ترجمة المنتصر الحملي
(في مواجهة أولئك الّذين يريدون الفصل بين الفلسطينيين الأخيار والأشرار الّذين يقاومون الاحتلال والاعتداءات، تكتب جودي دين، الأكاديميّة والمفكّرة اليساريّة الأمريكيّة، للدّفاع عن الانعتاق العالميّ الرّاديكاليّ الّذي تجسّده القضيّة الفلسطينيّة.
ومنذ نشر هذا المقال في نسخته الأوّليّة، أُدينت جودي دين على الملأ من قبل رئيس المؤسّسة الّتي تدرّس فيها و»أُعفيت من مهامّها الأكاديميّة». إنّ هذا الانتهاك الصّارخ للحرّيّات الأكاديميّة الأساسيّة هو مجرّد مثال من أمثلة كثيرة على الجهود الأوسع نطاقا والمستمرّة لقمع التّعبيرات التّضامنيّة مع نضال التّحرير الفلسطينيّ الّتي جرت في الكلّيات والجامعات، في الولايات المتّحدة وبلدان أخرى.)
كانت الصّور الّتي التُقطت في 7 أكتوبر، والّتي أظهرت طيّارين مظلّيين يفلتون من الدّفاعات الجوّيّة الإسرائيليّة، سارّة بالنّسبة إلى الكثيرين منّا. كانت تلك لحظاتِ حرّيّة فاقت التوقّعات الصّهيونيّة بالخضوع للاحتلال والحصار. لقد شهدنا أعمالا من الشّجاعة والتّحدّي كانت تبدو قبل ذلك الحين مستحيلة، ولكنّنا كنّا نعرف على وجه اليقين الدّمار الّذي سيترتّب على ذلك (فليس سرّا أنّ إسرائيل تشنّ حربا غير متكافئة وتردّ بقوّة غير متناسبة). من منّا لا يشعر بالحيويّة تسري فيه عندما يراقب المضطهَدين يهدّمون الأسوار من حولهم بالجرّافات، ويحلّقون بعيدا ليهربوا ويطيروا بحرّيّة في الهواء؟ لقد خلق انطلاقُ الإحساس الجماعيّ بالممكن انطباعا بأنّ الجميع يمكن أن يكونوا أحرارا، وأنّ الإمبرياليّة والاحتلال والقمع يمكن، الإطاحة بهم، بل سيتمّ يقينا الإطاحة بهم. وكما كتبت المناضلة الفلسطينيّة ليلى خالد عن عمليّة اختطاف طائرة ناجحة في مذكراتها «شعبي سيحيا»، «كلّما كان العمل أكثر إثارة، أضحت معنويّات شعبنا أفضل». فمثل هذه العمليّات تحطّم التّوقّعات وتخلق إحساسا جديدا بالممكن، لأنّها تحرّر النّاس من اليأس والقنوط.
عندما نرى مثل هذه الأعمال، يشعر الكثير منّا أيضا بهذا الشّعور بالانفتاح. تكشف استجابتنا لها عن تأثير الذّات الّذي تثيره فينا العمليّات: لقد تغيّر شيء ما في العالم لأنّ هناك ذاتا قد سجّلت فجوة في المعطى. حين ننطلق من فكرة لآلان باديو، نرى أنّ الفعل قد تسبّبت فيه ذات، ومن ثمّة فهو يُنتِج هذه الذّات بوصفها أثرا رجعيّا للفعل الّذي تسبّبت فيه. تحاول الإمبرياليّة قمع هذه المشاعر قبل أن تنتشر بعيدا، فتدينها وتعتبرها مشاعر محظورة.
