spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

مفاوز الجوائز..

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي

  منذ أن أعلنت نتائج الدورة الثلاثين من “جائزة أبي القاسم الشابي” (برعاية “البنك التونسي”)، وأهل الأدب في تونس في حالة من الاستياء بلغت حدّ السخط عند البعض منهم.

******

موضوع الجوائز الأدبيّة هو من المواضيع التي دائما ما تثير الجدل ويسيل حولها حبر كثير، فعندما تعلن هذه الهيأة أو تلك عن فتح باب الترشّح لجائزة أو مسابقة ما، تسود حالة من الهدوء، فالكل منهمك في التدقيق في سلامة ملفّ ترشّحه من الأخطاء ولو كانت شكليّة (عقود النشر، السير الذاتيّة، مواعيد التسليم، تواريخ الطباعة إلخ..)، فقد يتسبّب خطأ شكلي بسيط في إخراج الكاتب من دائرة التنافس منذ البداية، أي قبل أن يصل تأليفه الأدبي إلى لجنة التحكيم، وهو ما يعبّر عنه عادة بلغة الإدارة: “هذا الترشّح مرفوض شكلا”.

يمكن أن نطلق على هذه المرحلة من التنافس تسمية: “مرحلة الكتمان في قضاء الحوائج”. و”الكتمان” هنا يتجاوز عمليّة إعداد ملفّ الترشّح ليشمل أحيانا -عند بعض الكتاب- عدم تعميم وجود هذه الجائزة أو المسابقة على البقيّة من رفاق الحرف، فكلّما قلّ عدد المتنافسين تعاظمت الحظوظ في الفوز -وفق تفكيرهم- ورغم أنّ الثورة في مجال الاتصال قد أحدثت سرعة مذهلة في نشر المعلومة وتعميمها، إذ لم تعد الأمور كما في السابق مقتصرة على إعلان في جريدة أو في إذاعة، فإنّ البعض ظلّ “وفيّا” لمبدأ “الكتمان” ولو كان بلا معنى، ولكن لا يسعنا إلا أن نحييهم على هذا “الوفاء” الذي بات عملة نادرة في هذا الزمان.

تطول حالة الهدوء، وهي تمتدّ من لحظة إيداع الترشحات في آجالها عند الهيأة المشرفة إلى لحظة إعلان لجنة التحكيم عن الفائزين. هو الهدوء الذي يسبق العاصفة أي نعم، ولكنّ العاصفة لا تأتي بشكل فجائيّ تماما، فمن السهل الإنصات إلى دبيبها مع اقتراب موعد الإعلان عن النتائج، فمن الوارد أن تحصل بعض “التسريبات” بخصوص الأعمال الفائزة أو المقتربة من الفوز، أو عن قرابة ما -مهما كان نوعها- تجمع عضوا من أعضاء لجنة التحكيم ببعض المترشحين، أو عن غياب التنوّع المطلوب في لجنة التحكيم بحيث تكون كالطائر الذي يغني فلا يردّ عليه غير جناحه، وهو ما يعني أنّ بعض الأعمال التي لا تقترب من مهجة هذه اللجنة ستكون بالضرورة خارج دائرة التنافس إلخ…

قد تكون مثل هذه التسريبات سليمة موثوقة وقد تكون خلوا من الصحة، بل قد تكون مفتعلة أحيانا بغاية التشويش على عمل هذه اللجان ضمن “الحرب النفسيّة”، ولكن ما لا شكّ فيه هو أنّ لحظة إعلانها عن النتائج هي لحظة “العاصفة”.

******

انطلقت جائزة أبي القاسم الشابي برعاية “البنك التونسي” منذ أواسط الثمانينيات، وهي جائزة أدبيّة تخصّص كلّ دورة منها لأحد أجناس الأدب شعرا أو سردا، وقد خصّصت الدورة الأخيرة منها، مثار الجدل، للشعر، فتقدّم الشعراء بمؤلفاتهم، من دواوين ومجاميع شعريّة وكتب شعريّة، من تونس ومن باقي البلاد العربيّة، بغاية الترشّح لهذه الجائزة والكلّ يحلم -وهذا أمر مشروع- بالفوز بها، ولكن في نهاية المطاف ستكون من نصيب شاعر واحد أو شاعرين مناصفةً في بعض الأحيان.

أعلنت لجنة تحكيم الجائزة (جائزة أبي القاسم الشابي/البنك التونسي) عن فوز اللبناني شربل داغر الذي شارك بمؤلّفه “يغتسل النثر في نهره”. وهبّت العاصفة.

