spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

محرّم، تجاوز نمطيّة الأدب وتنويع لغة الكتابة في قصّة: “رجل محترم جدّا”، للأديب التّونسي إبراهيم درغوثي..

الأديب التونسي: عبد الحميد الطبّابي

لا يمكن تناول موضوع المحرّم والمسكوت عنه والاختراق في لغة الأدب، من دون تدقيق معرفي لمفهومه. وإلاّ انحصر التعرّض إليه عند عفويّة التّفكير، فلا يتجاوز منظوره، الفهم التّقليدي والموروث الثّقافي الاجتماعي.

اختراق المحرّم:

         من خلال الاثنولوجيا (علم الأعراق)، فإنّ المحرّم هو ممارسة محظورة، سواء بالفعل أو القول؛ لأنّه يمسّ بالمقدّس، واختراقه قابل أن ينجرّ عنه، عقاب من قوّة خارقة للطّبيعة، أو حتى بشريّة. كما هو خاضع لمقاييس وضوابط محدّدة لمجموعة بشريّة محدّدة كذلك.

والمحرّم لفظ تتولّد عنه كلّ المحظورات من فئة الثّقافي، الدّيني، السّحري، الطّقوسي، العرفي، السّياسي، إلخ.. مهما كانت المجموعة البشريّة التي تصوغ هذه المحظورات، (طائفة، أتباع عقيدة، قبيلة، مجتمع، أو حتّى المجموعة الكونيّة..)..

لكن ما طغى على المحرّم في البداية، هو تميّزه كظاهرة دينيّة بمعتقدات مختلفة (أديان طبيعيّة، دين بآلهة متعدّدة “بشريّة وأسطوريّة”، أديان وثنيّة، أديان توحيديّة، إلخ..).. وينظر إليه كشكل سلبي للمساس بالمقدّس. كما يعبّر في نفس الوقت، عن خاصيّته المعدية والخطيرة. ويتضمّن ثلاث عناصر:

1) اعتقاد في خاصيّة المدنّس أو المقدّس لذات ما أو لشيء ما!

2) التّحريم: تحريم المسّ أو استخدام هذه الذّات أو هذا الشّيء!

3) العقاب: من خلال الاعتقاد أنّ كلّ خرق لهذا المحظور سينجرّ عنه مباشرة عقاب للمخالف، حيث سيسلّط عليه انتقام من قوّة خفيّة، تسبّب له اعتلالا جسديّا، أو تنزل عليه مصيبة من قبيل (الضّرر النّفسي أو المعنوي، هلاك أملاكه، أحاسيس الألم، فقدان أقاربه إلخ..).. أو حتّى عقاب اجتماعي، وخاصّة من طرف السّلطة بمختلف أصنافها ومواقعها..

         وقد يكون أوّل محرّم عرفه الإنسان، هو في المجتمع البدائي، بتحريم “زواج الأقارب”، أي حظر العلاقات الجنسيّة بين الأقربين (وهذا له ما يبرّره بيولوجيّا على الأقل!). ليتطوّر لاحقا إلى تحريم “سفاح المحارم وذوي القربي”، والذي صار قانونا شبه كوني. لكن هذا المحرّم خفّ تدريجيّا، مع تلاشي الحظر الجنسي، خاصّة ما تعلّق منه بالممارسات التّوافقية بين الأشخاص.

         لكن مع تشكّل المجتمعات الأولى وظهور السّلطة وتنظيم الدّولة، توسّع مفهوم المحرّم تدريجيّا، فلم يعد يقتصر على ما هو ديني وروحي فقط، بل صار يشمل كلّ ما له اعتبار المقدّس، كالسّياسة وأشكال التّعبير عنها، المخالفة لرأي السّلطة أو ما يتصادم معها. ويبدو ذلك في (الفكر، الخطاب، المدوّنات، التّظاهر، الفنّ بجميع أصنافه، إلخ..). كذلك السّلوك الجنسي بما يخالف ضوابط المجتمع في تعاطيه، التعرّض للقانون ونقد العدالة. كما يشمل ما هو عسكري وتناول أسرار الدّولة وخفايا السّلطة إلخ..