إنّ صور الفلسطينيين الّتي نراها في سياقاتنا الإمبرياليّة هي بشكل عامّ صور الدّمار والحداد والموت. فإنسانيّة الفلسطينيين مشروطة بمعاناتهم، بما فقدوه، بما يكابدونه. يكسب الفلسطينيون التّعاطف ولكنّهم لا يحصلون على الانعتاق؛ فالانعتاق سوف يفترس التّعاطف. صورةُ الضّحية هذه تنتج الفلسطينيّ «الخيّر» بصفته مدنيّا، بل والأفضل من ذلك بصفته طفلا أو امرأة أو شيخا. أمّا أولئك الّذين يقاومون، خصوصا ضمن الجماعات المنظّمة، فهم أشرار: هم العدوّ المتوحّش الّذي لا بدّ من القضاء عليه. ولكن مع ذلك فإنّ الجميع مستهدَفون. ولذلك فإنّ خطأ استهداف الفلسطينيين «الأخيار» محمول دائما على «الأشرار»، وهو مبرّر إضافيّ للقضاء عليهم: فكلّ سنتيمتر مربّع من غزّة يوفّر مخبأ للإرهابيين. وهكذا فإنّ شرطة العواطف تستبعد تماما إمكانيّة وجود فلسطينيّ حرّ.
يمثّل النّفوذ البوليسيّ جزءا من النّضال السّياسيّ. فكلّ ما من شأنه أن يوقظ الشّعور بأنّ المظلومين سيتحرّرون، وأنّ الاحتلال والحصار سينتهيان، يجب القضاء عليه في المهد. لقد اختزل الإمبرياليون والصّهاينة يوم 7 أكتوبر إلى قائمة من الفظائع ليس فقط بقصد إخفاء تاريخ الاستعمار والاحتلال والحصار وواقعهم، ولكن أيضا من أجل الحيلولة دون أن تُنتج فجوةُ الاضطراب الذّات الّتي أحدثتها.
بدأت الانتفاضة الأولى لعام 1987 مع «ليلة الطّائرات الشّراعيّة». ففي 25 و26 نوفمبر من تلك السّنة، هبط فدائيّان فلسطينيّان ينتميان إلى الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامة – في الأراضي الّتي تحتلّها إسرائيل. وقد قُتِل كلاهما. ولكن قبل ذلك، قَتل أحدُهما ستّةَ جنود إسرائيليين وأصاب سبعة آخرين. فيما بعد، أصبح المقاتلان بطلين قوميين وكتب سكّان غزّة «6: 1» على جدران منازلهم ساخرين من قوات جيش الدّفاع الإسرائيليّ. حتّى ياسر عرفات، رئيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، أشاد بالمقاتليْن قائلا: «لقد أظهر الهجوم أنّه ما من حاجز وما من عقبة يمكن أن يقف أمام مقاتل قرّر الاستشهاد». لا شيء يمكن أن يعيقهم أو يمنعهم إذا كانت لديهم إرادة التّحرّر. لقد أحيت ليلة الطّائرات الشّراعيّة الطّاقات العاطفيّة للثّورة الفلسطينيّة الّتي أعقبت الهزيمة العربيّة في جوان 1967، وحفّزت نموّ الحركة الفدائيّة بعد معركة الكرامة في شهر مارس 1968. بعد ليلة الطّائرات الشّراعيّة وفي خضمّ الانتفاضة الأولى، كانت استعادة الفلسطينيّ لفلسطينيّته تعني التّمرد والمقاومة بدلا من الإذعان لمواطَنة من الدّرجة الثّانية ولوضع اللاّجئ.
في عام 2018، خلال مسيرة العودة الكبرى، استخدم سكّان غزّة الطّائرات الورقيّة والبالونات لمراوغة الدّفاعات الجوّيّة الإسرائيليّة وإشعال حرائق داخل الأراضي الإسرائيليّة. وكان من الواضح أنّ الشباب الفلسطينيّ هو من بدأ بإطلاق الطّائرات الورقيّة النّاريّة. وفي وقت لاحق، انخرطت حماس في هذه العمليّة عن طريق إنشاء وحدة الزّواري المتخصّصة في تصنيع الطّائرات الورقيّة والبالونات الحارقة وإطلاقها. وقد ساهمت الطّائرات الورقية والبالونات في رفع الرّوح المعنويّة في غزّة، بينما أضرّت بالاقتصاد الإسرائيليّ وأثارت غضب الإسرائيليين الّذين يعيشون بالقرب من حدود غزّة. ردّا على تصريحات صحفيّ إيطاليّ حول «السّلاح الأيقونيّ الجديد» الّذي كان «يدفع إسرائيل إلى حافة الجنون»، أوضح زعيم حماس يحيى السّنوار أنّ: «الطّائرات الورقيّة ليست سلاحا. فأكثر ما أنجزته هو إشعال النّار في بعض القشّ. ويكفي طفّاية حريق لإخمادها. إنّها ليست سلاحا، إنّها رسالة. لأنّها مجرّد خيط وورقة وخرقة مبلّلة بالزّيت، في حين أنّ كلّ بطاريّة من بطاريات القبّة الحديديّة تكلّف 100 مليون دولار. إنّ هذه الطائرات الورقيّة تقول: نعم، أنتم أقوى منّا بكثير. ولكنّكم لن تنتصروا علينا أبدا. حقّا. لن تنتصروا أبدا.»
