spot_img

ذات صلة

جمع

خواطر حول “ديسمبر”..

شاهين السّافي في ديسمبر لا يقف المرء أمام شهر يعلن...

” إشراقات الوجد” للشاعر تهامي الجوادي: …الكتابة بطعم القيروان وعطرها

بقلم: رياض خليف نشأ تهامي الجوادي في ذلك المناخ الذي...

أشرف أبو اليزيد: الإنسان خارج وطنه يعيد اكتشاف ذاته

حاوره: طارق العمراوي، كاتب وناقد من تونس كيف تقدمون الروائي...

توفيق الجبالي مسرحي “لا ينسي ولم يسأَم”

الكاتب: حسني عبد الرحيم الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيمعندما نتحدث...

ما الجامعة: كتاب للأستاذ محمّد الحدّاد نشأة العلم والتعلّم وآفاقه

سعدية بنسالم أصدر المعهد العالي للغات بتونس، كتابا للأستاذ محمّد...

ما الجامعة: كتاب للأستاذ محمّد الحدّاد نشأة العلم والتعلّم وآفاقه

سعدية بنسالم

أصدر المعهد العالي للغات بتونس، كتابا للأستاذ محمّد الحداد، اختار له من العناوين، ما الجامعة؟، وما الجامعة، كان عنوانا لدرس افتتاحيّ ألقاه الأستاذ الحدّاد في رحاب المعهد العالي للغات في مفتتح السنة الجامعيّة 2024-2025، ولم يكن التفكير في السؤال وليد لحظته، بل كان يلحّ على صاحبه منذ زمن، لم تزد اللقاءات الخاصّة بالتفكير في واقع الجامعة التونسية ومستقبلها والندوات العلميّة إلاّ ترسيخا له، وهو ما أكّده في قوله في مفتتح الكتاب: ” لقد تشرّفت قبل عامين وتحديدا سنة 2022، بإلقاء المحاضرة الافتتاحية لندوة عقدت في المعهد العالي للغات بتونس، وكان موضوعها “الجامعة والتشغيليّة”، وقد اخترت آنذاك أن يكون موضوع محاضرتي “نموذج الجامعة التونسيّة” وكانت فرصة للانتقال بسؤال “ما الجامعة؟” من بعده الذاتي الشّخصي (سؤال الماهية)، إلى سؤال موضوعي مطروح للبحث” [ما الجامعة: 5]

يذكّر الكاتب بالتوجهات الكبرى في دراسة ماهية الجامعة ويعلن عن منهجه الذي يعتمده في هذه الدراسة، فأمّا في مستوى التوجهات الكبرى في دراسة ماهية الجامعة، ذكّر الأستاذ حدّاد بتوجّهين رئيسيّين وهما: توجّه يعتبر والجامعة جزءا من النظام التعليمي العام الذي تتالى مرحلتاه تزامنا مع سنّ المتعلّم، مشيرا إلى غياب المرحلة الوسطى، التي توافق المرحلتين الإعدادية والثانوية، في النظام الحالي للتعلّم، ويشير الأستاذ الحدّاد إلى أنّ هذا التوجّه هو الغالب وهو توجّه متى تساءلنا ضمنه عن ماهية الجامعة، وجدناها مرحلة تاريخية من تاريخ النظم التعليمية لا غير. وأمّا في التوجّه الثاني، وهو أقل انتشارا، فيرى في الجامعة ظاهرة خصوصيّة، يقول: “الصّنف الثّاني، وهو أقلّ انتشارا، ينطلق من اعتبار الجامعة ظاهرة ذات خصوصيّة. وهنا يُطرح السّؤال: فيمَ تتمثّل هذه الخصوصيّة؟ هذا السّؤال يفتح الطّريق إلى الإجابة عن سؤالنا: ما الجامعة؟ فهذا السّؤال لا معنى له إلاّ إذا اعتبرنا أنّ للجامعة خصوصيّة قابلة للتّحديد” [ما الجامعة: 7]

في العنوان الأوّل، ينطلق الأستاذ الحدّاد من مصادرة يبني عليها رؤيته، وتقول المصادرة انّ الإنسان حيوان متعلّم، وبناء على هذا القول يخلص إلى “أنّ ما يطلق عليه الحضارة بدأ عندما أصبح الإنسان يتمتّع بالقابليّة لنقل المعلومة بطريقة سلسة” [ما الجامعة: 8].

