حسني عبدالرحيم
مدرسة فرانكفورت للعلوم الإجتماعية شكلت أهم نقد أكاديمي للشمولية سواء الستالينية أو الفاشية بين الحربين العالميتين منها خرج «والتر بنيامين» و»أريك فروم» و»هربرت ماركيوز» و»تيودر ادورنو» و»ماكس هوركهايمر «جميعهم أثرى الدراسات الإجتماعية والفلسفية بإرتباط التحرر السياسي والفردي بألتحرر الإجتماعي ! كان معهد فرانكفورت للعلوم الإجتماعية والذي تأسس فى خلال الثورة الألمانية المجهضة(جمهورية فايمار) يشكل رد على الهمجية الشمولية سواء كانت رأسمالية (فاشية)أوإجتماعية(ستالينية)..لكن بقي على قيد الحياة من رواده «يورغن هابرماس» لكي»يسكت دهرآ و ينطق كفرآ»! كانت المحصلة الأخيرة لرحلة»هبرماس» هو أن الحداثة هي بنت المسيحية وفقط!و هو بمعنى ما أخرج تسعون بألمائة من سكان المعمورة من حديقة الرب! الذي هو أبيض بألطبيعة و بروتستانتي بألمعتقد! حيث ينتهي للآتي «المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى. نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء آخر ثرثرة ما بعد الحداثة»!! «هابرماس» -عصر التحول 2004-.
ومنذ ستينيات القرن العشرين، قام يورغن هابرماس بتوجيه أبحاث النظرية النقدية لمعهد البحث الاجتماعي في مجالات العقلانية التواصلية واللسانيات والذاتية-المشتركة اللغوية والنهج الفلسفي للحداثة.على الرغم من ذلك، قام الباحثان الاجتماعيان ريموند غويس ونيكولاس كومبريديس بمعارضة اقتراحات هابرماس، زاعمين أنه قام بتقويض أهداف التغيير الاجتماعي الأصلية لمشاكل النظرية النقدية مثل: ما تعريف العقلانية؟ وتحليل وتوسعة الظروف الضرورية لتحقيق التحرر الاجتماعي وكذلك الانتقادات الموجهة صوب الرأسمالية المعاصرة.
ليس موقفة الأخير والذي اصدره ببيان نشرته الصحف فى المانيا وخارجها في مسألة هي محل نزاع عسكري وأخلاقي وسياسي مُرعب وصفه الكثيرون من الكتاب والأكاديميين والمثقفين الجديرين بهذه التسميات !بأنها ليست حرب بل عملية «تصفية عرقية» !لا يوجد جيشان متواجهان لكل منهما أسلحته المختلفة المتناسبه وبينهما صراع يحكمه قوانين الحرب !شاهد عليها (التصفية العرقية)مئات الملايين وعشرات المحققين هي ماينطبق عليها التوصيف المعلن في الكتابات القانونية والوثائق الدولية» التى بنيت على أساسها المؤسسات الدولية ..التصفية العرقية» Genocide!جيش إحتلال لدولة تُعلن نفسها ديموقراطية ويهودية يصفي مليونين من السكان المدنيين في ظل تواطؤ كامل من الدول الكبرى المسماة ديموقراطية.
هناك بألطبع شعور خاص بألذنب والعار منطقي لدى الألماني العادي والأكاديمي تجاه المحرقة في الحرب العالمية الثانية وماقبلها والتي لم تكن فعل سلطة نازية فقط بل شاركها فيه غالبية الشعب الألماني الذي حمل الحزب النازي للحكم في إنتخابات عامة وقام بتجميع اليهود في معسكرات الإعتقال جنود ألمان وأعطى أوامر حرقهم چينرالات يحملون نجمة الرايخ ! والأكثر من ذلك أن مفخرة الفلسفة الألمانية الأكاديمية في القرن العشرين «مارتين هايدجر» كان هو ذاته عضو بألحزب النازي وبعض مؤلفاته كانت تمهيد نظري مُحكم لهذه الكارثة ! علم الإبادة Vernichtungwissenshaftهو إختراع شارك فيه كل قطاعات الشعب الألماني الذي إنتخب الحزب الإشتراكي الوطني(النازية) ضد اليهود لأسباب مختلفة من بينها مقاومة البلشفية ! ومهد له تنظيرات مفكرين كبار ك»هبرماس»!
لقد دفع الشعب الألماني ثمن هذا كله بتدمير مدن المانية جميلة في الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا ، ثم في صورة تعويضات باذخة ساهمت في بناء إقتصادي متقدم للكيان الصهيوني وتدعيمه خلال أكثر من نصف قرن ومازالت هذه التعويضات تمثل عصب الإقتصاد الإسرائيلي وإزدهاره بجانب المعونات السخية من الولايات المتحدة! هي كما يسميها حتى مناصروها ومنهم «هابرماس»رأس جسر للحداثة- الإمبريالية-(من عندنا) الغربية في الشرق!
