
الكاتب النّاقد: حسني عبد الرّحيم
المدرسة مؤسّسة حديثة نسبيّا فلم يكن في عصور سابقة على العصر الصناعي مؤسسة لتعليم التلاميذ كان ابناء الوجهاء والأمراء والملوك يتعلمون بالقصور حيث يستأجر لهم ذووهم المعلمين ليقوموا بتعليمهم الأمور الجوهرية لتأدية واجباتهم الاجتماعية اللاحقة، من بينها شؤون الحرب وإدارة الممتلكات ، وبينما كان الفلاحون يرسلون أبناءهم أحيانا إلى الأبرشيات و المساجد والكتاتيب لكي يعلمهم رجل الدين بعض مبادئ القراءة والحساب والأهم من ذلك تأدية الفرائض على وجهها الصحيح بينما ما يتعلق بالمهارات المهنية سواء الزراعية أو الحرفية فكان يتم تلقيه عن الآباء في الحقول أو معلمي الحرف في ورشاتهم.
الجامعات سابقة على المدارس لأن وظيفتها كانت تكوين أعداد قليلة من الصفوة الأيديلوجية من فلاسفة ومفتيين وعلماء دين وفقهاء وكانت ملحقة بالمساجد والكنائس الكبرى (السوربون والأزهر والزيتونة مثلا) كانت تخصص لهم عطايا تأتيهم من المالكين وكذلك أوقاف(حبيسات) مخصصة لنفقاتهم وتشرف عليهم تراتبية ويتم تحديد الصلاحية والقدرة الاستيعابية مباشرة من قبل المرتبة الأعلى بصفة شخصية (قرأ العلم على العالم فلان)! ولم يتبقّ من ذلك سوى التنصيص الى مؤطر الماجستير والدكتوراة أما بالنسبة إلى الدّراسات الأقل في المستوى فيكفي ذكر الجامعة وهي أمور مختلفة من جامعة لأخرى فليس شهادة خريج الاقتصاد والقانون من جامعة هارفارد مثل تلك من جامعة طنطا أو منوبة سواء في التقدير العام أو عند التوظف.
المدرسة العمومية كما نعرفها تشتمل مقررات دراسية مكتوبة في كتب مقررة يتسلمها التلاميذ تقررها الدولة، وامتحانات وشهادات ممنوحة من الدولة كوثيقة تعطي لحاملها الحق في التقدم لمراحل أعلى من التعليم أو الحصول على عمل في الوظائف العمومية! كما تشتمل المؤسسة المدرسية نظام طقوسي خاص كنشيد الصباح وتحية العلم والزي المدرسي المسموح به والعمل القار طوال الحياة المهنية للمعلمين والأستاذة حتى الخروج على شرف المهنة كما الترقيات الدورية المقررة بنظام إداري-بيداغوجي مستقر، وتتكفل الدولة بصيانة المنشئات والجراية الشهرية للمعلمين والمدرسين الذين يقومون عليها! توازت مع المؤسسات المدرسية العمومية المؤسسات المدرسية الخاصة سواء التابعة لإرساليات دينية أو علمانية غربية وتقوم بتدريس مقررات متناسقة مع البرامج التي تدرس في البلاد الأخرى عبر البحار! وتدرس مناهجها باللّغات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو الإيطالية وتعطى شهادات معتمدة لمواصلة التعليم بالجامعات في هذا البلدان أو لفروع لهذه الجامعات في بلدان الشرق (فروع السوربون في الخليج الجامعتين الأمريكيتين بالقاهرة وبيروت والفرنسية ( ليبولد سانغور) بالإسكندرية وجامعة دوفين في تونس العمران)! هذا بالإضافة لكل المراكز الثقافية الغربية والتي تعمل كمعاهد تعليم خاصة! مثال المعهد الفرنسي له خمسة فروع ضخمة بالمدن التونسية المختلفة وكذلك هناك معاهد الدول الاوربية الأخرى مثل جوته وسفرياتي والمعهد البريطاني الأقل عددا! والتي تطورت لتدريس أمور أخرى بالإضافة لتعليم اللغات.
