
شاهين السّافي
بعض التواريخ تحتفظ بها الشعوب في ذاكرتها، ليس فقط لأنها تمثّل حدثا فارقا، بل لأنها قد تكون كذلك بداية لمسار ما في تاريخها أو حقبة ما تختلف جزئيا أو كليّة عن سابقاتها. ومن التواريخ التي ظلّ يحتفظ بها التوانسة في ذاكرتهم هو “7 نوفمبر” (أو سبعة حداش)، ولكل جيل من الأجيال التي عاشت تلك اللحظة وما جاء بعدها، من ثمانينيات القرن المنصرم إلى اليوم، حكايات وطرائف ومغامرات مرتبطة بذلك التاريخ.
حين جاءت تلك اللحظة من عام 1987 لم أكن واعيا بما يكفي لأفهم حقيقة ذلك الحدث. كلّ ما أتذكّره هو أنّ شوارع مدينة صفاقس كانت فيها نُصُبٌ تذكاريّةٌ عديدة للرئيس الراحل بورقيبة، وكنت كلما سرت فيها متجوّلا رفقة أحد أفراد العائلة، ولاحت من بعيد إحدى تلك النصب، هتفت بحياة بورقيبة ولكن بشيء من التغيير في الأحرف، وذلك نظرا لما يجلبه نطق لقبه العائلي من مشقة عند طفل صغير: “يحيا أدِيبَا”.
فجأة شرعت تلك النصبُ في الاختفاء، وحتى ذلك الهتاف الطفوليّ الذي كان يبعث البهجة والسرور بين السامعين صار غير محبّذ، أو لنقل صار يُقَابَلُ برفض مشحونٍ بالخوف، فشرع هو الآخر في الاختفاء حتى خبا تماما، وصار جزءا من ذاكرة الطّفل المشوّشة.
*****
لا يمكن لطفل في مثل تلك السنّ أن يفهم ما الذي حدث بالضبط في تلك اللحظة من تاريخ البلاد، ولكن من الممكن أن يستشعر أنّ حدثا جللا قد وقع. قد يدفعه الفضول إلى استراق السمع، خاصّة حين يخفت صوت الكبار ويتحوّل إلى همس أو حتى وشوشات، والأعين تنظر يمنة ويسرة كأنها تخشى رقيبا عتيّا خفيّا، ولكنّه لن يظفر بشيء ذي بالٍ، وقد يحدث أن يفطن إليه أحد الكبار مسترقا السمع فينهره ويطلب منه المغادرة ليلعب مع الأطفال في الخارج…
كبر ذلك الطفل قليلا ودخل المدرسة. كانت القاعات تعلو جدرانها صورٌ لرجل قيل إنّه الرئيس -وهو شخص آخر غير بورقيبة- إضافة إلى كتابة تاريخ “7 نوفمبر” بأشكال متنوّعة وأحجام مختلفة، فكأنّ قوّة ما جبّارة تريد تثبيت ذلك التاريخ في الأذهان والأرواح، ولعلّها نجحت، فحتى المباريات الثقافيّة أو الرياضيّة بين الأقسام والمدارس كانت تقام في ذلك التاريخ الذي كان يوم عطلة (فيشطا)، ثمّ صار جزء من عطلة بأسبوع صارت تسمى “عطلة 7 نوفمبر”.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فحصّة البستنة مثلا لم تسلم من براثن هذا التاريخ، وأذكر أنّ المعلّم المشرف على هذه الحصّة قد عرض على المدير فكرة أدخلت على قلبه البهجة والسرور، والفكرة هي أن نتخذ ركنا من حديقة المدرسة نزرع فيه الأزهار موزّعة بطريقة تجعل تاريخ 7 نوفمبر منحوتا بارزا للعيان، وقد كان له ما أراد، فغرسنا وسقينا وقلّمنا حتى صار ذلك الركن كما أريد له أن يكون.
