
ترجمة: الأسعد الواعر
مقال منشور في “الموسوعة، المعجم العقلاني للعلوم والفنون والحِرف”، المعروفة باسم موسوعة ديدرو الفرنسية (طبعة 1751)
السيادة (تحيل الحكم): يمكننا تحديدها مع “بوفندورف”[1] بأنها ممارسة الحق الذي لا يعلوه حق آخر في قيادة المجتمع المدني، وهو الحق الذي منحه أعضاءُ هذا المجتمع لشخص واحد أو أكثر بغرض الحفاظ على النظام في الداخل والدفاع في الخارج، وبصفة عامة هم منحوه له قبل كل شيء لممارسة مضمونة لحريتهم والحصول على السعادة الفعلية تحت تلك الحماية.
إنّ السيادة هي أولاً الحق في إصدار الأمر النهائي للمجتمع. لتوضيح المسألة، أقول إنّ طبيعة السيادة تتكوّن أساساً من شيئين، الأول حق إصدار الأوامر التي ما بعدها أوامر لأعضاء المجتمع، أي توجيه أفعالهم بالقوة بما هي القدرة على الإكراه. الثاني أنّ هذا الحق يجب أن يكون المطاف الأخير، بحيث يكون جميع الأفراد ملزمين بالخضوع له دون أن يتمكن أحد من الوقوف ضدّه، إذ بغير ذلك، أي إن لم تكن تلك السلطة هي أعلى سلطة، فإنها لن تتمكن من توفير النظام والأمن للمجتمع، وهما الغايتان اللتان أنشئت من أجلهما. أقول بعد ذلك إنّ هذا الحق ممنوح لشخص واحد أو أكثر إذ تتمتع الجمهورية أيضا بالسيادة مثل المَلَكية.
وأضيف أخيرًا أنه من أجل الحصول تحت تلك الحماية على السعادة الحقيقية إلخ، ومن أجل إبراز غاية السيادة التي هي سعادة الشعوب، فإننا نتساءل ما هو المصدر المباشر للسيادة، وما هي خصائصها؟
من المؤكد أنّ السلطة السيادية والعنوان الذي تستند عليه هذه السلطة، وهو التي تصنع الحق، تنجرّ مباشرة من الاتفاقيات التي تشكل المجتمع المدني والتي تفضي إلى ولادة الحكومة. وبما أن السيادة تكمن أصلاً في الشعب وفي كل فرد في علاقته بذاته، فإنّ نقل حقوق كلّ الأفراد وجمعها في شخص صاحب السيادة، هما ما يتكوّن منهما هذا الأخير على ذاك النحو، وهو ما ينشئ السيادة حقاً. لا أحد يستطيع على سبيل المثال أن يشك في أنّ الرومان عندما اختاروا “رومولوس” و”نوما” ملَكَين عليهم، لم يمنحوهما بذلك السيادةَ عليهم التي لم تكن لهما من قبل، والتي لم يكن لهما فيها بالتأكيد أيّ حق آخر غير الحق الذي منحهم إياه تصويت هذا الشعب.
إن الخاصية الأساسية والأولى للسيادة، والتي تُشتق منها كلّ الخصائص الأخرى، هي أنها سلطة سيّدة ومستقلة، أي إنها قوة تحكم كآخِر من يحكم على كل ما هو قابل للتوجيه البشري، والتي تستطيع أن تؤثر على خلاص المجتمع ومصلحته. لكن عندما نقول إنّ السلطة المدنية هي بطبيعتها ذات سيادة ومستقلة، فإننا نعني فقط أنّ هذه القوة تتمتع منذ اللحظة التي تكوّنت فيها بنفوذ على كل ما تنجزه داخل إقليمها، بشكل لا يمكن فيه شرعيا لأيّة سلطة أخرى أن تُربِكها.
وبالفعل، من الضروري جدّا أن توجد مثل هذه القوة العليا داخل كلّ حكم، إذ أنّ طبيعة الشيء تتطلب ذلك، فلا يمكن لهذا الحكم أن يستمر بدونها، وبما أنه لا يمكن مضاعفة القوة إلى ما لا نهاية، فلا بد من التوقف عند درجة معينة من السلطة لا تعلوها أية درجة أخرى، وأيّا كان شكل الحكومة، سواء مَلَكيّة، أو أرستقراطية، أو ديمقراطية أو مختلطة، فلا بد من الخضوع دائما لقرار سيادي، لأنه من التناقض القول بوجود من هو أعلى من الشخص أو من أولئك الذين يشغلون أعلى مرتبة داخل نفس نظام الموجودات.
والسمة الثانية التي هي نتيجة للسمة الأولى فتتمثل في أنّ صاحب السيادة ليس مُطالبا في حد ذاته بالمحاسبة عن سلوكه أمام أيّ شخص هنا على الأرض: وعندما أقول إن الحاكم لا يُحاسَب، فإنني أعني أيضاً أنه فعلا صاحب سيادة حقيقية، لأنّ السيادة لا توجد إلا من أجل الصالح العام، ولا يجوز لصاحبها أن يستخدمها بطريقة تتناقض فيها رأسا مع غايتها، لأنه من الثابت أنّ كلّ صاحب سيادة أو كلّ هيئة سيدة إنما يخضعان لقوانين طبيعية وإلهية.