         يختصّ المحرّم أو “الطّابو” وبدافع بعض أشكال التّضييق والمحاصرة لمجال الاشتغال على خصوصياته والتّفكير في مكوّناته، بأنّ بعض علامات التّوقيف والتّرسيم لحدوده، تصبغ العار، الإدانة وحتى تسليط بعض أشكال الرّعب على الشّخص الذي يلامس بفكره دواخل هذا المحرّم، أو يحاول تحليل الظّاهرة أو شرحها. وهذا حتّى يظلّ محافظا على خصوصيته ثابتة مقدّسة، يؤدّي دوره العقائدي الرّوحاني والاجتماعي وحتى السّياسي بحصانة تامّة. بالتّالي، فإنّ المحرّم يمثّل في سياقه، حدّا غير قابل للتّمثيل ولا لجرأة الاقتراب منه. وكذلك حدّا أمام تعديل مكوّناته الدّاخليّة. فملامسته ولو بالفكر أو الكلام، يجسّد الفعل المحظور. إذ يتساوى التّفكير هنا، مع فعل المساس به. كما أنّ الشّيء المحرّم وتَمَثُّله الذّهني، غير منفصلين. وبما أنّهما متّصلان ومتلاصقان، فالمسّ بالفكرة أو الصّورة التي يعكسها الشيّء المحرّم، أو يمثّلهما ذهنيّا، هو مساس بهذا الشّيء ذاته. وهو ما يجعل حتّى البحث حول المحرّم، يعتبر جرما وتدنيسا لحرمته. لتكون خطيئة فعل المساس به والتّفكير فيه سواء، بنفس القدر من العقاب.[i]

         في كتابه “Totem et tabou”، يحدّد “سيغموند فرويد Sigmund freud ” مفهوم المحرّم، على أنّه محظور مقدّس مفروض من طرف المجموعة، على شخص أو شيء ما، يعتبر الاقتراب منه أو المساس به، خطيرا أو مدنّسا. كما أنّ عبارة “طوطم – طابو” تتشعّب في اتّجاهين متعاكسين، من ناحية: مقدّس، خاص، ومن الأخرى: مقلق، خطير، محظور، مدنّس. إذ يقول فرويد:<<عبارتا “رعب مقدّس” تلتقي عادة مع معنى “محرّم- طابو”.[ii]

يضيف فرويد: المحرّم أو الطّوطم يحمي المجموعة من الخطر أو يقيها من المدنّس الذي يمثّله ذلك المحرّم. من خلال وضع فصل صارم الإبعاد وحظر لمس الشّيء أو الشّخص المحرّم والأشياء التي تخصّه. وخاصّة، حظر الحديث حوله أو ذكره.. بالتّالي، فالمحرّم شيء مقدّس من ناحية، مرعب مخيف وكريه من ناحية أخرى، يتمتع بقدرة فصل مطلقة.

         بناء على ذلك، فالمحرّم شيء مقدّس وفي نفس الوقت، محاط بهالة الرّعب.. بالتّالي، هو عامل اتّقاء. لكنّه بالتّوازي، يختزل ضمانا للنّظام الاجتماعي، فهو حام متعال لأعضاء المجموعة التي تجلّه بخضوعها لمحظوره. كما هو المتمثّل الذّهني أو المحسوس الذي يصون الهويّة الجماعية وثقافتها وقيمها، ويضمن استمرار الواقع ببنيته الاجتماعية وهيكلتها دون تغيير.

         ضمن “الحرام والمحظور” ما هو متعلّق بالمخزون الذّهني، ونعثر عليه في الفكر المتمظهر في الخطاب، النّصوص، التّشريعات، قرارات السّلطة السّياسية، وكذلك في قيم المجتمع وتصوّراته، إلخ.. أمّا ما تعلّق منه بالممارسة، فهي تأخذ شكلها في المعيش اليومي، من خلال السّلوك، التصرّفات، القرارات وردّ فعل المجتمع والسّلطة، خاصّة أمام محاولات خرقه.

