
ترجمة: د. الأسعد الواعر
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- القيروان
النسق الثاني للحرية هو ذاك الذي يؤكد أنّ النفس لا تحدّد نفسها أبدًا بدون سبب مستمّد من مكان آخر غير أعماق الإرادة: هذه هي أساسا المنظومة المفضلة للسيد لايبنتز. في تصوّره، فإنّ سبب التحديد[1] ليس فيزيائيا، بل هو أخلاقيّ، ويؤثّر على الفِكر نفسِه، بحيث لا يمكن أبدا دفع الإنسان إلى التصرّف بحريّة إلاّ عبر الوسائل الكفيلة بإقناعه. ولهذا السّبب يجب أن توجد القوانين وأن تكون العقوبات والمكافآت ضرورية. إنّ الأمل والخوف يؤثّران مباشرة على الفكر: تتعارض هذه الحرية مع الضرورة الفيزيائية أو القَدَرية، ولكنّها لا تتعارض مع الضرورة الأخلاقيّة، التي لا تمتد إلاّ إلى الأشياء العرضيّة، ولا تشكّل أيّ خطر على الحريّة شريطة أن تكون بمفردها. هي في هذا الصّنف ما يجعل الإنسان الذي يستخدم عقله يختار الطعام الطيّب بدل السمّ إذا أُعطِي له الخيار بينهما. الحريّة في هذه الحال تامّة، لكن عكسَها مستحيل. فمن ينكر أنّ الحكيم، عندما يتصرّف بحريّة، لا يتبع بالضّرورة الطّريق الذي ترسمه له الحكمة؟ ولا تقلّ الضّرورة الافتراضيّة[2] توافقا مع الحريّة فكلّ من اعتبرها مدمِّرة للحريّة قد خلط بين اليقينيّ والضروريّ. يشير اليقينُ ببساطة إلى أن حدثًا ما سوف يقع وليس عكسه لأنّ الأسباب التي يعتمد عليها الحدث كامنة في تهيُئِها لإحداث مسبباتها، ولكن الضرورة تتغلّب على السبب نفسه بالاستحالة المطلقة لإنشاء النقيض. غير إنّ تحديد العوارض المستقبليّة، وهو أساس الضرورة الافتراضية، يأتي ببساطة من طبيعة الحقيقة: فهو لا يمسّ الأسباب ولا يحطم العوارضَ ولا يمكن أن يكون مخالفًا للحريّة. دعَونا نستمع إلى السيد ليبنتز: “الضرورة الافتراضية هي تلك التي يضعها افتراض توقّعي وتدبير ربانيّ[3] على العوارض المستقبلية، لكن لا هذه المعرفة الالهية المتقدِّمة[4] ولا هذا التّحديد المسبق ينتقص من الحريّة: لأنّ الله الذي يقوده العقل الأسمى للاختيار بين عدّة سلسلات من الأشياء أو العوالم المحتملة، قد اختار ذاك الذي تتّخذ فيه المخلوقاتُ الحرّة هذه القرارات أو تلك، على الرّغم من أنّها لا تخلو من التقارب فيما بينها، وبذلك جعل كل شيء على حد سواء مؤكَّدا ومحدَّدا مرة واحدة وإلى الأبد، دون الانتقاص من حرية هذه المخلوقات. إنّ قرار الاختيار البسيط هذا لا يتغير، بل إنه فقط قد يُفعّل طبيعتَهم الحرّة التي رآها في أفكاره. النسق الثالث للحرية هو نسق الذين يزعمون أنّ للإنسان حرية يسمونها حرية اللامبالاة، أي إنه في التحديدات الحرة للإرادة، لا تختار النفس تبعا للدوافع، بل لم تعد تميل إلى نعم أكثر من لا، بل إنها تختار فقط بتأثير من فعاليتها دون أن يوجد أيّ مبرّر لاختيارها سوى رغبتها في ذلك. مؤكد هو ما يلي:
1- لا توجد البتة حرية توازن أو لامبالاة لدى الله. إنّ كائنًا مثل الله، الذي يتمثل بأقصى درجة من دقة الاختلافاتِ الصغيرةِ غير المحدودة في الأشياء، يرى بلا شك الخير والشر والأفضل، ولا يمكنه أن يريد إلا وفقًا لما يراه، لأنه بخلاف ذلك سيكون قد تصرّف إمّا بلا سبب أو ضدّ العقل، وهما افتراضان متساويان في الإهانة. لذلك يتّبع الله دائمًا الأفكارَ التي يوردها له إدراكُه اللاّمتناهي على أنها أفضل من الأفكار الأخرى، هو يختار الأفضل من بين عدة مخططات ممكنة، إنه لا يريد شيئا ولا يفعل شيئًا إلا لأسباب كافية مبنية على طبيعة الكائنات وعلى صفاته الإلهية.