أحدث هذا الفوز موجة عارمة من الاحتجاج في صفوف الكتّاب التونسيّين، حتى من لا يكتب الشعر أو من يكتبه ولكن لمْ يشارك في المسابقة، فالأمر يتخطى المصلحة إلى المبدأ. في واقع الأمر إنّ الخبر صادم، فما أعرفه عن الكاتب اللبناني شربل داغر هو اهتمامه بالكتابة النقديّة في الفنّ التشكيلي، ولا أعرف أبدا أنّ له اهتماما بالأدب فما بالك أن تكون له تجربة في الكتابة الشعريّة تؤهّله للمشاركة والفوز في جائزة لها أهميتها ورمزيّتها وعراقتها، وتقريبا هذا ما أشار إليه الشاعر التونسي المنصف المزغني في إحدى تدويناته قال فيها “إن عمل شربل داغر الأدبي شعرا، لم يكن ذا صدى يذكر في الحركة الشعرية العربية العامة، وهو لا يتسم بالجدية الأكاديمية المطلوبة كما لم يشكل الشعر هاجسا أو قلقا طوال حياته”، وأضاف: “والمعروف المشهور به شربل داغر هو أنه صحافي ثقافي متميز ونشيط”. وعلّق الشاعر والكاتب والمترجم التونسي أشرف القرقني ساخرا: “إنّ تعميم الجائزة على المجال العربيّ ومن ثمّ منحها لنصّ يبدو لي أنّ اسم مؤلّفه أكبر شعريّا منه، إنّما هو مسألة أبسط ما يُقال فيها إنّها خاطئة وفي غير محلّها”، ورأى الكاتب والروائي والمترجم التونسي وليد أحمد الفرشيشي أنّ نص شربل داغر “لا يرتقي للأمانة إلى مستوى السرد، فما بالك بالشعر نفسه” وأردف: “كل ما يمكن أن أقوله للسادة الشعراء الذين شاركوا في هذه الجائزة هو التالي: أنتم على حق، وإن كان ثمة خطأ ارتكبتموه، فهو منح مصداقية إلى جائزة بلا مصداقية”. ونجد أصداءً لمثل هذا القول عند غيرهم من الكتاب التونسيين الذين عبروا عن استيائهم من نتائج الجائزة.

حين نقول إنّ جائزة ما قد ذهبت إلى غير مستحقيها فهذا يعني أنّ لجنة التحكيم هي من يتحمّل المسؤوليّة بشكل رئيس، وقد نالت لجنة تحكيم جائزة الشابي نصيبها من النّقد بعضه أشار إلى إخلال في تركيبتها، وبعضه شكّك في علميّة بعض أعضائها أو أهليّتهم للتحكيم، والبعض شكّك في الذمم وهذا ما لا أريد الخوض فيه مطلقا. إلا أنّ الروائيّة والجامعيّة التونسيّة الأستاذة آمنة الرميلي -رغم وضوح موقفها- لم تشكّك مطلقا “في الثبت العلمي لأعضاء اللجنة في النقد الشعري بالجامعة التونسية”، ولكنها أضافت سببا آخر لاستيائها من نتائج الجائزة، وهو أنّ الفائز بها شربل داغر “مثقف لبناني لا يقف إلى جانب المقاومة ولا يعترف بها ويعتبرها مسؤولة عن الدمار والخراب في المنطقة بل ويدعو إلى التسوية (التطبيع؟)”، وقد تفاعل الشاعر التونسي المنصف المزغني مع هذا الرأي جازما أنّ شربل داغر غير خليق بجائزة شعرية تحمل اسم أبي القاسم الشابي حتى إن “ناضل أو قاتل على الجبهة العسكرية أو الثقافية من أجل الدفاع عن قضية أهلنا في فلسطين”.

في الواقع ما قاله المزغني سليم تماما، فأن تكون مقاتلا جيّدا لا يعني أن تكون شاعرا جيّدا، والعكس صحيح أيضا، وتقييم تجربة الشاعر يكون بتقصي سمات “الشعريّة” فيها أين يعلو منسوبها وأين ينخفض. ولكن في نفس الوقت نرى من المهمّ الالتفات بجديّة إلى ما ذكرته الأستاذة آمنة الرميلي حول مسألة التطبيع، ذلك أنّه ثمّة ضرب من المسابقات والجوائز يشترط أمورا كهذه في المترشحين لنيلها، أي أنّه إضافة إلى علوّ منسوب “أدبيّة” النصّ بشكل عام، أو “شعريّته” بشكل خاص، يكون صاحبه من أهل الرأي والموقف أو على الأقل من غير المتورطين في طعن القيم الإنسانيّة المتواضع عليها، وإنّ الجائزة التي تحمل اسم من تغنّى بـ “إرادة الحياة” وتوعّد “طغاة العالم” هي مؤهّلة سلفا لتكون ضمن كوكبة الجوائز التي لا تسند لمن أجرموا في حق الإنسان أو لمن سار في ركابهم.

******

اليوم صارت الدّورة الأخيرة من جائزة الشابي/البنك التونسي جزءًا من التاريخ. فلا يمكن تغيير ما حصل مهما كانت درجة الإجماع حول مساوئه، ولكن من الممكن أن نسعى إلى تغيير ما سيحصل في المستقبل، وذلك بالوقوف على الأخطاء والعمل على تلافيها، دون أن ننكر أنّ الخوض في موضوع الجوائز الأدبيّة في بلادنا هو “حقل ألغام” فلا تعرف من أين يأتي الانفجار أو ما مقداره.