هناك سياق آخر لاعتبار الطّائرات الورقية في غزّة رسائل شعب يرفض الخضوع. ففي عام 2011، حطّم 15 ألف طفل فلسطينيّ على شاطئ غزّة الرّقم القياسيّ العالميّ لعدد الطّائرات الورقيّة الّتي أُطلِقت في نفس الوقت. وقد حمل العديد من تلك الطّائرات الورقيّة الأعلامَ والرّموز الفلسطينيّة، بالإضافة إلى تمنّيات بالسّلام والأمل. قالت الفتاة راوية، البالغة من العمر 11 عاما، والّتي صنعت طائرتها الورقيّة بألوان العلم الفلسطينيّ: «عندما أطلقها، أشعر وكأنّني أرفع بلدي وعلمي إلى السّماء.» كذلك يحكي الفيلم الوثائقيّ «Flying Paper» الّذي أُنجِز عام 2013، وأخرجه كلّ من نيتين ساوني Nitin Sawhney وروجر هيل Roger Hill، قصّة بعض الشّباب الّذين يطلقون الطّائرات الورقيّة. «عندما نطلق الطّائرات الورقية، نشعر وكأننا نحن من يطير في السّماء. نشعر بأنّنا صرنا أحرارا. أبنّه لا يوجد حصار مضروب على غزّة. عندما نطيّر الطّائرة الورقيّة، نعلم أنّ الحرّيّة موجودة.» في وقت سابق من هذا العام، أُطلِقت طائرات ورقيّة خلال المظاهرات التّضامنيّة الّتي جرت في جميع أنحاء العالم، للتّعبير عن الأمل والرّغبة في تحقيق الحرّية الفلسطينيّة.
تنبني قصيدة رفعت العرعير الأخيرة، «إذا كان لا بدّ أن أموت»، على الارتباط بين الطّائرات الورقيّة والأمل. وقد تمّ تداول مقطع فيديو الممثّل الاسكتلنديّ براين كوكس Brian Cox وهو يقرأ القصيدة على الإنترنت بعد أن اغتال الجيش الإسرائيليّ العرعير في غارة جويّة دمّرت المبنى الّذي كان يسكن فيه.
إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بدّ أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطا
(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)
كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السّماء
منتظرا أباه الّذي رحل فجأة
دون أن يودّع أحدا
ولا حتّى لحمَه
أو ذاته
يبصر الطّائرة الورقيّة
طائرتي الورقيّة الّتي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أنّ هناك ملاكا
يعيد الحبّ..
إذا كان لا بدّ أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية.
الطّائرة الورقيّة هي رسالة حبّ. فقد صُنعت لتطير، وفي طيرانها تخلق الأمل. إنّ كلمات العرعير تهتمّ بصنع الطّائرة الورقيّة، من القماش والخيوط، وبطيرانها. فصنع الطّائرة الورقية هو أكثر من مجرّد حداد؛ إنّه انخراط في التّفاؤل العمليّ، وعنصر من العمليّة الذّاتيّة الّتي تبني الذّات في سياسة معيّنة، تبني الـ «أنت» المكلَّف بصنع الطّائرة الورقيّة وبرواية قصّته.
