكننا تقبّل أن نعبّر، بالطريقة ذاتها، عن القضايا المتخيّلة مثلما نعبّر عن سببية الحكاية في الما-صدق. ويلعب الإدراك الحسي والاستدلال دورا في أصل التخييل، ولكن تلك الروابط الدقيقة المطلوبة التي يحتاجها المعتقد/الواقع لا توجد في المتخيل، وفي الحقيقة فإنها إذا توفرت جاز لنا أن نسم القضية بأنها حقيقيّة وليست متخيلة. ثالثا على المتلقي ألاّ يعتقد في صدقيّة القضايا المتخيّلة.”[1]
يقيم هوبز مسافة بين الأحداث باعتبارها حقيقة تدور في العالم الخارجي والوقائع المتخيّلة ويعتبر أنّ التمييز بين المجالين لابدّ أن يكون واضحا لأنّ لكلّ منهما وظائف يختصّ بها وهو يضع للمتخيّل وظيفتين أساسيتين أولاهما أنّ التخييل يمكن أن يوجد حلولا لمشاكل يعيشها الإنسان في الواقع اليومي وذلك بعقد مقايسات بين الواقع والمتخيل، وثانيهما أنّ التخييل يوفر المتعة للإنسان ويحفز عواطفه خاصّة وأنّ العلوم العرفانية لا تملك معرفة دقيقة بما يتعلق بالعاطفة.[2]
إنّ إدراك الكون، هو إدراك حسيّ يترتّب عليه تصوّر يتحصّن بالذهن في شكل تمثلات، وبهذه التمثّلات يفهم الإنسان ما يحدث في العالم الخارجي ويأخذ مواقف وأحكاما ليست أحكاما عقلانية بحتة وإنما هي محكومة بمدى مصداقية الإدراك الحسي. ولعلّ نسبيّة الإدراك الحسّي هو العامل المحدّد في ثراء التجربة الإنسانية في كليتها، فتنوّع الزّوايا التي يقارب بها الواقع، كلّ باعتبار تصوّره تجعل الواقع أوسع وأثرى. فإذا سحبنا ذلك على الأدب جاز لنا القول إنّ للإدراك الحسّي دورا في تنوع التجارب الأدبية لخصوصية العلاقة بين الإدراك وتمثل الواقع وخلق واقع شبيه يعاد فيه بناء الكون وتحديد المضامين والرسائل التي يريد الأديب تبليغها.
ونعتمد في هذا التصور للأدب، تصورا قريبا للغة، يعتبر أنّ العلاقة بين اللغة والواقع واللغة والذهن علاقة تفاعليّة، فالإنسان في التصور الوضعي للغة، يدرك العالم والكون الخارجي فيمنحه أسماء يتواضع عليها مع المجموعة البشرية التي يشاركها الحياة، ثمّ في مرحلة ثانية يعيد تشكيل تصوراته للكون بناء على اللغة التي تصبح وسيلته للتعرف على الكون من ناحية ولتعريف الكون ومنحه مرجعياته المشتركة مع المجموعة اللغوية التي ينتمي إليها من ناحية اخرى. فالإنسان يدرك الكون حوله فينشئ لغة يكثفها، ويوسع دلالاتها باعتماد المجاز وبتلك اللغة وتلك المجازات يعيد بناء تصوراته، وبتلك التصورات يعبر عن الواقع وعن المواقف من ذلك الواقع، ويقع الأدب في تلك المرحلة الثالثة، إنّه إعادة لتصورات الإنسان للكون وللعلاقات الممكنة داخله، بلغة إحالية في بعضها مجازية في أغلبها.