تتبّع الكاتب تاريخ نقل المعلومة بدءا من العصر الحجري الحديث، قبل 10000 سنة، ويعيد الفضل في “التعليم” على الإنسان البدائي الذي ينحدر منه جميع البشر نافيا بذلك أن يكون للغرب أو الشرق السبق في “خلق” التعليم، في حين أنّ سبق الشّرق في إرساء الحضارات الكبرى لا يمكن أن ينكر. ومن حضارة بلاد الرّافدين إلى الحضارة الفرعونية والحضارة الإغريقية والرومانية الحضارة الهندية القديمة ووصولا إلى الحضارة العربية الإسلامية استمرّت البشريّة في البحث في البحث عن سبل الخروج من الظلمة إلى النور ومرّت بأطوار تعليمية مختلفة لعلّ من أبرزها مرحلة الأسرار أو ما أطلق عليه الكاتب الطابع الأسراري للتّعليم والذي كان خاصّا بالحضارات الأولى التي يتمتع فيها الكهنة بمرتبة عليا تجعلهم يحتكرون المعرفة التي لا تمرّ إلاّ عبرهم. يقول: “كان الكهنة وحدهم القادرين على الكتابة وعلى نقل المعلومة بما فيها من المعلومة “الدنيوية” مثل تحديد مساحات أراضي الفلاحين، وهم من يتولون إعداد المترشحين الجدد للكهانة” [ما الجامعة: 11]، وتعرّض الكاتب إلى تجربة الحضارة الصينية التي اعتبرها تجربة تخرج عن الطابع الأسراري لتمثّل “الغيرية” الحقيقيّة في نقل المعرفة.

ولئن لا يتعلّق هذا العنوان الأول بالجامعة في ذاتها فإنّه يؤطّر المسألة التعليمية منذ نشاتها ويبين اتجاهاتها، تعليم الأسرار المتعلّقة بالقطب، ونقل المعرفة باعتبارها ملكا مشاعا للجميع، ومن ناحية أخرى وباعتبارها، تعليما خاصّا بالخاصّة وتعليما خاصّا بالعموم. وأكد الأستاذ الحدّاد على هدفه من هذا العرض فقال: “سعيت إلى التنبيه على خطأين شائعين: الأول يعتبر أنّ التعليم الحديث نشأ مع اليونان في مقابلة مع التعليم الشّرقي الأسراري الدّيني، والثاني يعتبر أنّ التعليم الديني هو الذي كان سائدا قديما، بينما لم يظهر التعليم غير الدّيني إلاّ في العصر الحديث. هذان الخطآن الشّائعان هما من نتائج النّظرة المركزيّة الغربيّة التي اسقطت الوضع الأوروبي على التاريخ البشري كلّه” [ما الجامعة؟: 16]

خصّ الكاتب العنوان الثاني في هذا العمل بـ: كيف نحدّد ماهية الجامعة؟ وبعد الإطار التاريخي والخطّ الزمني، تفرّغ الأستاذ حدّاد إلى تحديد الماهية بالبحث في خصوصيّة التعليم الجامعي. ولقد توقف عند عدد من المراجع التي اعتنت بتبيّن مظاهر الاختلاف بين التعليم في الجامعة وبقية النظم التعليميّة، وذكر بدءا  دراسة هاستينغ راشدال “الجامعات الأوربية في العصر الحديث” ثمّ توقف عند غرامشي ومفهوم المثقف العضوي الذي انتهى إليه في تجربته السجنية ضدّ الفاشية، هذا إضافة إلى مؤلف جاك لوغوف “المثقفون في العصر الوسيط” (1957)، وبعرف الأستاذ الحداد منهج لوغوف الذي لبث كتابه مرجعا وازنا على امتداد أكثر من ثلاثة عقود فقال: “لقد طبّق لوغوف أحد المناهج المشهورة لمدرسة الحوليات، منهج التاريخ الاجتماعي، فحدّد نشأة الجامعات الغربية بنشأة “جامعة مهنيّة” متميّزة” [ما الجامعة: 19].