في عام 1998، بنى الفلسطينيون مطار ياسر عرفات الدّوليّ. وفي عام 2001، أثناء الانتفاضة الثّانية، هدّمته الجرّافات الإسرائيليّة. وكما توضّح هند الخضري، كان المطار مرتبطا ارتباطا وثيقا بحلم الدّولة الفلسطينيّة. أجرت هند مقابلات مع العمّال الّذين بنوا المدرج الّذي تحوّل إلى ركام ورمال. وكما كتبت الخضري: «كان مطار غزّة أكثر من مجرّد مشروع. لقد كان رمزَ الحرّيّة بالنّسبة إلى الفلسطينيين. رَفْعُ العلم الفلسطينيّ وجعلُه يرفرف في السّماء كان حلمَ كلّ فلسطينيّ.»
يواصل المظلّيون الّذين طاروا إلى إسرائيل في 7 أكتوبر الارتباط الثّوريّ بين التّحرير والطّيران. وعلى الرّغم من أنّ القوى الإمبرياليّة والصّهيونيّة تحاول اختزال العمليّة إلى شكل واحد خاصّ بإرهاب حماس، مصرّة بذلك، وعلى عكس كل الأدلّة، على أنّ المقاومة الفلسطينيّة ستختفي بإبادة حماس، فإنّ إرادة النّضال من أجل الحرّيّة الفلسطينية تسبق «حماس» وتتجاوزها. لم تكن حماس هي الذّات الّتي صنعت عمليّة 7 أكتوبر؛ كانت مندوبةً تأمل في أن تُظهرَ الذّاتَ بصفتها نتيجةً لعملها، كانت التجسيد الأخير للثّورة الفلسطينيّة.
إنّ الكلمات الّتي استعملتها ليلى خالد للدّفاع عن صحّة تكتيكات خطف الطائرات الّتي اتّبعتها الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين تنطبق أيضا على 7 أكتوبر. لقد كتبت ليلى خالد ما يلي: «كما قال أحد الرّفاق: نحن نتصرّف ببطولة في عالم جبان لنثبت أنّ العدوّ يمكن هزمه. نحن نتصرّف «بعنف» من أجل أن نصدّع آذان اللّيبراليين الغربيين الصّم وإزالة الغشاوة عن أعينهم حتّى يروا. نحن نتصرّف تصرّف الثّوريين كي نُلهِمَ الجماهير ونُشعل الانتفاضة الثّوريّة في عصر الثّورة المضادّة.»
فكيف يمكن لشعب مضطَهَد أن يؤمن بأنّ التغيير ممكن؟ كيف يمكن للحركات الّتي عاشت عقودا من الهزيمة أن تشعر بأنّها قادرة على الفوز؟ وثّقت سارّة روي Sara Roy (عالمة اقتصاد أمريكية مهتمّة بالشرق الأوسط – المترجم -) حالة اليأس الّتي كانت سائدة في غزّة والضّفّة الغربيّة قبل 7 أكتوبر. إذ أدّت الانقسامات الحزبيّة والشّعور بأنّ «فتح»، بل و»حماس» أيضا، يتعاونان أكثر ممّا ينبغي مع إسرائيل، إلى زعزعة الثّقة في مشروع الوحدة الوطنيّة. قال أحد الأصدقاء لرُوي: «لقد فقدت مطالبنا السّابقة أيّ معنى. فلا أحد يتحدّث عن القدس أو حقّ العودة. صرنا نريد فقط الأمن الغذائيّ وفتح الممرّات.» لكنّ طوفان الأقصى عالج هذا اليأس. فقد رفض تحالفُ مقاتلي المقاومة، بقيادة حماس والجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّ، القبولَ بالهزيمة والاستسلام لمهانة الموت البطيء. فكان أن صمّموا عمليّتهم بحيث تظهَر الذّات الثّوريّة باعتبارها أثرا لها.