         فيما يتعلّق بالنّصوص الأدبيّة، خاصّة في القرون الوسطى، امتزج الخطاب مع المحرّم، في رغبة لاختراقه. ففي الرّواية القروسطيّة، كان المحرّم موضوع اختراق مثّله السّرد. بالتّالي، فإنّ النّص الأدبي اعاد بناء الخلل الذي تضمّنته ذهنيّة المنظومة الاجتماعيّة. فكان الجنس من أهمّ المواضيع التي تطرّق إليها المؤرّخون، الفقهاء، مدوّنو السّيرة والأخبار والشّعراء العرب، بحرّية مطلقة. وكان إنتاجهم السّردي ونظمهم الشّعري متداولين بين أوساط النّخبة والعامّة ومتقبّلا اجتماعيّا. لكن في العصور الحديثة وما رافقها من ظهور للتّزمّت المذهبي والتشدّد في قبول الاختلاف، صارت الأحكام قاسية وضاق حيّز التّسامح وحُوصرت حريّة التعبير السّردي والخطاب الأدبي. ليطال حتّى السّابق من التّراث الأدبي التّاريخي الجنسي بالخصوص، وتمّ كبت الحديث بشأنه ومنع تداوله. ولولا الشّجاعة الأدبيّة والفكريّة لبعض المحقّقين والأكادميين المعاصرين، الذين عملوا على إعادة إحياء هذا التّراث، لاندثرت كتابات الأوّلين عن الجنس والإروتيقا وطُمس نهائيّا.

         يعتبر الأدب رائدا في اكتشاف حدود الحياة، الموت، الجنس والأخلاق.. وهو ما كان متّهما به دوما، حينما يحيد عن الضّوابط المرسومة له وحدود القيم المفروضة عليه. وقد تمّ اعتماد الرّقابة والمنع من أجل محاصرة توقه لتمزيق الحجب؛ لذا كان موضوع الجنس واعتبارات اختراق حدود الأخلاق العرفيّة، هما “كابوس” قيم الثّقافة التقليديّة. وما هو سياسي أيضا.

الاختراق والتحرّر من الرّقابة

         في مجال الكتابة الأدبيّة، فإنّ بعض المؤلّفات حقّقت ثورة عميقة في القرن العشرين. فما عادت تعتمد التخفّي وراء الإيحاءات والتّورية، بل تتّجه مباشرة على الهدف في مادّة الجنس خاصّة. فهي لا تستنكف من اعتماد المشهد والفكرة عاريين وتستعمل اللّغة المباشرة. هذا علاوة على الأدب السياسي الذي شهد طفرة هامّة ورواجا واسعا واختراقا للمكبوت الفكري، في نفس القرن..

إنّ تناول الجنس في الأدب هو انتقال إلى بعد آخر من اللّفظ واللّغة والإحساس والذّوق من غير المعتاد؛ لأنّ الصّورة التي يعكسها، تكسر النّمط وتربك المألوف من تردّدات الكلام وموجاته، التي اعتادها الذّهن..

         في قصّته <<رجل محترم جدّا>> من مجموعته القصصيّة التي تحمل نفس العنوان، سعى الكاتب إبراهيم درغوثي إلى تطويع اللّغة، من خلال مزج الخطاب والاستخدام المتكرّر لمستوى اللّهجات في أصنافها المتعدّدة، لتحديد انتماءاتها للشّرائح الاجتماعيّة. حيث يكشف عن التّعدّيات اللّفظية والتّمايزات الجماليّة المبثوثة في نصّه القصصي، من خلال الأصوات المسندة إلى الشّخصيات الهامّة. فمنذ البداية، يلج بنا إلى إطار مكاني متفرّد بديكوره وتشكّله وحركيته وأصواته، تتحكّم به شخوص وعلاقات اجتماعيّة مختلفة عن المعهود، متوتّرة وحتّى عدوانيّة أحيانا، متنابزة في هذا الفضاء، إغرائيّة رخيصة في فضاء آخر محاذ.