إنّ تقييد السلطة السيادية لا ينال في شيء من السيادة لأنّه بإمكان الأمير أو مجلس الشيوخ الذي منحناه السيادة ممارسة جميع الأعمال كما هو الحال في السيادة المطلقة: الفرق هنا هو أنّ المَلِك في حال السيادة المطلقة هو الذي يصدر وحده القرارات النهائية وفقًا لرأيه الخاص، بينما يوجد في الملكية المحدودة مجلسُ شيوخ له الأهلية للحكم في بعض الأمور بالاشتراك مع الملك، وتكون موافقته شرطا ضروريا لا يستطيع الملك بدونه أن يقرّر أيّ شيء.
بقي أن نقول كلمة عن أجزاء السيادة أو عن الحقوق الأساسية المختلفة التي تتضمنها. يمكن اعتبار السيادة بمثابة تجميع لمختلف الحقوق والسلطات المتميزة والمتعددة التي وقع تفويضها لبلوغ غاية وحيدة هي خير المجتمع، وهي كلها أجزاء ضرورية لبلوغ الغاية. هي إذن تلك الحقوق وتلك السلطات المختلفة التي نسميها الأجزاء الأساسية للسيادة. لكي تتعرف على تلك الأجزاء، عليك فقط أن تنتبه إلى غايتها.
تهدف السيادة إلى الحفاظ على الدولة، واستقرارها وسعادتها داخلياً وخارجياً. من الضروري إذن أن تضم في داخلها كلّ ما هو ضروري لتحقيق هذه الغاية المزدوجة.
الجزء الأول من السيادة، والذي هو بمثابة الأسّ لكل الأجزاء الأخرى، هو السلطة التشريعية التي يضع بموجبها صاحبُ السيادة في آخر المطاف قواعدَ عامة ودائمة نسميها قوانين، وبذلك يتم تعليم كل شخص ما يجب عليه فعله أو عدم فعله للحفاظ على النظام السليم، وتعليمه ما يحتفظ به من حريته الطبيعية، وكيف يجب استخدام حقوقه حتى لا يزعج الطمأنينة العمومية[2].
أما الجزء الأساسي الثاني للسيادة فهو القدرة على الإكراه، أي الحق في فرض عقوبات على أولئك الذين يقومون بتعكير نظام المجتمع، وكذلك القدرة على فرض هذه العقوبات فعلياً، فبدون ذلك سيكون إنشاء المجتمع المدني والقوانين عديم الفائدة تماما، كما لن يكون بوسعنا العيش في أمان. ولكن لكي يكون للخوف من العقاب ما يكفي من أثر قوي على الأنفس، وجب أن يمتد الحق في تطبيقه إلى درجة القدرة على العقاب بأعظم الشرور الطبيعية، أي بالموت، وإلاّ فإنّ هذا الخوف لن يكون قادرًا دائمًا على ردع قوة الانفعال. باختصار، من الضروري أن نهتم جيدا باحترام القانون أكثر من اهتمامنا بانتهاكه: وهكذا فإنّ حق السيف هو دون شك أعظم سلطة يمكن أن يمارسها إنسان على إنسان آخر.
والجزء الثالث الأساسي من السيادة هو القدرة على الحفاظ على السلام في الدولة، من خلال حلّ النزاعات بين المواطنين، وكذلك العفو عن المذنبين عندما تقتضي ذلك بعض أسباب المنفعة العامة، وهذا ما نسميه بالسلطة القضائية.
أما رابعا فإنّ السيادة تشمل أيضاً كل ما يتعلق بالدين من حيث تأثيره على مصلحة المجتمع وسلامته.
خامساً، إنّ القدرة على تأمين الدولة من الخارج هي جزء أساسي من السيادة، ولهذا الغرض فلها الحق في تسليح الرعايا، وتجنيد القوات، وإبرام الالتزامات العامة، وعقد السلام والمعاهدات والتحالفات مع الدول الأجنبية، وإلزام جميع الرعايا باحترامها.
وأخيرا، يشكل الحق في سكّ النقود جزءا من السيادة وكذلك جمع الضرائب الضرورية في زمن السلم وزمن الحرب لضمان الطمأنينة في الدولة وتوفير الاحتياجات العمومية.
تلك هي الأجزاء الأساسية للسيادة.
أما فيما يتعلق بالطرق المختلفة لاكتساب السيادة، فإنني سأكتفي بالقول إنّ الأساس الشرعي الوحيد لهذا الاكتساب هو موافقة الشعب أو إرادة الشعب، ومع ذلك، يحدث في كثير من الأحيان أن يتم اكتساب السيادة عن طريق العنف، وأن يضطر الشعب بالقوة المسلحة إلى الخضوع لسيطرة المنتصِر. يُطلق على هذا الاستحواذ العنيف على السيادة اسم الغزو والاغتصاب.
وبما أن الحرب أو الغزو وسائل لاكتساب السيادة، فمن الطبيعي أن يكونا وسائل لفقدانها أيضاً.
لوشوفالييه دو جوكور
(موسوعة ديدرو)
ترجمة الأسعد الواعر
[1] صموئيل بوفندورف: (1632- 1694)، فيلسوف وحقوقي ومؤرخ ألماني، هو من أهم منظّري مفهوم “الحق الطبيعي” في شكله العقلاني الحديث. كان من أهم المراجع السياسية التي عاد إليها جان جاك روسّو لبلورة التصوّر الحديث للدولة (المترجم).
لوشوفالييه دوجوكور (1704- 1780Le Chevalier de Jaucourt : )