***
على مدى الأشهر السّتّة الّتي تلت بدء حرب الإبادة الجماعيّة الّتي تشنّها إسرائيل ضدّ فلسطين، شهدنا تصاعدَ موجة من التّضامن العالميّ مع فلسطين، تُذكّرنا بالموجة السّابقة في السّبعينيات والثّمانينيات. وكما أخبرنا إدوارد سعيد في أواخر السّبعينيات: «لم تكن هناك قضيّة سياسية تقدّميّة واحدة غير متماهية مع الحركة الفلسطينيّة». لقد أدّى التّضامن مع فلسطين إلى توحيد اليسار، وتوحيد نضالات التّحرير في جبهة عالميّة مناهضة للإمبرياليّة. وعلى حدّ قول المؤرّخ روبن دي جي كيلي Robin DG Kelly: «نحن الرّاديكاليين اعتبرنا منظّمة التّحرير الفلسطينيّة طليعةً في نضال عالميّ من أجل أن يقرّر العالم الثّالث مصيره، ويتّخذَ له «مسارا غيرَ رأسماليّ» نحو التّنمية.» إنّ نضاليّة الكفاح الفلسطينيّ وتفانيه جعلا من مقاتليه الثّوريين نموذجا لليسار في العالم.
اليوم، تقود حركة المقاومة الإسلاميّة – حماس – النّضال من أجل التّحرير الفلسطينيّ. وهي تحظى بدعم اليسار الفلسطينيّ المنظَّم بأكمله. ربّما كان من المتوقّع أن يحذو يسار النّواة الإمبرياليّة حذو قيادة اليسار الفلسطينيّ في دعم حماس. ولكن في كثير من الأحيان، يردّد مثقّفو اليسار هنا نفس الإدانات الّتي من خلالها تحدّد الدّولُ الإمبرياليّة خطابهم عن فلسطين. وبقيامهم بذلك، فإنّهم يقفون ضدّ الثّورة الفلسطينيّة، ويُضفون طابعا تقدّميّا على قمع المشروع السّياسي الفلسطينيّ، ويَخُونون تطلّعات الجيل السّابق المناهضة للإمبرياليّة.
تُعتبَر مقالة جوديث بتلر Judith Butler المنشورة في 19 أكتوبر في مجلّة London Review of Books مثالا ممتازا. فبدلا من وضع الأعوام الخمسة والسّبعين من النّكبة والمقاومة الفلسطينيّة في مركز تحليلها، تنتقد بتلر طلاّب جامعة هارفارد على «تبرئتهم حماس من جرائم القتل البشعة الّتي ارتكبتها». فقد أصدرت مجموعات التّضامن مع فلسطين في جامعة هارفارد بيانا حمّلت فيه النّظام الإسرائيليّ «المسؤولية الكاملة عن كلّ أعمال العنف الّتي تحدث». لقد أنذرت مقالة بتلر بموقف سيسيطر قريبا على الأوساط الأكاديميّة، كما حدث في كولومبيا، وكورنيل، وبنسلفانيا، وهارفارد، وجامعة روتشستر، وأماكن أخرى. وقد أدّى ذلك إلى تحويل الانتباه من واقع عنف الإبادة الجماعيّة في غزّة إلى البيئة العاطفيّة للجامعات الأمريكيّة الآمنة والمتميّزة. إنّ استهداف بتلر للطّلاّب – في لغتهم ومشاعرهم، وفي الطّريقة الّتي كانوا يعبّرون بها عن أنفسهم – قد حدّد مسبقا شكلَ جلسات الاستماع في الكونغرس الّتي أدّت إلى استقالة رئيسي جامعتي هارفارد وبنسلفانيا.
على نقيض طلاّب جامعة هارفارد، أدانت بتلر «بلا تحفّظ العنف الّذي ترتكبه حماس». فهي لا تعتقد أنّ مثل هذه الإدانة تمثّل نهاية السّياسة أو تمنع التّعرف على تاريخ المنطقة. بل على العكس من ذلك، تصرّ على أن تكون الإدانة مصحوبة برؤية أخلاقيّة. وتشمل هذه الرّؤية أو قد تشمل المساواة في التّظلّم والحقّ في الحداد بالإضافة إلى «أشكال جديدة من الحرّيّة السّياسيّة والعدالة». ولكن بالنّسبة إلى بتلر فإنّ هذه الرّؤية تستبعد حماس. إنّها تتعامل مع «حماس» على أنّها المسؤولة الوحيدة عن هجمات 7 أكتوبر، متجاهلة حقيقةَ أنّ القوّات المسلّحة التّابعة للعديد من الجماعات الفلسطينيّة شاركت في العمليّة، ممّا يشير بالتّالي إلى دعم للعمليّة يمتدّ إلى ما هو أبعد من الفصيل العسكريّ للحزب المنتخَب ديمقراطيّا ليحكم غزّة. فضلا عن ذلك، تريد بتلر المشاركة في «التّصوّر والنّضال» من أجل هذا النّوع من المساواة الّتي من شأنها أن «تجبر جماعات مثل حماس على الانقراض». ليس من الواضح ما تعنيه بتلر بعبارة «مثل حماس»، ولا أيّ من الخصائص الّتي من شأنها استهداف مجموعة ما بالزّوال. فإذا كان المهمّ، على سبيل المثال، هو الاستخدام العنيف للقوّة، فإنّ النّضال من أجل تحرير شعب مستعمَر ومحتلّ ومضطهَد سيكون بالتّالي مستبعَدا مسبقا. وهكذا تمّ تقليص الأفق السّياسيّ الّذي كان يوحّد القوى التّقدّميّة في نهاية السّبعينيات.