*****
في المرحلة الإعداديّة ولع ذلك الفتى اليافع -الذي كنتهُ- بكرة القدم مثل كل خلانه وأترابه، وصادف أن بعث بعض الكبار من أولاد الحومة خليّة لحزب الدستور (التجمّع)، وفي اجتماع عام قالوا على الملإ إنهم بصدد إحداث ملعب للممارسة كرة القدم (بورة) وبعث فريق كرويّ سيشارك في مباريات كأس 7 نوفمبر للأحياء الشعبيّة، فأحبَّ تلك الخليّة وأحبّ حزب الدستور حبّا للكرة لا حبّا لهما، ولكن سرعان ما تحوّلت تلك “الخليّة” إلى خليّة للخصومات والمعارك، وخاب الأمل فيها وفي وعودها، وأغلق بابها نهائيّا، وحتى صاحب المحلّ الذي تسوّغوه، وهو جار عزيز، لم ينل مليما واحدا منهم، وقد قال يوم سلّموهُ المفتاح: “من سأخاصم؟ عوضي على الله..”، ولم يَخُضْ في الأمر مرّة أخرى.
كان ذلك الفتى اليافع -ككل الناس- يذهب إلى الحلاق. كان حلاقه في مثل سنه أو أكبر منه بقليل، انقطع عن الدراسة بشكل مبكر واشتغل مع والده في محلّ الحلاقة وكان في نفس الوقت يتابع دروس التكوين المهني في نفس التخصص.
ذات مرّة، أطنب الحلاق في الثناء على شَعري (بفتح الشين) حتى خلته ينظم أبياتا من الشِّعرِ (بكسر الشين). كنت مشدوها أمام ذلك السيل البديع من الكلمات وقلت في نفسي: “يا رب تستر..”. ختم الحلاق كلامه بالقول إنّه قد عقد العزم على المشاركة في مسابقة للحلاقة بمناسبة 7 نوفمبر، وإنّه في مسيس الحاجة إلى رأسٍ مثل رأسي تماما. من عاداتي السيئة في تلك السنّ أني كنت خجولا جدا ولا أستطيع الرفض، وهي عادة تخلصتُ منها تدريجيّا مع تقدّمي في العمر والتجربة حتى صرتُ “رقعة” من “الرقع” لا يتردّد في قول تلك الـ”لا”.
خلال المسابقة أراد الحلاق الفتيّ أن ينحت فوق شعري عبارة “7 نوفمبر” ولكنه فشل فشلا ذريعًا، ولعلّه خاب في اختيار الرأس المناسبة لذلك، فتنفّستُ الصعداء وقلت الحمد لله الذي نجّى رأسي من أحابيل المقص وأفاعيله. كانت المشاركة طبعا غير موفقة بالمرة، وعاد هو يجرّ أذيال خيبته وعدت أنا هازئا من تلك “الأذيال”. وكان ذلك آخر عهدي به فما سلّمته رأسي مرّة أخرى أبدا.
*****
في المرحلة الثانويّة، كانت هناك عادة يتذّكرها الكثيرون، وهي أن يُتْلى بيان السابع من نوفمبر على الملإ في الأقسام حين تحلّ هذه المناسبة، وقد يفسح المجال -بحذر طبعا- لبعض تساؤلات التلاميذ أو استفساراتهم حول مضامينه، وعادة ما يحصل ذلك إما في حصّة العربيّة أو التربية المدنيّة، وكانت تحصل إحراجات كبيرة، فكان بعض الأساتذة يكتفي بتلاوته ثمّ يمرّ إلى الدّرس مباشرة، وأمَّا من يتشجّع منهم ويفتح باب الحوار فكان يغلق باب القسم بإحكام، ويوصي بالحديث بما يشبه الوشوشة خوفا من الحيطان وما يقف خلفها من وشايات.