المدارس الخاصة على هيئة شركات يملكها أشخاص ومساهمين! هي مؤسسات ربحية تتحصل على رسوم كبيرة وتستأجر المدرسين كعمال مهرة وربما تحسب رواتبهم بساعات العمل، ولكن تلاميذها يتقدمون للحصول على شهادات تأهيل ممهورة بخاتم الدولة فهي بإشراف واعتماد وزارات التعليم في كثير من البلدان!
التعليم المفتوح والذي يباشره أناس ليسوا حاصلين على الشهادات الدراسية المطلوبة للالتحاق بالجامعات سواء الحكومية أو الخاصة كان مدخل آخر لتقويض هيمنة التعليم الرسمي على الرغم من مزاياه التكوينية لمواطنين منخرطين في سوق العمل.
هناك مؤسسات تعليمية خاصة وموازية انبلجت في الشرق أيضا هي المدارس الإسلامية بكل مراحل التعليم من الروضة حتى نهاية التعليم المدرسي وهي وإن كانت ظاهرة ضمن مرحلة صعود تلك التيارات اجتماعيا وسياسيّا لكنها كانت ومازالت تلبي حاجات حقيقية لقطاعات اجتماعية متنوعة وتشمل في ناحية أخرى على محاولة للدفاع عمّا يفترضونه الهوية! هناك تفريق بين الجنسين ولباس معين للفتيات والتركيز على الشعائر وخلافه.
منذ سنوات في العديد من البلدان صار قطاع كبير من الطبقات العليا والوسطى يرسلون ابناءهم للتعلم في المدارس الخاصة بسبب التجهيزات المتقدمة وكذلك اجتذابها للمدرسين الأكفاء بغوايتهم بدخول عالية! وإمكانيات التدخل المباشر من قبل الأولياء في التنظيم والتأثير عندما توجد نزاعات! طبيعي أن يكون التلاميذ في هذه المؤسسات ذو حظوة خاصة ببساطة لأنهم يدفعون لتسييرها !هم في وضعية الزبون الذي يختار ما يناسبه من السلع وفقآ للمبدأ التجاري المعروف: الزبون دائما على حق!
كان تدشين التعليم العام للجميع وتحوّله لمصعد اجتماعي للفقراء هو منجز ديموقراطي مهم جدّا عبر عنه الدكتور” طه حسين” في منتصف القرن بمقولته المعروفة: “التعليم كالماء والهواء ينبغي أن يكون لكل مواطن”، ولكنه كان مرهونا بحاجة الدول القومية لبناء جهاز إداري حديث وفي مقالته المشهورة- أول القرن العشرين- بهذا الصدد يشير السوسيولوجي الألماني” ماكس فيبر” :”عن ان المدرسة هي ما مهد الطريق للعقلانية البيروقراطية الحديثة بخلقها الكادر المنسجم والمتفق على إجراءاتها ومفاهيمها”.
المدارس الحديثة ولدت مع الدولة الحديثة وكما تسمى وزارتها في بعض البلاد هي للتربية والتعليم، وعندما دخلت هذه الدول في أزمة تاريخية في التمويل والتوظيف لم تعد قادرة على إمداد المدارس بالموارد الكافية سواء مادية أو روحية! فطبيعي ان تدخل المؤسسة المدرسية في أزمة موازية على كل الأصعدة! البيداغوجية والمالية وتتهالك بنيتها الأساسية ويفقد تلامذتها الأمل في الاندماج الاجتماعي بفعل البطالة المعممة فينكرون التعليم!
هناك معطى تكنولوجي هام وربما جوهري في أزمة المؤسسة المدرسية هو الإنترنيت الذي سمح بالتعلّم عن بُعد واجتياز الامتحانات والمسابقات دون التواجد على عين المكان! يمكن الآن إجراء الاختبار في معهد أو جامعة في كاليفورنيا وأنت تجلس في غرفة وحدك في المهدية! وكذلك يمكنك متابعة الدروس والانخراط في برامج تعليمية في كل المجالات عبر جهاز التليفون الذكي وتتطور بسرعة عملية البرامج التعليمية التفاعلية بحيث تشترك في المحادثة والنقاش عن بعد! وحتى الشركات الكبرى بدأت تقوم بالتوظيف عبر اختباراتها الخاصة ولا تعبآ بما يحمله طالب الوظيفة من شهادات معتمدة من قبل أي دولة! هنا رودس فلترقص هنا!