2- الأبرار في السماء ليست لديهم أيضًا حرية التوازن هذه: فلا خيرَ بقادر أن يسوّي الله في قلوبهم. إنه يستولي أولاً على كلّ الحب للإرادة، ويُزيح كلَّ خير آخر مثلما يزيحُ رأدُ الضحى[5] عتماتِ اللّيلِ.
يغدو السؤال حينها ما إذا كان الإنسان حرًا من حريّة اللامبالاة هذه أو من حرية التوازن تلك. ها هي مبرّرات أولئك الذين يحملون السلبية:
1- الأمر يبدو مستحيلاً، إنها مسألة الاختيار بين أ وب، ستقول أنه، بغضّ النظر عن كل شيء، يمكنك اختيار الواحد أو الآخر. اخترتَ أ، فلماذا؟ ستقول: اخترتُها لأنني أريد ذلك، ولكن لماذا تريد أ بدلاً من ب؟ تجيب لأنني أريد ذلك فلقد أعطاني الله هذه القدرة. ولكن ماذا يعني أريد أن أريد، أو ماذا تعني أريد لأنني أريد؟ هذه الكلمات ليس لها معنى آخر غير أريد أ، لكنك لم تجب بعدُ على سؤالي: لماذا لا تريد ب؟ هل ترفضها من دون سبب؟ إذا قلتَ أ ترضيني لأنها ترضيني، فإنّ قولك ذاك إما أنه لا يعني شيئًا أو إنه يجب أن يُفهم كما يلي: إنّ أ ترضيني لسبب ما يجعلها تبدو أفضل من ب، وإلا فإنّ العدم سينتج أثرا، وهي نتيجة يجب أن يهضمها المدافعون عن حرية التوازن.
2- هذه الحرية تتعارض مع مبدأ العلّة الكافية: لأننا إذا اخترنا بين شيئين أو أكثر، دون أن يكون هناك سبب يقودنا إلى أحدهما دون الآخر، فسنكون إزاء تقرير تأتّى بدون سبب. ويردّ المدافعون عن اللامبالاة بأن هذا التقرير لا يتم بدون سبب، لأن النفس ذاتها، كمبدأ فاعل، هي العلة الفعالة لجميع أفعالها. وهذا صحيح، ولكن من أين يأتي تحديد هذا الفعل وتفضيله على الآخر؟ يقول السيد لايبنتز: «إنّ إرادة أن يأتي التقرير من اللامبالاة التامة وغير المحدد مطلقا، هي إرادة أن يأتي التصميم طبيعيا من لا شيء. فلنفترض أن الله لا يعطي هذا التقرير: فليس له مصدر في النفس، ولا في الجسد، ولا في الظروف، إذ يفترض أن لا شيء محدَّد، ومع ذلك فهو هنا يظهر ويوجد بدون إعداد، دون أن يكون الله نفسه قادرا على رؤية كيفية وجوده أو إظهارها.” لا يمكن أن يحدث المُسبَّبُ دون وجود السبب الذي يجب أن ينتج عنه الاستعداد للتصرف بالطريقة اللازمة لإحداث هذا المُسبَّبُ. لكن الاختيار أو فعل الإرادة هو نتيجة تكون النفس سببًا لها. لذلك، من الضروري بالنسبة لنا، للقيام بمثل هذا الاختيار، أن تكون النفس مستعدة للقيام به بدلاً من اختيار آخر: ويترتب على ذلك أنها ليست غير محدّدة وغير مبالية.
3- إنّ عقيدة اللامبالاة التامة تدمّر كلّ حكمة وكلّ فضيلة. إذا اخترتُ سلوكا ما، ليس لأنني أجده مطابقًا لقوانين الحكمة، ولكن اخترته دون أيّ سبب، بقطع النظر إن كان صحيحًا أو خاطئًا، جيدًا أو سيئًا، أي إنني قد اخترته فقط من خلال اندفاع أعمى حدّدته الصدفةُ، فما هو الثناء الذي يمكن أن أستحقه إن حصل أنني قد أحسنتُ الاختيار والحال أنني لم أنحز أبدا إلى هذا الجانب لأنه الأفضل؟ لقد كان بالإمكان أن أختار العكس بنفس تلك السهولة؟ كيف أفترض وجود الحكمة لديّ إذا لم أحدّد اختياراتي بأسباب؟ إنّ سلوك كائن يتمتع بهذه الحرية سيكون مشابهًا تمامًا لسلوك الشخص الذي يقرر جميع أفعاله بضربة نرْد أو بسحب قرعة: ساعتها سيكون من العبث أن نجري أبحاثا في دوافع أفعال الناس كما سيكون من العبث أيضا اقتراح القوانين والعقوبات والمكافآت عليهم إذا لم يكن لكل ذلك تأثير على إرادتهم غير المبالية بأيّ شيء.