أشار لوغوف إلى التأثير العربي الإسلامي في نشأة الجامعات الأوربية الحديثة، وهو ما شاركه فيه “دو ليبيرا”، صاحب “كتاب التفكير في العصر الوسيط”، واعتبر الأستاذ الحدّاد أنّ هذا العمل رغم نقده لكتاب لوغوف فإنه يعتبر تكملة له و”قد اعتبر هذا التأثير (التأثير العربي الإسلامي) العامل الأهمّ غي تفسير هذه النشأة ووضع عنوانا لأخد فصول كتابه: “التراث المنسي” ويقصد به التراث العربي الذي نقل إلى اللاتينيّة ابتداء من القرن الثاني عشر.” [ما الجامعة: 20].

ختم الأستاذ الحدّاد المراجع التي تناولها بالنظر بكتاب الأمريكي جورج مقدسي “صعود الكليات: مؤسسات التعليم في الإسلام والغرب” والذي يعيد فيه صاحبه فكرة الجامعات الأوربية الأولى منقولة عن الجامعات في العالم الإسلامي، وهو ما اعتبره البعض مبالغة منه. في العنوان الثالث، اختار الأستاذ الحداد أن يتحدّث عن ما قام مقام الجامعة في الحضارة العربيّة، وبدأ حديثه بالقول إنّ “العلاقة بين الحضارة العربية الإسلاميّة ونشأة الجامعة من القضايا الشائكة المطروحة أمام الباحثين” [ما الجامعة: 21]

ترسّم الأستاذ الحداد خطى التعليم في الحضارة الإسلاميّة وفي المسيحيّة، مبينا وجه التماثل، في ما يتعلق بالتعليم الديني خاصّة. فما قامت به جوامع مثل جامع عقبة والزيتونة والقرويين والأزهر، والكاتدرائيات، بل عاد الباحث إلى ما سبق المسيحيّة سواء في زمن الإمبراطورية الرومانية أو القرطاجية أو غيرها من الحضارات التي أولت أهمية للتعليم وخصصت فضاءات “أكاديمية” لتدريس البلاغة وشتى أصناف الفنون، قبل أن تستولي المباحث الدينية عن الفضاء التعليمي.

توسّع الفضاء التعليمي وتنوع في الحضارة العربية، ومن الجوامع إلى مجالس الأمراء والولاّة، إلى بيوت شيوخ العلم إلى البيماريستانات إلى خزائن الكتب التي توازي المكتبات اليوم. وتنوّعت أشكال الدروس، من الدين إلى الفلسفة إلى البلاغة إلى الطبّ إلى علوم الإدارة… وهو تنوّع يرى فيه الأستاذ الحداد نواة لما نشهده اليوم من فضاءات تدريس ومن أنماط تدريس أيضا، يقول: “تعدّ المناظرات من أبرز أنشطة هذه المجالس. كان هذا النشاط محوريّا وأساسيا وإليه يرجع تقليدنا الجامعي اليوم المتمثّل في مناقشة الأطروحات العلميّة علنا” [ما الجامعة: 25].

اعتنى الأستاذ الحدّاد بجدلية التمويل والاستقلاليّة، ولاحظ التشابه بين التمويل قديما والتمويل اليوم، “لقد وجد ما يقابل التمويل العمومي اليوم”، والملاحظة الأبرز هي وجود علاقات مالية مختلفة غي علاقة بالتعليم، فالمعلم قد يتقاضى أجرا وقد يخصّص هو أجرا لطلبته ليتفرغوا للعلم، ويشير الباحث إلى أنّ أبرز طريقة تمويلية وأجداها، هي نظام الأوقاف، لكنّه نظام تحوّل مع الوقت إلى عائق للتعلّم بعد أن استفرغ من محتواه و”تحوّل تدريجيا إلى سلوك دينيّ غايته تحصيل الثواب وضمان الدخول إلى الجنّة.. وترتب على نظام الوقف، تضخّم كبير في التعليم الديني وانحسار تامّ للعلوم غير الدّينيّة” [ما الجامعة: 38]

خصّ الأستاذ الحدّاد العنوان الخامس لنظام الإجازة، وهو نظام يمنح السلطة إلى العلماء وحدهم، لا يشاركهم في ذلك حاكم أو صاحب نفوذ، ويرجح الأستاذ حدّاد أن تكون الحضارة العربيّة هي أوّل من اعتمد نظام الإجازة، فطالب العلم لا يجلس للتدريس مثلا إلاّ إذا أجاز علمه عدد من علماء عصره. ويرى الكاتب أنّ هذا النظام سيكون نواة الجامعة في العصر الحديث.