ولأنّ بتلر ترغب في «إجبار جماعات مثل حماس على الزّوال»، يتداخل موقفها مع موقف جو بايدن وبنيامين نتنياهو. ولكنّها على عكسهما، تذكر الاحتلال وترفضه. إلاّ أنّها تردّد موقفهما وتكتيكهما المتمثّل في فصل حماس عن فلسطين وجعل تحرير فلسطين مشروطا بهذا الفصل. وعلى الرّغم من أنّ حماس تُعتبر الزّعيمة المعترف بها والمقبولة على نطاق واسع للنّضال من أجل فلسطين حرّة، فإنّ الرّغبة في زوالها يشكّل فشلا للتّضامن الدّوليّ. إنّه يوجّه ضربة قويّة لقيام جبهة موحّدة لمقاومة الإمبرياليّة ويدقّ إسفينا فيها. إنّ الدّفاع عن حماس أمر غير مقبول إلى الحدّ الّذي يجعل من الصّعب مناقشة الأمر؛ لذلك يتمّ استحضارها فقط من خلال إدانتها بشكل مسبق، كما لو كان ذلك لإغلاق باب مغلق ومقفَل أصلا. إنّ تعبير «الانحياز إلى حماس» هو اتّهام، وإدانة، وليس اعترافا بالموقع الّذي يتّخذه المرء في صراع أساسيّ.
تقول بتلر إنّ لدى حماس «إجابة مرعبة ومروّعة» على سؤال ما هو العالم الّذي سيكون ممكنا بعد نهاية الحكم الاستعماريّ. ولكنّ بتلر لا تخبرنا ما هي إجابة حماس. ولم تذكر الوثيقة السّياسيّة الّتي نشرتها الجماعة في عام 2017، والّتي، على حدّ تعبير طارق بقعوني، «قبلت بإنشاء دولة فلسطينيّة على حدود 1967، وبقرار الأمم المتّحدة رقم 194 بشأن حقّ العودة وفكرة تقييد الكفاح المسلّح ليكون ضمن حدود القانون الدّوليّ.» [1] بالنّسبة إليّ، لا يبدو لي أنّ هذه الوثيقة مرعبة أو مروّعة، حتّى لو كان من الصّعب تصوّرها بالنّظر إلى انتشار المستوطنات الإسرائيليّة غير القانونيّة في الضّفّة الغربيّة. في 13 ديسمبر، اعتذرت بتلر لطلاّب جامعة هارفارد. واعترفت بإمكانيّة أن تكون حماس «حركة مقاومة مسلّحة» يمكن وضعها ضمن تاريخ أطول من الكفاح المسلّح، أو على الأقلّ بأنّ الأمر يتعلّق بـ «مسائل مهمّة». ومع ذلك، ظلّ الدّفاع عن قائدة حركة التّحرير الفلسطينيّة أمرا غير وارد. ففي 11 مارس 2024، قالت بتلر: «ليست كلّ أشكال «المقاومة» مبرَّرة.»