يمثل»هابرماس»آخر الحراس الجوراسيين للعائلة المقدسة»(التعبير لكارل ماركس) وهو التشخيص المتدهور لمثالية ألمانية جامعية لم تستطع الصمود في مواجهة موجة رجعية عارمة وحرب عالمية أثارتها نزعتها القومية المتطرفة والمهيمنة!كان المرحوم «كارل ماركس» قد تلمس هذا في تعبيره المُحكم «الحماقات الجامعية»!
إن القديس «هابرماس» -كما يليق ببروفسير ألماني بحسب تعبير الألماني الآبق «كارل ماركس» !-أحب في أواخر حياته أن يضع الختم الحداثي على أحدث مذابح الغرب الحداثي في غزة فاصدر بيانآ للعامة بذلك وهو ليس إلا تطور منطقي لأطروحاته منذ بداية القرن العشرين !
كثيرون هم من ردوا على مقالة هابرماس من مراكز البحوث الإجتماعية المختلفة(عزمي بشارة وآخرون)وكذلك في الصحف السياره لكن أغلبهم أستهل نقده بأن السيد من دوسلدورف- «يورغن هابرماس»- هو «كبير الفلاسفة»! كما كان يسمى هايدجر» فوهرر الفلاسفه»! هذه أمور تقديرية وكذلك مؤسساتية فهو كان مدير لمعهد العلوم الإجتماعيه ب»فرانكفورت على الماين» وقبلها مدير لمعهد» ماكس بلانك»! ومؤلف لخمسين كتابآ في الحداثة والتواصل وغيرها وهي أمور وظيفية قال عن مثلها كارل ماركس «الحماقات الجامعية» وحتى» فتجنشتين» -المؤهل جدآ- يقول»ربما كثير من الكتب المؤلفة بأكثر أمانة وصدقية بالغة قد تصبح في زمن آخر بلا معنى ولا قيمة !ذلك لأن الناس كان لديهم مايشغلهم غير تأليف الكُتب» عن «إيتيان كلاين» ( Il était sept fois le revolution)
نرجع لمقالة السيد الفيلسوف من دوسلدورف!بعد مرور شهرين من الصمت إزاء قصف شامل تسبب في تدمير كامل لقطاع غزة على رؤوس سكانه المليونين!يبدأ الرجل العجوز كلامه عن حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها إزاء هجوم وحشي! ولم يتعرض لأسبابه التاريخية ولا الحالية لينتقل لموضوع آخر عن معاداة السامية التى يتعرض لها يهود ألمان من قبل ناس «يعيشون في بلادنا «هكذا تجرأ على وصف مواطنين ومهاجرين من أصول شرق أوسطية يدفعون الضرائب ويدلون بأصواتهم فى إنتخابات البوندستاغ!أي مواطنيين ألمان.لقد اعاد السيد الذي تلقى تعليمه علىّ العظيمان «ادورنو» و»هوركهايمر» العملية التاريخية المعروفة في شرق أوربا المتعثرة في حداثتها وأن يعمل على توجيه معاداة السامية لتصيب ساميين آخرين هم العرب والمسلمين! العنصرية اللاسامية تبقى كطاقة كامنة يعاد تعريف ضحيتها وهو ماقام به بالضبط «هتلر» بتوجيه غضب الجماهير من معاداة الرأسمالي الألماني الجشع لمعاداة المرابي اليهودي والعامل اليهودي اليساري!وهذا مافعله سابقآ «هايدجر»على الصعيد الفلسفي بإعادة إختراع Arbieten والوجود العضوي كمعادل للنزعة الألمانية الجوهرانية!…Yah..Yah!
في محاضرته بألجامعة الأمريكية بألقاهرة لم يعرج على مايمس السلطات الجامعية التى دعته للكلام هناك( académisme main -stream)!وكانت تعبيرات وجهة بألنسبة للحضور مزعجة! أي كما كانت تقول جداتنا :عليها غضب الله.
