spot_img

ذات صلة

جمع

نافلة الفجر

الأديبة: بسمة الشوالي أدرك أن هذا أوان الرُجْعى إلى ربّه....

إنشائية الموت في ديوان “شباك ميرا” لسمير العبدلي

رياض خليف يبدو صوت سمير العبدلي مميزا في الشعر التونسي،...

شاكر والخولي والرحباني… والصّورَةُ وما يشبهُهَا…

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي  تعتبر مسألة "اعتزال الفنّ" من...

رواية ” بيرعوين” لنصر بالحاج بالطيب: رواية الجغرافيا والذاكرة

رياض خليف  " بيرعوين " منجز روائي آخر يطرحه نصر...

اليسار وسرديته الكبرى (نقد النقد)

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم تأتي أطروحة "عزيز كريشان" والمنشورة...

نافلة الفجر

الأديبة: بسمة الشوالي

أدرك أن هذا أوان الرُجْعى إلى ربّه. أرسل لحيته الخفيفة تُعشب على بسطة وجهه. نقّل السيجارة إلى يده اليسرى وسخّر يمناه للسّبحة. هجر النوم نهارا وغدا يدرك صلاة الصّبح جماعة. وقرّرت هي فجأة أن تلتزم بالصلاة في مواقيت تصرّفها حسب الفرص التي تخلو فيها زاوية جداريّة من الخصام والأقدام في منزل بغرفتين، يأوي إليه تسعة أنفار وأكثر غالبا. الرزنامة غير القارّة قد تختزل الصلوات إلى ثلاثة أو أقلّ وقد لا تأتي طيلة اليوم سجدة واحدة، بيد أنّها تثابر كي يثبت قلبها على الهدى. مطلع شهر ذي الحجة، كتمت الشابّة ضجيج حسنها تحت أحد فساتين أمّها الطّويلة الفضفاضة، وكسفت شمس شعرها بمحرمة من الكتّان المورّد وأفجرت تتوضّأ عند شجيرة ليمون مغروسة في الحوش بضجّة مفتعلة تنبئ عن استعدادها للخلوة مع ربّها. بالجوار، أبكر الشّاب يتمتم جهرا بأدعية الصباح مؤكّدا استلامه للبشارة. بدل المشي ما يناهز الميلين صوب مسجد المدينة، يمّم شطر ضفّة وادي مجردة الموالية للحيّ وأدركته هي عند مختبإ من جذوع الكالبتوس ليستقبلا معا متطهّرين أوّل شروق للحبّ أطلّ عليهما من خلف جبل العذريّة. عندما استفاق الأهل لم يرتب أحد في أنّ الشابّ الطّائش قد تلقّى شعلة الإيمان من ربّه في سنّ مبكّرة فلطُف طبعه العدوانيّ وبردت نار الشّهوة المتوقّدة فيه، وأنّ الصبيّة المشرقة كانت تعبد ربّها خاشعة مرضيّة.

جواب الشّرط..

منتظما كساعة حائطيّة يقطع المسافة نفسها يوميّا، في الاتجاه نفسه، في كلّ طقس، معافى أو سقيما بين منزلها والمعهد جيئة فذهابا. كان قد غادر مقاعد الدّراسة باكرا وامتهن الحلاقة. لكنّ بوّابة المعهد، رغم كثرة المشّائين خلف التلميذات الجميلات لم تعرف حارسا خارجيّا أوفى منه وأكثر انضباطا.

ينصرف إلى عمله حالما تنغلق البوّابة. ولحظة تجتازها خروجا يكون بانتظارها. بمرور الوقت تمكّن بمهارة شرطيّ معرفة ساعات الفراغ الاستثنائيّة حين يتغيّب أحد الأساتذة أو يعنّ لها أن تتغيّب هي عن الدّرس دون سبب شرعيّ. قد لا يتسنّى له أن يتبعها حينها بيد أنّه يعرف أين تقضي ساعاتها الحرّة، فإن أحسنت صرف وقتها المسروق تدخّل بطريقة سريّة ليؤمّن لها بطاقة دخول تستر عن والديها غيابها الجانح، وإلاّ تركها متلذّذا قسوة التأنيب أو الحجز المنزليّ لبضعة أيّام.

يحفظ جدولها المدرسيّ عن ظهر قلب مدلّه وحذاء نهشه فرط المشي وأصابع بافلوفيّة تتحرّك تلقائيا كلّما رأى شعرا شعثا كما لو كانت تمسك مقصّ الحلاقة.. يوجعه غيابها العرضيّ عند العطل المدرسيّة حتى يعتلّ جسمه وتمرض روحه فتفقد الحياة حواسّها الخمس، ويفقد المحلّ زبائنه القلائل. إذا أطلّت ثانية، اشتعل حقل الوجود ضياء وتكتك المقصّ فرحا بين أصابعه. لكنّ الصمت ما فتئ يتلبّد ككتل من الطين المتيبّس بحلق الصّبر فيما الجميلة تشرئبّ يوما عن يوم نحو السّماء كنرجسة تعي حسنها. قرّر أخيرا أن يصارحها بما في الجوى من حبّ يوشك يتلفه.

نقّل مقامه من مسقط ظلّها إلى مدى نظراتها المندفعة صوب الغد. قبالة وجهها المشدوه، أدار لسانه في تجويفه الفمّي مرارا. نضّد الكلمات جيّدا حتى يبهرها منذ الوهلة الأولى. ولمّا أزفت لحظة البوح الخطرة ألقى ما في قلبه دفعة واحدة، في نفَس واحد سريع يخفخف من لُهاث كثوب على حبل..

– إن أحببتني أحببتك. إن لم تحبّيني لن أحبّك.

سؤال مصيريّ

هو أيضا كان يتبع حبيبته أنّى انبسطت لخطاها المغناج الطّريق منتظما كساعة على جدار سبعينات القرن العشرين. يزدرد لعابه إذا سال لخاطر مارق لعب بخاطره، ويطبق على بطنه حتى لا تسمع قرقرة الجوع في قنواته الجوفيّة، ولا يجد قدرا ضئيلا من الجرأة ليكلّمها. ذهابا خلفها فعوْدا فذهابا شهرا فآخر ثمّ داهمه شهر رمضان الذي اعتاد أن يقيم ليلَه سهرا ويُقعِد نهاره نوما. بيد أنّه صبر وصابر وعدّل عاداته كما هو حَريّ بالمؤمن الصالح، بل ولقد شوهد في الساعات التي تقضيها بين جدران الدّرس يمارس أعمالا عرضيّة يشغل بها وقته وجيبه، فإن لم يجد أسبغ الوضوء لصلاتيْ الظّهر والعصر ريثما تنهي الجميلة الدّرس.

بعد أسبوع أدركه التّعب وخشي إن نام أحبّت غيره، فأشار عليه صحبه أن يصارحها بما يكنّه لها فقد بدا أنّ ظلّها أنس إليه وطرِب إلى وقع خطاه. اِستجمع قواه. تقدّم حتى صار إلى جانبها، وقبل أن تُرْفع عنها الفجأة سألها:

– أنت صائمة أم مفطرة؟

spot_imgspot_img