spot_img

ذات صلة

جمع

الرواية والمقاومة: الرواية هي الحياة

إعداد سعدية بنسالم المقدّمة:   يعرّف عادل الأسطة في كتابه "أدب...

الرّيحُ لا تَمْزَحُ

بقلم الشاعر: أسامة حمري الأُبابَةُ داءٌ بِلا أدْوِيهْأوْ طَبيبٍ يُعالِجُهُ-سأحْزَنُ...

“ترامْب” يواصل بأسلوبه استراتيجية أسلافه بنهب ثروات شعوب المنطقة وحماية “إسرائيل”

الشاعر: هادي دانيال يُشاعُ منذ تمكين "دونالد ترامب" مِن دخول...

شعرية الكثافة والزخم الدلالي للقصيدة

بقلم: الشاعر والنقاد المصري" عبد الله السمطي تنتظمُ شعرية...

لعبة “كرة القدم” كصيرورة تَشَكُل “ديانة عالمية”

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم "يا لها من مفارقةٍ عجيبة:...

وضاح الجبل (عبد النبي العوني): الشاعر المتمرّد

رياض خليف

1

بعيدا عن الأضواء يواصل الشاعر وضاح الجبل رحلته الشعرية الممتدة عقودا، محافظا على ملامح تجربته التي ذاع صيتها في هذه القرى الجبلية الصغيرة، متمردا على المشهد، منتصرا للصعلكة والرفض، ساخرا من اليومي. هو هكذا صوت قادم من أعماق البلاد. لا يأبه به الإعلام الثقافي كثيرا ولا تأبه به الملتقيات الشعرية إلا نادرا، وربما هو أيضا لا يأبه…

ولكن لشعره عشاقه وأحبته يتناقلونه ويتحدثون عنه، منخرطا بذلك في المختلف والغاضب، وهو ما يرصده قارئ مجموعتيه “ما تعسر من سورة الشعراء” و”في انتظار القصيدة” وما يواصل نشره على صفحته الاجتماعية.

2

ينشد قراء وضاح الجبل إلى تصويره للمعاناة اليومية وكتابته للواقع برؤية تشاؤمية لا تخلو من تصادم مع اليومي، ولكن هذه الكتابة لا تخلو من سخرية ومن توظيف للتفاصيل اليومية. فبين شعره والكوميديا السوداء وشائج كثيرة.

فها هو يقدم حكمه الساخرة وحلوله لمصائب الدهر:

إذا اعوجّتِ الأيّامُ زدْهَا اعْوِجَاجَا

وَقلْ رَبّ عند القحطِ هَاتِ عَجَاجَا

وَإن لمْ تَذقْ يوْمًا مِن الدّهرِ حُلْوَهُ

تَجرّعْ مِن الدّفلَى تجِدْهَا عِلاَجَا

فهو في هذا المقطع يعالج الألم بالألم والمرارة بالمرارة ويبدو يائسا من الحياة داعيا إلى تحديها ومستعملا الأسلوب الساخر للتعبير عن موقفه من القوم:

” وَإِن عَاقبوكَ إنْ هَدَيتَ ضريرَهُمْ

فضَعْ أينمَا يخطو الحُفاةُ زُجَاجَا

وَإن حَاكموكَ إن حرستَ قطيعَهُمْ

فأجّرْ لهمْ ذئبًا ليرعَى النّعاجَا

كَذاكَ هِيَ الدّنيا ذلِك حلُّهَا

إذَا عِوَجًا شاءتْ فزدْهَا اعْوِجَاجَا ” .

هذا الخطاب نسجله في قصيدته رأس الشهر فهي تصوّر الواقع اليومي البائس ومشاكل الشاعر اليومية. فيتحول مطلع الشهر إلى محنة:

للشهر رأس مدى الأعوامِ ينطَحُني

جرحٌ على الجرحِ من قرنيْهِ في بدَني

ولعلنا نسجل في هذا المستوى الاستعارة التصورية التي يقوم عليها هذا المطلع. فالشاعر يستدعي صورة الخروف الأقرن ليعبر بها عن هذا الموعد مختارا فعل النطح لتصوير أزمات اللحظة.

ثم يصور واقع الأجير التائه بين متطلبات الحياة والعاجز عن الاستجابة لمطالب اليومي:

ماءٌ كراءٌ وضوءٌ ثم أربعةٌ

وزوجةٌ عند رأسِ الشهرِ تخنقني

أفْلي الجيوبَ فلا ألقى سوى نُتَفٍ

من علبةِ التبغِ في جيبٍ يُخادعني “

هذه المناخات تسم شعر وضاح فهو الذي يشحن صوره الشعرية بصور من الواقع اليومي تحول كتابته إلى كتابة ساخرة من الواقع ومحتجة لا تخلو من يأس من الحياة:

من لم يدُسْ جمرَتي والرّجلُ حافيةٌ

فما عليهِ إذا ما لامني حرَجُ

سئمتُ من عِيشةِ الأمواتِ في زمنٍ

كذيلِ كلْبٍ به من أصله عِوَجُ

3

نواسي…

ولعله النواسي الأخير (نسبة إلى أبي نواس)

في مقابل هذا البؤس تتسم تجربة وضاح بوجه أخر هو الوجه النواسي أو كتابة الخمريات التي تظهر في قصائد كثيرة. فيناجي الكأس ويصف المجالس ويتغنى بالخمرة

تنهّدتُ في كأسِي فقالتْ حَذارِ

سيجرحك البلّورُ عند انكسَارِي

ترشّفتُ رغوةَ الثمالةِ مِنها

وقلتُ لقد أطفأتِ بالخمرِ نارِي

كفاكِ ارتعاشًا واسألينِي لِأنّي

وَحيدٌ ونفسي لا تُطيق حِوَارِي

بل تغدو ذكريات ليالي الخمر وصباحاتها مرجعا لصوره الشعرية:

أتنسَيْنَ كمْ لَثمْتُ فاكِ وبتْنَا

مِن السّكْرِ تحت سِدْرةٍ في القفارِ ؟

تقولينَ لِي والذّئب في الفجر يَعْوي :

ألاَ انهضْ فقد تُؤذيكَ شمسُ النهارِ

عَلَى صيحَةِ الرّاعِي المُبَكِّرِ أَصْحُو

4

ساخط على المدينة وساخر منها، ينشد ماضيه في الريف الذي غادره وأكثر أهله، فهي مدينة المادة والأموال:

مدينة عبّادِ النقودِ جَحِيمٌ

فيا عَجَبي فيها لِطولِ اصْطِباري

وهي مدن الضوضاء والفوضى:

لم ألقَ في مدنِ الضوضاءِ مُنتَجَعا

يُريحُ قلبي من الأوْصابِ والعِلَلِ

لي ها هنا معبَدٌ آ ليتُ من زمنٍ

5

بيرز في هذه التجربة أيضا ذلك الحس البدوي الميل إلى القرية وحياتها فإذا أغلب الصور الشعرية تنحدر من ذلك الواقع الريفي، وإذا بعض القصائد تصور الحياة الريفية وتستعيدها من ذلك ذكريات موسم الحصاد. وفي هذه القصيدة عودة إلى العائلة:

إذا ما الدّيكُ صاحَ ولاحَ فجْرٌ

تُنارُ بهِ الأباطِحُ والدّيارُ

نفرّ إلى الحَصيدَةِ وهْيَ موْجٌ

يُؤرْجِحُهُ سَوادٌ واصْفِرارُ

بِرُكْنٍ نُوقِدُ الكانونَ حتّى

إذا ما الشّايُ فارَ عَلا البُخَارُ

بِمِنْجَلِهِ يُداعِبُ والِدِي

خصْرَ سُنْبُلَةٍ وأمّي لا تَغَارُ

وَراءهُما أطوفُ بِكُوزِ ماءٍ

إذا ظمِئَا فلمْ يُسْمَعْ حِوارُ

ويصف الكثير من هذه العملية الطريفة وما يصاحبها من أجواء ولكن فصائد القرية تتحول إلى لحظة تذكر مؤلم، لحظة ألممن تبدد الماضي الجميل، فيبكي الكاتب قريته بعمق بعد سنوات الرحيل عنها إلى المدن، وهي من القرى التي شهدت موجات كبيرة من النزوح فيكتب ذات عودة بعد سنوات، مسجلا الخراب: “

خلَتِ الخبيْنةُ واختلى بديارِها

ذئبٌ يُوعوعُ في الضحى بجوارِها

أنكرتُ بيتي يومَ زرتُه سائحا

وفزعتُ من جُدْرانهِ وغبارِها

وَزَغٌ وفئرانٌ ونَسْجُ عناكِبٍ

ويستحضر الشاعر في هذا الإطار الذكريات الدارسة:

أسفي على كرةِ الصّبا وشِجارِها

أين الصّبايا الوارداتُ وأين مَن

تخشى الدّجى فتشدّ ذيْلَ حمارِها

هكذا تلتهم الأيام ذاكرة القرية وتفقد الحياة فيها:

لا كلْبَ ينبحُ في مقابر صمْتِها

لا ديكَ يصدَحُ في خرابِ قفارِها

لا طفلَ يمرَحُ في ترابِ ظلالها

لا عنْزَ تسرحُ في ذَرَى صبّارِها

6

هذه إطلالة على شاعر لم يترك الإيقاع الشعري، ولم يترك الخطاب الساخر منذ بداياته، معبرا عن غضبه من اليومي وتمرّده عليه، صارخا في الجلساء وفي مريدي صفحته الاجتماعية … اخرسوا أنا شيخكم… شيخ القصيدة.

هكذا عرفت وضاح منذ سنوات كلما التقينا في لقاءات نادرة، شاعرا ميالا إلى الهامش لم ينتبه له المشهد الشعري بعد…

spot_imgspot_img