وهذا مافعله حالآ السيد الفيلسوف من دوسلدورف عندما أعتبر جوهر الحداثة مسيحي!وكأن هناك سور صين عظيم يفصل الحضارات والثقافات الكبرى!إن القديس الفيلسوف «يورغن هابرماس» وقد ألقى الطين والوسخ على تراث مدرسة نقدية عظيمة ساهمت في تطوير الوعي الإنساني والأكاديمي بوجه خاص .. قد أسدل الستار على تقاليد جامعية راديكالية وحديثه عن «حداثة منقوصة» لم يكن سوى حنين للقوة المسيطرة! وهو لم يفعل ذلك بسب خرف العمر (90 عام) فقط.. بل أساسآ بإستدعاء أسوأ ميراث من المثالية الإيديلوچية الألمانية. كان ذلك متوافقآ مع الأطروحات اليمينية المتطرفة الحالية والتي تكتسح أوربا العجوز من أول (الإنزياح الكبير)( le grand remplcement)(رينو كامو-إريك زامور) حتى المظاهرة المفتعلة للعلمانيين السابقين واليساريين المتحولين و القدماء ضد معاداة السامية بباريس وهي تظاهرة كانت في الحقيقة لتأييد المذبحة الإسرائيلية الجارية في غزة وتقدمهم ممثلين لليمين المتطرف!
لم يخالف الفيلسوف المحترف والموظف العمومي لدى الحكومة الفيدرالية منذ ثلاث أرباع القرن الغريزة المشهورة لأستاذ جامعي مُرسم كمرجعية فكرية ..ما قد هداه ليس المحاججة النظرية مبرهنآ على صحة مقولاته و ما يفعله أو يكتبه كان عليه فقط أن يقف بجانب المنتصرين المحتملين كما فعل سلفه «مارتين هايدجر»!
هو تقريبآ على فراش الموت يتذكر بينما يتجه العالم بصعوبة وهلع على الصعيد الشعبي وفي غالبية الأكاديميات المحترمة (في الولايات المتحدة)للوقوف بصلابة بمعاكسة الطاعون المحتمل المحدق فوق رؤوسنا ليس فقط بغزة ولكن لمدى أوسع بكثير !
يبدو الآن الأمر مُعلق على نتائج الهجوم الإجرامي الذي ربما يخسر رهاناته الكبرى وينسحب من قطاع غزة فلسطين ومن كوابيسنا!
الفيلسوف الآبق لن يعيش ليرى تحول التيار في إتجاه حرية الشعوب حتى إن لم يكونوا مسيحيين أو يهود وسيحاسبه التاريخ بما أقترفت يداه وقلمه، وسيكون على ألأغلب في أسفل مكان ممكن في «جحيم دانتي» ليستأنس مع «مارتين هايدجر» و»كارل شميت» وآخرين بألحب والتضحية الإلهية (Crucifiement) اللتان عملا في ظلهما!
بألطبع لن يكون معهم هناك المفكرين اليهود الإنسانيين العظام! لا « باروخ إسبينوزا» ولا «البيرت إينشتين ولا»سيجموند فرويد»ولا» ماكس هوركهايمر» ولا» كارل ماركس» لإن الأخيرين جميعآ سيكونون بألفردوس لإنهم دافعوا عن العدل والحرية بجانب» إبن رشد» و»عبد الرحمن أبن خلدون» مؤسس علم الإجتماع ذاته وهما للغرابة مسلمين وليسا بروتستانتين! لانحب الخوض أكثر في التشنيع ب»يورغن هيبرماس» الجديد فهناك تلاميذ ومريدين له في كافة الاكاديميات العربية وكذلك على رصيف المثقفين الحزين والمُوحل!
هذه العجالة كُتبت تحت ضجيج المدافع التي تحصد أرواح عزيزة هي لأشقاء لنا ولا تختلف حالتنا بمضمونها ومشاعرها عن الشعور نفسه الذي يهزنا عند قراءة تفاصيل الهولوكست الذي نفذته دولة شمولية في المانيا تجاه أولاد عمومتنا اليهود في فارصوفيا و أوشفيتز !لإن من قتل نفسآ بغير حق فقد قتل الناس جميعآ!
بعد أن تصمت المدافع سيكون لنا عودة لنقاش أطروحات السيد من «دوسلدورف « المدينة التي نحبها !وبخاصة سنناقش تخريجات حواريه المزعومين في جامعاتنا وبألأخص في المغرب العربي وتونس على وجه التحديد وهم -وهن- على الأغلب فوجئوا بما أنتهى إليه مُعلمهم.
نحن فقط ندعو الجميع لإعادة قرآته واضعين في الإعتبار موقفه الحالي فقد تضئ هذه القراءة منظورآ كان مخفيآ خلف لغة فلسفية متعالمة كما فعل «مارتين هايدجر» وأفتضح أمره على يد المرحوم العزيز الغالي «بيير بورديه» في أطروحته (الأنتولوچيا السياسية ل»مارتين هايدجر»)(1987). ندعو للجميع بحسن الخاتمة وطيب المآلات!