حتى تكون البداية سليمة -أخلاقيّا- سنبارك للفائزين فوزهم -وإن على مضض- ونُحَيِّي الأطراف الراعية للجائزة على المبادرة وعلى حفظ استمراريّتها، ونشكر لجنة التحكيم على ما بذلته من جهد في قراءة النصوص وفحصها وتقييمها واصطفاء الجيّد منها فالأجود فالأكثر جودة، وهذا عمل مضنٍ يستحقّ التنويه والشكر، وإن أفصحنا عن عدم رضانا بالنتائج.

أمّا في الجانب الإجرائي المتعلّق بسلامة هذه الجائزة أو غيرها من الشوائب، فنرى من المهمّ أنّ تنتبه الأطراف الراعية لها إلى جملة من المسائل وهي:

  • التدقيق في وضع شروط الترشّح للجوائز، ثمّ التدقيق في فرز ملفات الأعمال المترشحة لنيلها، وهو ما يسمى عادة بـ”الفرز التقني” وتشرف عليه لجنة خاصّة (ويفترض ألا تكون “لجنة التحكيم”) وتقوم بالاتصال بأصحاب الأعمال التي لم تلتزم بالشروط وتشرح لهم -كتابيّا- دواعي استبعادهم من المسابقة. فقد يبدو الأمر “شكليّا” ولكنّه ذو أهميّة بالغة في مستوى إثبات الجديّة وفي مستوى تحقيق العدل وتساوي الفرص بين المترشحين المفترضين.
  • السعي إلى أن تكون تركيبة لجان التحكيم متوازنة تجمع بين المبدع والناقد العالِم، والمنفتح على التجريب والحداثة الأدبيّة وأصحاب المهج الكلاسيكيّة، هذا إن لم تكن الجائزة تشترط منذ البدء الانتساب إلى هذا أو ذاك (مثلا: جائزة تشترط أن يكون العمل الشعريّ المترشح مندرجا ضمن “قصيدة النثر”)، والمهمّ هو تحقيق التوازن المطلوب من خلال التنوّع الذي يحدث جدلا حقيقيا بين أعضاء هذه اللجان حول الأعمال المترشحة، وهو ما يمثّل آليّة رقابيّة داخليّة مبطّنة تقطع الطريق أمام “الإخوانيّات” والمحاباة و”الأكتاف”، وتضع حدّا لاستغلال مبدأ “النسبيّة” في تقييم الأدب، فهو نسبيّ أي نعم ولكن ثمة من يرفع منسوب النسبيّة فيه حتى يستحيل النسبيّ إلى مطلق، فيكون الأدب هو الضحيّة.
  • الابتعاد عن الأسماء المتكرّرة في لجان التحكيم، والسعي دائما إلى اصطفاء أسماء جديدة لم يسبق لها التحكيم لكنها أهل لذلك، فالتكرار في هذه الحالة مفسدة للأرواح، مهما بلغت هذه الأسماء من الكفاءة والأهليّة والنزاهة، فقد يخلق ذلك حالة من الإحساس بالتفوّق الذي يقود إلى الاستسهال في إصدار الأحكام، وقد يفتح الباب أمام استغلال النفوذ في تحديد مصائر الأعمال المترشّحة إلخ..
  • التثبّت من خلو أي شبهة لتضارب المصالح بين أعضاء لجان التحكيم وأصحاب الأعمال المترشحة للجائزة، وبالتالي يكون اصطفاء الأعضاء في ضوء قائمة المترشحين التي تقدمها لجنة الفرز التقني، فإن ثبت وجود أي قرابة قد تضرّ بنزاهة التحكيم أو تجعله محل شبهة -بعيدا عن التهويل والمبالغات- يتم في إثر ذلك استبعاد الاسم المقترح لعضويّة لجنة التحكيم منذ البداية، فإن حصل المحظور وتسرّب اسم تجمعه قرابة ببعض المترشحين، ففي هذه الحالة يستبعد من إبداء الرأي في أعمالهم، وحين تكون تركيبة اللجنة متوازنة/متنوعة محدثة لأليّة رقابيّة داخليّة، فإنّها كفيلة في مثل هذه الحالات بوضع الأمور في نصابها.

******

كانت هذه بعض الخواطر حول موضوع الجوائز. لا أزعم أنها مكتملة، ولكنها محاولة في الخوض في مطباتها والسعي إلى تلافيها. ولا شك عندي أنّ الموضوع يحتاج إلى حوار أوسع وأشمل، تتدخل فيه كل الأطراف المعنيّة لصياغة “عقد” جديد، يتواضع عليه الجميع، حتى لا تكون الجوائز مفاوزَ يتيه فيها الأدب ويفوزُ فيها قِلّتُهُ.

spot_imgspot_img