إنّ الشّعوب المضطهَدة تقاوم مضطهِديها بأيّ وسيلة ضروريّة كانت. إنّها تختار – وتُضطرّ إلى الاختيار وفقا للسّياقات الّتي تجري فيها نضالاتهم التّحرّريّة – الاستراتيجيّات والتّكتيكات الّتي تحتاجها لتحقيق النّصر. فإلى أيّ مدى سيكون المضطهِد متسامحا مع خصمه؟ ما هي القوّة التي سيستخدمها الظالم المستبدّ لقمع التّمرّد؟ وإلى أي مدى يعتمد الظّالم على رضا المظلوم؟ ما هو مقدار الخزي الأخلاقيّ الذي يكون المضطهِد مستعدّا لتحمّله؟ إنّ الاعتراف بالحقّ في مقاومة المضطهِد، والحقّ في تقرير المصير الوطنيّ، يعني الدّفاع عن أولئك الرّاغبين في القتال ضدّ مضطهِديهم والقادرين عليه. ومثل هذا الدّفاع لا ينبغي بالضّرورة أن يكون بمنأى عن أيّ انتقاد: فكثيرا ما يجد الأفراد والجماعات والدّول أنفسهم في الموقف السّياسيّ الّذي يضطرّهم إلى الدّفاع عن أولئك الذين يختلفون معهم. ولكنّ هذا الدّفاع يجب أن يكون موجّهًا نحو المضطهَدين وهم يناضلون من أجل التّحرّر، وليس نحو الظّالم أو النّظام الإمبرياليّ الأوسع الّذي يسمح بالاضطهاد ويضفي الشّرعيّة عليه. ويجب أن يرسّخ التّضامنَ في «قواسم مقاومة مشتركة» وليس في «قواسم قمع مشتركة»، وفقا لتعبير روبن كيلي Robin Kelley. هذه الفكرة ليست جديدة، إنّ لها تاريخا طويلا في النّضالات المناهضة للإمبرياليّة ونضالات التّحرّر الوطنيّ.
يعكس تراجع التّضامن المناهض للإمبرياليّة، الّذي يتجلّى في مواقف مثل موقف بتلر، عدم تسييس أوسع، ويعكس مجموعة مختلفة ومتناقضة من الفرضيّات. ففي أيّامنا هذه ـ على الأقلّ حتّى السّابع من أكتوبر ـ يتذمّر النّاس من عدم وجود اليسار، أو، إن هم لم يتذمّروا، يتخيّلون السّياسة اليساريّة في إطار تعدّد متنوّع من الفرديّات، في عدد لا يحصى من الأفراد بمختلف اختياراتهم ومشاعرهم المميّزة. وعلى الرّغم من أنّ الدّعوات إلى التّقاطعيّة intersectionality تحاول الرّبط بين القضايا الّتي سعت أربعةُ عقود من التّجزئة النّيوليبراليّة إلى الفصل بينها، إلاّ أنّ الأسس القانونيّة اللّيبرالية لمفهوم التّقاطعيّة غالبا ما تضع الفرد على أنّه نقطة التّقاطع والقضايا على أنّها مسائل هُوِيّة. ومع عدم تسييسها على المستوى التّنظيميّ، يُعادُ تسييس القضايا داخل الأفراد وعلى أنّها قضايا أفراد. من قبيل: كيف يفكّر فيها فرد ما؟ هل يشعر بالرّاحة في التّعبير عنها؟ ما هي التّعبيرات الّتي تهدّد هذه الرّاحة وتقوّض شعوره بالأمان؟ إنّ حصر السّياسة في إدارة المخاوف الفرديّة يعيد تحديد المركزيّة الذّاتيّة على أنّها عنصر أخلاقيّ، سواء في حرم الجامعات أو في المواقع الّتي تنظّم المظاهرات العامّة. هذا التّقييد ليس سوى لحظة واحدة في عمليّة التّحويل الأكثر عموميّة ومنهجيّة للسّياسة من قبل الأخلاق، والّتي تتجلّى في إحلال العمل الإنسانيّ محلّ التّنظيم السّياسيّ النّضاليّ، واستبدال النّضال بالإدارة، والأحزابِ الثّوريّة بالمنظّمات غير الحكوميّة ومنظّمات المجتمع المدنيّ.