         تُعرض مشاهد القصّة، في موضعين مختلفين، لكنّهما متجاوران. وفي كلّ منهما تسوّق بضاعة بخيسة. أصناف من سلعة “فالسو” أي مقلّدة رديئة وكتب قديمة متآكلة، وأشرطة لأغاني هابطة.. وبالمحاذاة منها، يتعرّى لحم بشري رخيص. وكأنّ الكاتب يريد أن يرفع حجاب السّتر عن انحراف التّقدير في هذه البيئة المرويّة، من خلال الاسترخاص لأفضل قيمتين وجوديتين: المعرفة والفن ومن ورائهما العقل الذي أنتجهما، وكذلك الجسد البشري أرقى تشكيل للكينونة. وهو أفظع ما يمكن أن يدركه الاختراق لأرفع مستوى من المحرّمات التي من المفروض أن تكون الأكثر صونا وتحصينا. حتى أنّ النصّ القصصي من خلال هذا التّصوير المشهدي، يبدو لنا، أنّه يسعى إلى إثارة إحساس دراماتيكي لدى المتلقّي، بتبخيس هاتين القيمتين أو لنقل البضاعتين، كتاب يبحث عن مشتر يصونه ويحفظه من مصير كئيب، حتى لا ينتهي محروقا أو أوراقا مبعثرة في مكبّ النّفايات. وجسد متلهّف إلى اصطياد زبون يدفع له، حتى يوفّر ما يقيه من مصير البؤس، خاصّة حينما يذوى ويبور في سوق العرض.. فهذه الشّخصيات التي يستعرضها الكاتب، لا تبحث سوى أنّها تستمرّ بالحياة وتكسب ما يضمن لها البقاء ضمن صراع بشري قاس وغير رحيم..

يقول الكاتب:<<.. لست أدري أيّ شيطان ركب رأسي وقادني إلى سوق “زرقون”. الكتب مازالت كعهدي بها، مكدّسة على قارعة الطّريق…>>. ويعدّدها السّارد، فهي من تأليف: الشّيخ النّفزاوي، عنترة، نجيب محفوظ، كتب صفراء وكتب حمراء تحمل صور لينين، كتب باللّغة العبريّة من بقايا يهود تونس، كتب إيطاليّة ومالطيّة وفرنسيّة، دلائل الخيرات، المنفرجة.. ليجسّدها الكاتب ويحوّلها إلى شخوص ناطقة، فتخاطبه بعد أن تأبّط منها رزمة قد اشتراها:<<شكرا يا رجل! لقد تناسانا الخلق هنا!.. كنّا نموت مرّتين في العام، بردا في الشّتاء وحرّا في الصّيف.>>..

يسلّط الكاتب الضّوء على هذا المجتمع المصغّر المهمّش المنبوذ، ليكشف لنا حقيقة ما يدور في هذه الشّوارع الخلفيّة وهذه الفضاءات المغلقة، من صراع دائم بطرق تختلف عن المألوف، تختزل عدوانيّة غير صريحة، تخفي ما يتعرّض له أصحابها من ضغط الحياة وإحساسهم بالقهر الاجتماعي والاقصاء والنّسيان.

فكان للكاتب أنّ عبّر عن هذا الغبن وقسوة العيش المتنافر مع غيره من المجتمع الآخر، بخطاب مغاير يتحدّى المعهود، يخرق المحرّمات وينحرف بلغته ومقاصده عن محور الكتابات النّمطية وجاذبيّة الثّقافة بالأساليب المتعارف عليها، ليبتدع لنفسه خاصّية من السّرد تصدم المتلقّي، تنبّهه من جهة، وتشدّه إلى النصّ من جهة أخرى.

         وبما أنّ الكتابة لا يمكنها أن تستغني عن أساليب البلاغة وأشكالها، التي من خلالها، يتمّ تضمين الرّسائل وتحميل الأبعاد الأيديولوجيّة بنسقها الفكري والقيمي وغيرها.. لتندمج ضمن منظور ثقافي إبداعي عن طريق اللّغة. فإنّ الخطاب عموما، وما هو مستخدم في قصّة “رجل محترم جدّا”، له سلطة فعليّة لتشكيل اللّغة والصّورة وإعادة بناء المعنى، باستدعائه المتكرّر للأنماط الأسلوبيّة (دراما، هزل، سخريّة، واقعيّة، إلخ..). التي تخلق إرباكا دائما للمعنى الأساسي وتخترق المعتاد من منطوق الكلام. فهذه شخصيات غارقة في واقع يومها الضّاغط، تستعمل عبارة غير مهذّبة وسوقيّة، محورها الفحش والجنس، ممّا يصدم القارئ، لكن يحفّزه على الانطلاق ويوفّر له إرادة التحرّر من لغة الثّقافة المهيمنة المتعالية. هي متعة لفظيّة لمن يطّلع على سرّها وخفاياها وخلفياتها، تخترق المحرّم ومحظور الخطاب، تعطي لشخصياتها القصصيّة، ممّن يشعرون بغبن التّهميش، إحساسا، بأنّهم ينتقمون من الآخر ويأخذون بثأرهم منه. حيث أنّ هذه الفئة من المنبوذين، ليس لها من طريقة أخرى للانتقام من المجتمع الذي ضيّق عليها العيش، سوى أن تمارس عليه عنفها اللّفظي.. “فهي الشّماتة إذن!..”..