4- حرية اللامبالاة لا تتلاءم مع طبيعة الكائن الذكي الذي سيحب سعادتَه بشكل أساسي بمجرد أن يشعر بنفسه ويتعرفها، وبالتالي سيحب أيضًا كل ما يعتقد أنه بالإمكان أن يساهم في تحقيق تلك السعادة. ومن السخافة القول إنّ هذه الأشياء لا يبالي بها مثلُ هذا الكائن، وأنه عندما يعرف بوضوح أنّ أحد الخيارين مفيد له والآخر ضار به، فيمكنه اختيار أحدهما بسهولة مثل اختيار الآخر. هو لا يستطيع بالفعل الموافقة على أحدهما مثلما يوافق على الآخر، فإن كان الأمر بالموافقة بمثابة الملاذ الأخير له، فسيكون نفسه مماثلا لأمر تحديد القرار: ذاك هو التحديد الصادر عن الأسباب أو الدوافع. إضافة إلى ذلك، نرى في الإرادة الجهدَ المبذول للفعل، وهو فعلا جوهر تلك الإرادة الذي يميزها عن الحكم البسيط. لكن، بما أنّ الفكر لا يقبل أبدا التأثر بدافع ميكانيكي، فما الذي سيحثه على الفعل غيرَ الحب الذي يكنّه لنفسه ولسعادته؟ هذا هو الدافع الأعظم لجميع العقول، فهي لا تفعل إلا إذا رغبت في الفعل: ولكن ما الذي يجعل هذه الرغبة ناجعة إن لم تكن المتعةُ التي نجدها في إشباعها؟ ومن أين يمكن أن تنشأ هذه الرغبة إن لم يكن من تمثل إدراك الموضوع؟ ولذلك لا يمكن دفع الكائن الذكي إلى الفعل إلا بعلّة ما أو بسبب ما ناشئ عن خير فعلي أو ظاهر ينتظره من فعله. (يتبع)
الموسوعة أو المعجم العقلاني للعلوم والفنون والحرف
(المجلد رقم 9، الطبعة الأولى، باريس 1765)
مقال شارك في تأليفه: نيجون، إيفون، جوكور، مالّي وبوشي دارجيس.
هوامش الترجمة (من وضع المترجم):
1- تكون الضرورةُ قطعية (la nécessité catégorique) عندما يتعلق الأمر بالمبادئ العقلانية للمنطق، وتكون الضرورةُ افتراضية (la nécessité hypothétique) عندما تكون مبنية على مسلمات أو تعتمد جزئيا على التجربة. ويحددها لايبنتز بمبدأ العقل الكافي الذي يعني أن لا شيء بلا سبب، أي أن كل شيء موجود ضروري لسيناريو الكون الذي أراده الله.
2- التدبير الرباني: La préordination، هو في الأصل مفهوم من الثيولوجيا المسيحية الكاثوليكية ويعني تطابق الحرية الانسانية مع المشيئة الربانية المرتَّبة مسبقا.
3- المعرفة الربانية المسبقة La préscience، هو في الأصل أيضا مفهوم من الثيولوجيا المسيحية الكاثوليكية ويعني ما قدرّه الله سلفا للإنسان.
4- رأد الضحى: ترجمنا بها العبارة الفرنسية Le grand jour، ورأد الضحى في المعاجم العربية الكلاسيكية هو وقت ارتفاع الشمس وانبساط النور في وضح النهار.
[1] التحديد: ترجمنا بها المفهوم Détermination الذي سنترجمه في سياقات أخرى ب “اتخاذ القرار” أو “التقرير”.
[2] تكون الضرورةُ قطعية nécessité catégorique: عندما يتعلق الأمر بالمبادئ العقلانية للمنطق، وتكون الضرورةُ افتراضية nécessité hypothétique عندما تكون مبنية على مسلمات أو تعتمد جزئيا على التجربة. ويحددها لايبنتز بمبدأ العقل الكافي الذي يعني أن لا شيء بلا سبب، أي أن كل شيء موجود ضروري لسيناريو الكون الذي أراده الله.
[3] التدبير رباني: la préordination: هو مفهوم من الثيولوجيا الكاثوليكية ويعني تطابق الحرية الإنسانية مع المشيئة الربانية المرتُّبة سلفا.
المعرفة الربانية المتقدِّمة: هو في الأصل أيضا مفهوم من الثيولوجيا الكاثوليكية ويعني ما قدّره الله في علمه سلفا للإنسان. [4]
رأدُ الضحى: رأدُ الضحى في المعاجم العربية الكلاسيكية هو وقت ارتفاع الشمس وانبساط النور في وضح النهار، حبذنا أن نترجم بها العبارة . Le grand jour [5]
الصورة : الموسوعيان جان لورون دالمبير (1717- 1783) ودنيس ديدرو (1713- 1784
موسوعة ديدرو الفرنسية (1765)