من الطرائف التي ظلت محفورة في ذاكرتي هي أنّ تلميذا طلب من أستاذه أن يتلو البيان، فمنحه ذلك، فانطلق يتلوه مقلّد بن علي في طريقته المعروفة في ذلك التسجيل الإذاعي الشهير، فكان من الأستاذ أن أقصاه من الحصّة وأنهى مسألة تلاوة البيان وعاد إلى الدّرس. ولكنّ الأمر سرعان ما تعاظم وبات صعب التطويق، فالقيم العامّ يريد أن يعرف سرّ إقصاء التلميذ من تلك الحصّة بالذات، والتلميذ لا يستطيع البوح به ولا الأستاذ الذي وجد نفسه مأزق كبير، إذ كيف ينجو بنفسه وينقذ تلميذه من التهلكة في آن، ناهيك أنّ ممثلا كوميديّا معروفا قد أشيع أنّه قابع في غياهب “بوفردة” لأنّه قلّد الرّئيس.
دارت الأحاديث بين التلاميذ حول ما حدث يومها، وكلّ تناول الأمر بطريقته جادّا أو متهكّما أو خائفا على مصير زميله إلخ.. ولكن لا ندري كيف اختفت الحكاية فجأة، كأنّ عصا سحريّة فعلت فعلها فأخفتها من الأذهان والألسن فصارت نسيا منسيّا، والمهمّ أن الجميع قد نجا وما مسّ الضّرّ أحدًا بسبب تلك الحادثة.
*****
في الجامعة كان الأمر مختلفا تماما. فقد زاولت تعليمي الجامعي في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، وهي من الكليات المحسوبة على الرافضين المقاومين المعارضين للنظام، وقد يجد أنصار النظام من الطلبة (الدساترة) حرجا أحيانا في التعبير -بشكل صريح- عن هويّتهم السياسيّة، باستثناء “البانديّة” منهم. وخلال هذه الفترة الجامعيّة، من التغييرات التي طرأت على المعجم اليومي هو الاستعاضة عن ذكر عبارة “7 نوفمبر” بعبارة “سبعة حداش”، وهي قد تبدو في الظاهر نظيرا للأولى ولكنها في واقع الأمر تستبطن استهجانا لهذا التاريخ وموقفا منه ومن كلّ ما يرتبط به، وللشاعر الراحل عمّ خميس (المولدي زليلة) قصيدة تحمل عنوان “سبعة حداش” وهي تمثّل قطعة فنيّة رائعة ضمن الأدب الساخر.
حين جاءت لحظة 17 ديسمبر/14 جانفي الفارقة استحالت حقبة “سبعة حداش” برمّتها إلى جزء من تاريخ البلاد. قد يعسر على المؤرّخ أو الباحث في التاريخ ساعتها -نقول يعسر لا يستحيل- أن يقاربها والحدثُ الجديد مازال ساخنا مشحونا. ولكن، اليوم بعد مضي عقد ونيف على حدوثه أزعم أنّه من الممكن التعاطي مع تلك الحقبة النوفمبريّة -بكل ما فيها- برويّة وهدوء، وقد أخذنا مسافة زمنيّة كافية تجعلنا نتحدّث عنها بأريحيّة أكثر رغم ما عشناه فيها من مظالم ومآسٍ.
بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود على اختفاء نُصُبِ بورقيبة في صفاقس، عاد أحدها للظهور من جديد متوسطا ساحة مهمّة من ساحاتها (قبالة صفاقس 2000)، وصادف أن كنت أقطن على مقربة منها وكنت أذهب إليها باستمرار مصطحبا ابني الذي كان في مثل سني لحظة اختفائها في ذلك الماضي، وحين سألني عن ذلك الرجل الذي يمتطي الحصان قلت “إنه بورقيبة”، فوجد نفس المشقة في نطق الاسم، فقلت له “أديبا” فزالت المشقة، ولكن لن يعيد التاريخ نفسه لأنّ القوم في صباي علموني أن أقول “يحيا.. فلان”، أمّا أنا فأريد من ابني أن يكون متصالحا مع ماضي بلاده وتاريخها، ناقدا له وفخورا بمنجزه النيّر ومعترفا بهناته، فلذلك أكتفي بالقول “هذا فلان” ولا مكان في خطابنا لتلك الـ”يحيا”.