بخصوص هذا المفهوم، يقول “ويليام لابوف William Labov”[iii]، وهو عالم لغة أمريكي وأحد مؤسّسي علم اجتماع اللّغة الحديث:<<العبارات البذيئة هي جميلة، لأنّها بالضّبط هي سيّئة. ويعرف مستعملوها بقناعة موثوقة، أنّها تحدث الاشمئزاز والنّفور عند أولائك الّذين يدافعون عن اللّغة الرّاقية وعند انصار الأخلاق الحميدة>>.

يصف الكاتب من خلال الحوار التّالي، مشهد الباعة المتجوّلين، في لجاجتهم وإلحاحهم وبذاءتهم، حيث أنّها لم تتغيّر في هذا السّوق لهجة التّعامل منذ عهده الأوّل به :

<<.. – خذ هذا السّروال بعشرة دنانير يا سيّدي!

– لا أريده.

– خذه بخمسة.

-لا!

– خذه “بلاش”.

– لا!..

– “يلعن بو والديك”..

يقولها ويتركني ليصطاد زبونا آخر>>..

         يقوّض الكاتب عناصر السّرد ويخترق المقاييس المألوفة المتعلّقة بلغة النصّ الأدبيّة. فالتّشابه الصّوتي وتمازج اللّفظ ودلالات معانيه، تجعلنا ندرك أنّ مواضع القصّ وحركيتها، لها إحالات خاصّة، والشّخصيات مشحونة بتعابيرها المتفرّدة المستفزّة. رغم ذلك، فبطل القصّة، يعود إليها بعد اغتراب طويل باحثا عن عبقها المترسّب في نفسه، يحفّزه الأمل بالعودة إلى مكان يعثر فيه على إحساس الماضي، من طمأنينة وراحة بال ونشوة عشق، افتقدها جميعها، في طوايا العمر. هي عودة في الزّمن إلى حضن دافئ كان قد لفّه في الأيّام الخوالي. هذا رغم وعيه بما قطعه من مراحل الحياة، وما يحدثه تواجده في هذه المواضع من اختراق للنّاموس الاجتماعي ومعاييره، الذي ما عاد يسمح له بارتيادها؛ نظرا لما اكتسبه من مكانة اجتماعيّة وحظوة طبقيّة، لها رمزيتها واعتبارها..

يقول الكاتب:

– <<.. وأهرب، فتصدمني روائح البخور والنّدّ وعود القماري، القادمة من هناك.. من شارع سيدي عبدالله قشّ. عشرون سنة مرّت على آخر زيارة لي لهذا الشّارع.. وأنا الآن رجل محترم.. رجل محترم جدّا.. النّساء طوع بناني..>>..

ليضيف: .. “وأرى “صالحة” أمام باب الماخور تهزّ ردفيها وتحرّك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرّحمان..”.. ليفضي إلى القول:.. وأصعد وراءها درجات السلّم واحدة واحدة، وعيناي تنبحان ككلب شرس.. نزعت نظّارتيها وارتمت في أحضاني: – هو أنت يا ابن” الـ…، قلبي قال لي إنّك “أنت” وعقلي قال:”لا!”.. قل هذا الشّحم واللّحم لك وحدك؟ وراحت تدغدغني في بطني السّمينة، وتخنقني بربطة عنقي.. وتضع ربطة عنق حريريّة! يا خنزير!.. ترقّب قليلا حتى آتي بالسكّين..، سأقتطع بعضا من لحم مؤخّرتك لأشويه ولتأكله مع الجعّة.. تضحك وأضحك.. وأضمّها في حضني، فتفتح لي قلبها وتدسّني فيه..”..

وهذا من بعض دلالات تمرّد الخطاب في قصّة “رجل محترم جدّا”، يبرز لنا متحرّرا من نظرة الوسط المتأنّق الذي يعتبر نفسه مرجع الحقيقة الثّقافيّة والأخلاقيّة الثّابتة للقيم الاجتماعيّة..