أتت الأزمة الوبائية الأخيرة لكى تظهر على السطح الإمكانيات التي توفرها التكنولوجية الحديثة في التعلم عن بعد فعبر سنتين من الإغلاق تمكن ملايين التلاميذ والطلاب في كل بقاع المعمورة من متابعة دروسهم وإجراء اختبارات الحصول على الإجازات وحتى مناقشة أطروحات الدكتوراه عبر تطبيقات سمعية وبصرية متفاعلة وخاصة في الدول التي تستحوذ على البناء التحتي الضروري لهذا !وهذه العملية مازالت في بداياتها والمستقبل سيكون في جانبها بلا شك على كافة القارات وفي كل الثقافات وهذا يضع المدرسة التقليدية كما عرفناها في حالة أشبه بالموت السّريريّ !
المعلم والاستاذ اللذان عرفناهما بحوافظ أوراقهم الجلدية ومشاعرهم الأبوية والأمومية وحضرة الناظر المحترم والمتفقد والقيم العام ونشيد الصباح وتحية العلم والزي المدرسي الموحد جميعهم نحتفظ لهم بمحبة واحترام وتبجيل لكنهم ربما يصبحون قريبا جدا موضوعات للحنين على الزمن المفقود الذي ولى وترك وراءه فراغ و شظايا! حتى الدور التربوي والتعبوي الذي كانت تقوم به المدارس قد تم ترحيله لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية! وأصبحت وسائل الاتصال الاجتماعية التي يتم التعامل معها من قبل التلاميذ بحنكة أفضل من الآباء هي الوسيلة الأكثر تأثيرا في التربية والأخلاق والدعاية بكافة فروعها!
هناك مسائل خطيرة في التطور الأخير هو أن المدارس كوسيلة للدّمج الاجتماعي والعرقي لم تتوفر بعد وسيلة توازيها أو أفضل منها لكن يبدو ان العزلة المتزايدة للأفراد هي قاموس لعالم جديد يتشكل أمام أنظارنا ولا نملك وسيلة لمنعه من السيطرة في حياتنا الخاصة والاجتماعيّة على السواء!
هذا الإشكال لا يتعلق بمجتمع معين، ولكنه وضع عالمي جديد ومتسارع واعد ومخيف في ذات الوقت! هذا قد بدأ ومشى أشواط واسعة في البلاد المتقدمة صناعيا وحتى المناقشة بصدد تداعياته بدأت من عقود ولت! لكنّنا بتصور أن المدرسة كما عرفناها مستمرة لأبد الآبدين نتعامى عن حقائق جوهرية! السؤال الممكن طرحه هو هل يمكن تطوير المدرسة القديمة لتوائم الوضع الجديد؟ أم ينبغي التكيف مع ما نتصور مشروع المستقبل لخلق آليات أخرى للتعلم خارج المدرسة لكن هذا ربما يستدعي إعادة تنظيم لمجمل الحياة الاجتماعية ودفن مؤسسات قامت بدور هام في التطوير والإدراك والحراك الاجتماعي! نتذكر في الخاتمة أغنية إنجليزية كانت الأشهر بالعالم أجمع في الربع الأخير من القرن الماضي لفرقة «لبينك فلويد “الإنكليزية لموسيقى الروك بعنوان (قالب حجر آخر في الحائط.. لا نحتاج للتعليم.. لا نحتاج لسيطرتكم) وكانت التيمة الرئيسية لفيلم مشهور أيضا بعنوان “لو” ربما كانت صرخة تنبؤية طوباوية أو ديستطوبية! ربما تكون إعلان لما بعد المدرسة والجامعة كما عرفناها في القرن التاسع عشر والعشرين.
لكن الحكمة التاريخية تقول: بقاء الحال من المُحال.. وكل ماله أول له آخر!
“فكل ما هو ثابت و راسخ ستذروه الرياح” (كارل ماركس)