يثير الأستاذ حدّاد في عنوانه السادس مسألة أقدم جامعة في العالم، ويؤكد وجود فرق جوهريّ بين الجامع والجامعة، يقول: “إنّ الجامع والجامعة ليسا شيئا واحدا، فلا يجوز القول إنّ تاريخ الجامعة في العالم الإسلامي هو تاريخ إنشاء الجوامع: جامع عقبة بن نافع في القيروان أو جامع الزيتونة في تونس أو جامع القرويين في فاس أو جامع الأزهر بالقاهرة، بل ينبغي أن ندقّق ونسأل: متى تأسّس هذا الجامع أو ذاك للعبادة؟ ومتى أصبح فضاء للتعليم؟ وما هو صنف التعليم الذي كان يقدّمه؟ وهذه أسئلة ثلاثة مختلفة عن بعضها البعض” [ما الجامعة: 41].

تساءل الأستاذ الحدّاد في العنوان السّابع إن كانت الجامعة من إبداعات الحضارة العربيّة الإسلاميّة. ونخلص إلى أنّ وجود ذاك النظام التعليمي القائم على فضاءات متنوعة، المسجد، والمجلس، والمكتبة، قادر أن يكون نواة للجامعة اليوم ولكنه ليس النواة الوحيدة، فقد سبق بتجارب شبيهة ومختلفة أدّت معا إلى هذا النظام الحالي.

في العنوان الثامن، ينظر الأستاذ الحدّاد في ما قام مقام الجامعة في الغرب، وبدأ بالإشارة إلى إصلاحات شارلمان، المعاصر لهارون الرشيد، والتي تهدف إلى تعليم بعض الشبان القراءة والكتابة.

وتتبع الباحث بعد ذلك نشأة الجامعة الأوربية مبينا فضل الحضارة الهربية الإسلامية عليها، وسبقها في مجال العلوم والفلسفة، حتى أنّ أبيلار حين وضع كتابه سماه حوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي” جاعلا المسلم هو الفيلسوف “ما يؤكّد أنّ صورة الإسلام وصورة الفلسفة كانتا متداخلتين في تلك المرحلة” [ما الجامعة: 57].

بوصوله إلى العنوان التاسع، يصل الأستاذ الحدّاد إلى الجامعة والعصر الحديث، ليبين نتيجة الخصومة بين أساتذة الفنون وأساتذة اللاهوت والتي أدت إلى إرساء جامعة للمعرفة عموما، ويقارن الأستاذ الحدّاد بين تقسيم العلوم في الغرب إلى فنون ولاهوت وتقسيمها في الحضارة العربية الإسلاميّة إلى علوم مقاصد وعلوم وسائل بقيت تحت سلطة الدّين. ويقول الأستاذ الحدّاد في هذا الشّأن: “وهذا هو السّبب الحقيقي والعميق الذي منع تحوّل النشاط العلمي لبثريّ في الحضارة الإسلاميّة إلى مؤسسات حديثة للمعرفة. وما عدا ذلك من الأسباب لا يعدو أن يكون ثانويا أو ظرفيّا” [ما الجامعة: 66].

عرض الأستاذ الحدّاد، نموذجان للجامعات في الغرب، النموذج الفرنسي، المتربط بالدولة، والنموذج الانجلوسكسوني وهو نموذج غير مركزي. وأكد أن نشأة الجامعة العربية الحديثة كانت بتأثير من هذين الاتجاهين. واستعرض الكاتب العوامل المؤثرة في نشأة الجامعة العربية الحديثة والتي كانت بتأثر مباشر بالجامعة الغربية بطرحيها.

يخصّص الأستاذ محمّد حدّاد، العنوان الأخير إلى خلاصات وآفاق على سبيل الخاتمة، ولعلّ من أبرز ما ورد في هذا العنوا ذلك التأكيد على أنّ قيام رؤية علمية للعالم إلاّ بالتفاعل بين العلوم، وأنّ الفصل الحاد بين الآداب والعلوم من جهة والفصل الحاد بين التخصصات في المجال الواحد أحيانا تمثل عائقا أمام قيام تلك الرؤية العلمية للعالم.

ختم الأستاذ حدّاد كتابة بقائمة محترمة من المصادر والمراجع، مي يؤكّد الجهد المبذول في الحفر عن تاريخ التعليم والتعلّم ومحاولة الخروج برؤية مستقبليّة تراعي العلم وتحرص على التكامل بين العلوم.

spot_imgspot_img