القيم الجماليّة لخطاب السّرد والحوار

         في خطابه يقوّض الكاتب عناصر السّرد المألوفة ويخترق معايير القصّ على مستويات متعدّدة، انطلاقا من الفضاء الذي له أهميّة طاغية ومتميّزة في القصّة ومن خلال الأصوات والسّلوكيات بتمظهراتها الاستثنائية. فالتّشابه بين لهجة التّعامل عند روّاد زقاق السّوق الشعبيّة ولهجة التّخاطب في الماخور، تحيلنا على دلالة خاصّة، تعرّف بهويّة هذا الوسط وتعاملاته وما يمكن أن يدور فيه. لكن بطل القصّة لا يعبّر عن نفوره ممّا يخترق سمعه من أصوات وعبارات نابية فاحشة وكأنّه ألفها في عهد سابق، وعاد على المكان راغبا في سماع إيقاعاتها؛ لأنّها تستفزّ ذاكرته وتعود بالزّمن إلى الوراء، إلى صورة شبابه، إلى عنفوانه، عذريته الفكريّة وعزّته في النّضال، مقوّمات فقدها بتحوّله إلى معسكر أعلى الهرم الاجتماعي. بعد أن صار:<<رجلا محترما جدّا!!..>>..

هو يبحث في هذا الفضاء، بخاصّياته الهامشيّة ومميّزاته المتصادمة مع العرف الاجتماعي السّائد، عن إحساس مفقود ونخوة ضائعة ونقاوة قيميّة تلاشت في طيّات الوقت. هو يبحث عمّا يعيد إليه سكينته الرّوحيّة، وفي نفسه أمنيّة لو يستطيع فسخ سنين العمر وطمس تجربته الحياتيّة والعودة إلى مجد أيّام الأمس..

يقول البطل عن حاضره والحال التي صار عليها، بعد أن كان طالبا يشارك مع الرّفاق في المظاهرات ويصطدم مع البوليس ويتلّقى ضربهم بالهراوات إلى حدّ الإدماء:<<..أنا “الآن” ألبس ربطات العنق الحريريّة والبدلات الباريسيّة وأتعطّر كالمومس وأجلس في الكرسيّ الخلفيّ في السيّارة المرسيدس. أجلس وراء السّائق الذي ينزل دائما قبلي ليفتح لي الباب ويحمل عنّي الحقيبة. أمام باب الإدارة تستقبلني الابتسامات الكاذبة.. ويبوس رؤساء الأقسام أرجلي ويمشي السّعاة كالحجل أمامي وخلفي..>>.. وهو خطاب يخرق المحرّم من اعتبارات موقعه الأرستقراطي ومقامه الاجتماعي!

         على مستوى البناء القصصي، تخلُّص الكاتب من الشّكل الكلاسيكي واضح وظاهر من خلال عدم قصره لكتابته القصصيّة على مجرّد شهادة حول الأحداث وحركيّة المكان. بل هو يورّط بطله بالمشاركة فيها، بما في ذلك، هتكه للمحظور الأخلاقي الاجتماعي. خاصّة بفعل الإطاحة بهالة انتمائه الطّبقي، إذ هو “رجل محترم جدّا”. وبذلك هدم سور الفصل بين مواقع الشّرائح الاجتماعيّة. وهو خرق آخر للمتعارف عليه من سلوكيات واعتبارات ثقافيّة وقيميّة سائدة، وتجرّؤ على المحرّم من النّواميس المترسّخة وحتى على ما يعتبر حقيقة مطلقة؛ ليتجرّأ على الانهماك في المحظور الأخلاقي..

         اعتمد الكاتب في قصّته، مبدأ التّضمين. وحتى ينجو من السّقوط في لزوميات الرّواية، حيث إنّ تركيبة قصّته وبزخم مكوّناتها السّردية والحواريّة، كان لها أن تتحوّل إلى رواية مكتملة الأركان. فقد لجأ إبراهيم إلى التّضمين القصصي وقطع استطراد الحدث والاقتضاب في الإحالة على الماضي، لتستوعب القصّة تفرّعات حكائيّة متعدّدة ضمن السّرد، من دون أن يشعر المتلقّي، أنّ الكاتب أخرجه من إيقاع حاضرها وتتابع أحداثها، وزجّ به في بوتقة الماضي ومجال التذكّر.