المقاومة في الرواية:
اختيار المقاومة، موضوعا للتخييل، هو اختيار لإعادة تمثيل فهم للكون ينطلق من هدف ما، قد يكون هذا الهدف، جعل قضيّة ما حاضرة دائما في الذهن مقاومة للنسيان، وكأنّ الأدب هنا يعيد الحياة لتلك القضيّة حتّى لا تدخل ضمن العادي الذي لا يثير الانتباه والذي يتعايش معه الإنسان باعتباره واقعا مفروضا يجري التعاطي معه مثلما هو، الرواية تذكّر دائما أنّ ذلك الواقع غير طبيعيّ وطارئ ولابدّ أن ينتهي يوما ما، ولعلّنا في هذا الإطار نذكر من خارج الأدب الفلسطيني، كتابات حفيظة قارة بيبان، فحفيظة المسكونة بالقضيّة الفلسطينية ما تنفكّ تذكّر بها في كلّ أعمالها ، القصصية منها والروائيّة، وتخصّص لها حيّزا محترما يصل حدّ الاستحواذ التام في شكل من الانصهار والتماثل بين القضيّة الكونيّة وقضيّة الرواية المتخيّلة، ولعلّ من قرأ العراء يدرك ذلك التماثل بين قضيّة الأرض المسلوبة التي زحف عليها سرطان العصر، وجسد البطلة الذي زحف عليه سرطان العلّة. دون أن ننسى دروب الفرار، ونساء هيبو.
تؤثّر الرواية في المتلقي بلغتها وعوالمها ما نقله العروسي المطوي في روايته حليمة عن الحركة الوطنية بقي راسخا في الذاكرة أكثر من مما تناقلته كتب التاريخ، حتى إننا كنا نعتقد صغارا أنّ حليمة شخصية حقيقية لها وجود فعليّ في العالم الخارجي.
في رواية نافذة على الشمس، تعيد بلقيس خليفة، سرد مرحلة من الحركة الطلابيّة، في مقاومة النظام الذي يضيّق على الحريات وينكّل بمعتنقيها، وهي ولئن كانت تمنح أجيالا من الطلبة اعترافا بالجميل لما بذلوه في سبيل حريّة الرّأي وحريّة التنظم السياسي ومقاومة انحرافات السلطة، فإنّها تجعل من حدث التمرّد في ذاته، أيقونة، ورغم المعاناة الجسدية والنفسيّة والأذى الذي يلحق العائلة في إطار العقاب الجماعي فإنّ فعل المقاومة وعدم السكوت عن الحقّ يبقى شرفا وتجربة مغرية بالخوض في نافذة على الشّمس، ويكفي أن ننظر في دلالات العنوان حتّى نتبيّن تلك الرسالة التي تحملها الأحداث.
كثيرة هي الروايات التي تعنى بالمقاومة باعتبارها عملا له أثر ماديّ مباشر في علاقة بالآخر، المستعمر أو السّلطة السياسية القائمة. ولكن، توجد أصناف أخرى للمقاومة، وسنكتفي في هذا الحيّز بالإشارة إلى نمطين منها: (حفظ الهوية/ والانتصار إلى القضايا الاجتماعيّة)
المقاومة: عمل مقاوم للزمن وحفظ للهوية
تقوم الرواية بحفظ هويّة ما من النسيان والتلاشي، أو إعادة الاعتبار إلى ثقافة مشتركة تكاد الحياة المعاصرة تلغيها، أو إعادة صهر التجربة، تجربة مجموعة بشريّة ما، ضمن التجربة الإنسانيّة إجمالا، شكل آخر من كتابات المقاومة، ولعلّ من أنسب الأعمال الروائيّة، والقصصية في الحقيقة، تمثيلا لهذا الصّنف ما المقاومة، مقاومة النسيان، ومقاومة النموذج الواحد، وفتح أبواب أخرى في كيان الإنسانيّة، كتابات إبراهيم الكوني على سبيل المثال الذي يقول في تقديمه لرواية أنوبيس: “وأذكر أنّني عندما نزلنا الواحات وبدأت أكتشف طلاسم كتابة أخرى (هي العربيّة)، غير رموز “تيفيناغ” الأسطوريّة التي تعلّمتها كما يتعلّمها كل أبناء الطوارق (من الأمّ)، تململ في قلبي الحنين للوقوف على حقيقة “أنوبي” فخرجت للبحث عنه عبر صحرائي الكبرى اللانهائيّة كما يخرج المغامرون من طلاّب الكنوز الذين تعجّ بهم الصحراء في ذلك المكان مع فارق صغير أنّ هؤلاء اعتادوا أم يهتدوا إلى مواقع الكنوز بخرائط ممهورة في رقع الجلد، وكنزي وصيّة خفيّة جذرها في قلبي وجذعها في أفواه أقوام يرتحلون في متاهة الصحراء وكان عليّ أن أطاردهم وأجدّ في أثرهم وأترحّل معهم إذا شئت أن أقف علة حقيقة كنزي” (ص6)
نوع من المقاومة ذات الطابع الثقافي، وإن بحثنا في الأدب الروائي، سنجد كثيرا من النصوص التي تكرّس جانبا كبيرا من أعمالها لحفظ “التراث اللامادّي”. (قيم، طقوس، عادات، أهازيج..)