         ضمن الإطار السّردي، وبطريقة ترميز خاصّة، اعتمد الكاتب سياقا متفرّدا، لتوجيه ذهن القارئ في مسار إرباكه، بإحداث الفجوة بين ما هو منتظر من تطوّر في السّير العادي لأحداث القصّة، بأن يعقبها بانحراف مباغت للحدث، غير متوقّع. وإن سعى دوما، إلى خلق انصهار بين وعيه الخاصّ وإدراك القارئ للمعنى المقصود. وقد اعتمد هذا الأسلوب في مواضع عدّة من خطابه القصصي.. ففي الصّفحة العاشرة، بعدما كان الكاتب يجول بنا في سوق شعبيّة بخصوصيتها المتفرّدة، من مشهد للبيع والشّراء والمساومات وما يعتمده الباعة المتجوّلون بالخصوص، من طرق للنّصب ومحاولات الاحتيال على الزبائن، لينتقل بنا بصورة فجائية، إلى مشهد مغاير تماما، وإن ظلّت حالة العرض لها نفس غاية ترويج السّلعة، لكن من نوع مختلف هذه المرّة، حيث يورد السّارد:<<..وأقول إنّني لا أملك نقودا، فيكاد يفتّش داخل جيوبي وأحمد الرّبّ لأنّه قبض على زبون آخر>> ليباغتنا بتحوّل في المشهد قائلا:<< ..وأهرب فتصدمني روائح البخور والندّ والحنّة وعود القماري، القادمة من هناك. من شارع “سيدي عبد الله قش”. عشرون سنة مرّت على آخر زيارة لي لهذا الشّارع.. وأنا الآن رجل محترم، رجل محترم جدّا.. النّساء طوع بناني..>>.. إلى أن يذكر:<<.. وأرى “الصّالحة” أمام باب الماخور تهزّ أردافها وتحرّك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرّحمان>>. وهذه ليست الحالة الفريدة التي أوردها الكاتب في الانثناء نحو مشهد مغاير والتعرّج بالسّرد نحو مسار الحدث الجديد. بل هي تقنية سرديّة اعتمدها في عديد مواضع القصّ..   

الإشباع الموضوعي وتفكّك القصّ:

         ينحصر الإطار السّردي لنصّ إبراهيم درغوثي في حيّز جغرافي محدّد، الفضاء المغلق والمهمّش من المدينة، ينشط فيه المنبوذون وتمارس فيه الرّذيلة. هو وسط قذر بالمفهوم الثّقافي السّائد، يمثّل نمط العيش المسكوت عنه.. تتحرّك فيه كائنات مغتربة ومنفيّة اجتماعيا، مدفوعة إلى الزّوايا المظلمة ومحصورة في المجال القصيّ للتّوزيع الجغرافي الاجتماعي. وفقط، جاء النصّ الأدبي، بما له من قدرة إنتاج شعريّة ضمنيّة وصريحة أيضا، ليفجّر هذا المسكوت عنه؛ باقتحام موطن المدنّس واختراق المحظور، من خلال وصف المشهد الفاضح وإفساح المجال لأصوات اللّغة المتمرّدة على المألوف. وهو ما يعكس أسلوب الصّدمة للمتلقّي الذي اعتمده الكاتب. إذ المشهد عار والعبارة فاجرة داعرة. ما جعل النصّ يمزّق الحجب ليبرز الحقيقة متجرّدة تكشف عن أصواتها، تضاريسها ونتوءاتها وعن فجوات الثّقافي اللّغوي والسّلوكي في التّركيبة الاجتماعيّة. وبذلك يتفكّك عن معنى الخطاب المعهود والمقصود من الكتابة التّقليديّة. وهكذا اتّسمت اللّغة في نصّ الكاتب، من خلال رصدها للمشهد ونقلها للعبارة، بدلالات الفضاء، حتّى يكاد يخيّل للمتلقّي أنّ هذا الفضاء قد تحوّل إلى الشّخصية الرّئيسية للقصّة. كما ابتدع الكاتب شفرة أدبيّة خاصّة به، عبر كتابة جديدة ظاهريّة وضمنيّة، تعبّر في لغة جديدة أيضا، تخرق المحظور وتعرّي المسكوت عنه وتتجاوز حساسيته وتتجاسر على المقدّس الاجتماعي؛ من خلال الكشف عن عيش الحضيض ومعاناة شريحة المهمّشين الذين لفظهم المجتمع بعنف وقسوة.

كما أنّ إطار الحكي في قصّة “رجل محترم جدّا”، صار هو المتحكّم من خلال خصائصه، في فعل الشّخوص، تحرّكاتهم، تصرّفاتهم وتعابيرهم اللّفظية. بمن فيهم بطل القصّة نفسه. فهي إذن هيمنة المكان في الخطاب الأدبي، من خلال تقديمه كفضاء للأحداث بوظيفة مزدوجة؛ بإضفاء حيويّة على الكتابة وفي نفس الوقت، إعطاء معنى ودلالة مقصودة للحياة داخله. وهكذا تحوّل من فضاء اجتماعي إلى آخر أدبي، وكأنّ الكاتب أراد أن يحرّره من تسلّط الخطاب الاجتماعي في تصنيفه والحكم عليه، ليحوّله إلى أفق للكتابة القصصيّة لا يختلف في شيء عن أيّ فضاء آخر، مهما كانت طهارة وقدسية هذا الآخر. وهو ما يعدّ اختراقا من طرف الكاتب للحصانة الاجتماعيّة للفضاء، موازيا بين اعتبارات تقديسه وتدنيسه، فيعادل بين كافّة الفضاءات ويبيّن أنّ استحقاقاتها متساوية في الكتابة الأدبيّة.

         وهكذا، لم يكن الفضاء القصصي، في “رجل محترم جدّا”، يمثّل مجرّد ديكور لاحتواء مشهد السّرد، بل عنصر يعكس أفكارا ومقاصد مبتدعة. وفي هذه الحال، هو يمثّل النّظرة التي يحملها الكاتب حول مجتمعه، بالإدانة الضّمنيّة له، من خلال تسليط الضّوء على جوانب من خفاياه، وكذلك فضح من تخاذلوا وتخلّوا عن طموحاتهم الثّوريّة، ليورد في حوار يدور بين بطله وعشيقته المومس:

– <<.. قالت:” أمازلت تؤمن بإغلاق دور البغاء وتشغيل العاملات فيها في المصانع والمعامل التي ستحدثها الثّورة؟!”..

قلت:” لقد أفسدتني السّياسة يا “صالحة”! بالله عليك لا تحيي هذا الجرحَ المندمل!

قالت:” عشرون سنة ونحن نرقب اليوم الذي وعدتنا فيه بتحرير أجسادنا من منيّ الرّجال السّكارى والمرضى والمنبوذين!”..

تذكّرت الأيّام التي كنت أحكي لها فيها عن ثوّار الفيت كونغ وطلاّب باريس والثّورة الثّقافية في الصّين”..

“حينها” كانت تضحك وتقول: أنا لا أفهم عنك شيئا يا صاحبي!”..

فأقول لها:” ستفهمين بعد التّحرير يا “صالحة”…

خلاصة:      

         الاختراق بكافّة أشكاله، في هذا النصّ، خاصّة ما تعلّق منه بفضح المعنى، كسر الجمود اللّغوي، عدم احترام قواعد النّقاوة اللّغوية المألوفة، تتوافق كلّها مع التّشكيك المعاصر في جدوى معني الضّوابط الأدبيّة وتركيبة الثّقافة الواحدة التي تأبى الجدال والتّنوّع أو المسّ من تقاليدها. ولعلّ الكاتب يرمز من خلال قصّته، إلى إحالتنا على النّصوص القديمة في الأدب العربي، من شعر وحكاية وأدب مروي وتعليمي، وقد ألمح في عرضه السّردي إلى ذلك، حينما أشار إلى كتاب الشّيخ النّفزاوي: “الرّوض العاطر في نزهة الخاطر”. ليبيّن لنا، أنّه ما عاد هنالك مرجع واحد للغة الأدب، ولا مقياس أو معيار ثقافي وحيد، يجب الالتزام به كشرط للكتابة. هنا الخطاب يهزّ صورة ثوابت لغة الأدب، ليعلن أنّه ما عاد مرتكز فريد لثقافة المجتمع، بل لابدّ من اعتماد خاصيّة التنوّع التي صار يفرضها العصر، في مواجهة النّمط الواحد والتصوّر الواحد. فلابدّ من خرق الحصار الثّقافي في جميع أبعاده، سواء منها الماضويّة أم ذات الهيمنة الكونيّة..

spot_imgspot_img