الرواية وقضايا المجتمع: لا نعتقد أن الرواية وثيقة تاريخيّة ولا لائحة اجتماعيّة، وإنما نعتقد أنّ من وظائف الرّواية وضع بعض الظواهر الاجتماعيّة أمام المجهر والانتصار إلى قضايا تنهض بالمجموعة وتحفظ كرامة الفرد، وفي ذلك مقاومة للرّداءة، مقاومة للظواهر التي تخرج عن المبادئ الإنسانيّة، ويمكن أن نذكر ف يهذا الإطار رواية آمنة الرميلي الأخيرة: مدينة الأنصاف السفلى”، في هذه الرواية تضع الرواية المجهر على العنف الموجّه نحو المرأة والذي تفاقم في السنوات الأخيرة، عنف يسلّطه في الغالب الرّجل على المرأة، يظهر في ارتفاع نسبة القتلى من النساء اللاتي قتلن على يد الزوج، ولا شيء يبرّر القتل، وتسلّطه المرأة على المرأة نتيجة لأعراف اجتماعية وتكوين نفسي تراكم عبر السنين، نقرأ في رواية مدينة الأنصاف السفلى: “… يدخل عليّ شقتي، يدفع الباب دفعة واحدة… يطير الطاولة الصّغيرة من أمامي فتختلط الأوراق بالقهوة. تصرخ المرأة التي كانت معي في الشقّة، إحدى بنات الجمعيّة، تصرّ على مؤانستي وحمايتي من اللعين، تسمّيه سالم الكلب كما تسمّي زوجها لمين الكلب، رجلي حين يغضب يكوي جلدي بأيّ شيء مشتعل بين يديه، تقول، سيجارة، جمرة، عود وقيد متوهّج الرّأس.. تضع إصبعها على خدّها المشوّه: شوفي… تصرخ المرأة فيدفعها اللعين خارج الشقّة… ثمّ خبطة على رأسي ينتهي بعد ذلك كلّ شيء…” (ص143).
إنّ استعادة الرواية لظاهرة العنف التي تمثّل خطرا يهدّد سلامة المجتمع والأسرة شكل من أشكال المقاومة، والالتزام بقضايا المجتمع هو الوجه الآخر لأدب المقاومة، غير أننا نؤكّد أنّ الرواية/ والأدب عامة، ليس وثيقة تاريخيّة أو اجتماعيّة، فالأدب إعادة تنظيم لمعارف وتصوّرات مخزّنة في الذهن، أساسها تفاعل المبدع مع العالم الذي يعيش فيه، هو مراوحة بين الواقع المتصوّر والتخييل الذي يعيد صوغ الواقع والوقائع في بناء جماليّ يؤدّي أغراضا جمالية ومضمونيّة عقدها المبدع أهدافا لسرده.
خاتمة: الرواية، فعل مقاومة في كلّ مستوياتها، تقاوم بمعناها الكلاسيكي وتقاوم بمعاني أخرى، والرواية تستبق وتتنبّأ وتؤسّس الحلم الذي يذكي نار المقاومة والحياة دوما. الرواية هي الحياة.
[1] Hobbs, Jerry R, Literature and Cognition, CSLI, Lecture Notes Number 21, 1990, pp34-35
[2] يمكن التوسّع في هذه النقطة بالعودة إلى المصدر السابق، ص35.