ما نحن إزاءه ليس عدمَ تسييس، بل هو هزيمة. وتستمرّ السّياسة، ولكن في شكل منظَّمٍ من قِبَل هذه الهزيمة. ولأنّنا غير قادرين على بناء أنفسنا في معسكر متماسك خلال النّضال ضدّ الإمبرياليّة، نجد صعوبة في الانحياز إلى أحد الطّرفين، دون أن نرى أو نسأل أنفسنا في أيّ جانب نقف؟ وحتّى التّعرف على الطّرفين يُنظر إليه على أنّه تفكير ثنائيّ أو عجز طفوليّ عن قبول التّعقيد والغموض.
***
توفّر لنا الوثيقة الإستراتيجيّة للجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين لعام 1969 نافذة على العالم السّياسيّ الذي أثاره كلٌّ من سَعيد وكيلي، عالم لا تكتفي أخلاقويّة بتلر بطمسه، بل إنّها، في تأييدها لشروط التّعبير الصّهيونيّة والإمبرياليّة، تعارضه بكلّ قوّة. إنّ هذا النّصّ، الّذي كُتب في عام 1967، بعد الهزيمة العربيّة في حرب جوان، يشكّل الوثيقة التّأسيسيّة للجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين. إنّ مسألة الإمبرياليّة هي المسألة المركزيّة فيها. تقول الوثيقة إنّه بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، تكتّلت القوى الرّأسماليّة الاستعماريّة في معسكر واحد بقيادة رأس المال الأمريكيّ، في حين كانت الدّول الاشتراكيّة ونضالات التّحرير الوطنيّة تشكّل معسكرا ثوريّا معارضًا. وعبر الأساليب الاستعماريّة الجديدة الّتي كانت تهدف إلى احتواء نضالات التّحرّر الوطنيّ، حاولت الولايات المتّحدة تحقيق مصالحها. بل وأكثر من ذلك، كما لاحظت الجبهة، كانت الولايات المتّحدة على استعداد تامّ لاستخدام القوّة المسلّحة، وقد أثبتت ذلك الغزواتُ الأمريكيّة لفيتنام وكوبا وجمهوريّة الدّومينيكان. وبعد فشل الولايات المتّحدة في منع الحركة العربيّة من الاندماج «مع المعسكر الثّوريّ العالميّ»، قدّمت الإمبرياليّة الأمريكيّة الدّعم العسكريّ لإسرائيل. وهذا يعني، بالنّسبة إلى الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين، أنّ النّضال الفلسطينيّ لا يمكنه تلافي المواجهة مع القوّة الهائلة والتّفوّق التّكنولوجيّ للإمبرياليّة. إذًا من النّاحية الاستراتيجيّة، لم يكن أمام فلسطين خيارٌ سوى «الدّخول في تحالف شامل مع سائر القوى الثّورية على المستوى العالميّ».
توضّح الوثيقة ما يلي:
«إنّ شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة تعاني يوميّا من البؤس والفقر والجهل والتّخلّف، وذلك من جرّاء اقتحام الاستعمار والإمبرياليّة حياتها. إنّ الصّراع الرّئيسيّ الذي يشهده العالم اليوم هو الصّراع بين الإمبرياليّة العالميّة الاستغلاليّة من جهة، وهذه الشّعوب والمعسكر الاشتراكيّ من جهة أخرى. إنّ تحالف حركة التّحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ والعربيّ مع حركة التّحرير في فيتنام والوضع الثّوري في كوبا وجمهوريّة كوريا الشّعبيّة الدّيمقراطيّة وحركات التّحرّر الوطنيّ في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاّتينيّة هو السّبيل الوحيد لخلق المعسكر القادر على مواجهة المعسكر الإمبرياليّ والانتصار عليه.»
ولذلك، فإنّ الحلّ السّياسيّ للقضيّة الفلسطينيّة يجري بالضّرورة باعتباره نضالا عالميّا ضدّ الإمبرياليّة. إنّ ضمير «نحن» في «كلّنا فلسطينيّون we are all Palestinians» هو اسم الجهة الّتي تناضل من أجلنا جميعا. وعلى حدّ تعبير غسّان كنفاني، الرّوائيّ والشّاعر والعضو المؤسّس للجبهة الشّعبيّة الّذي اغتالته إسرائيل عام 1972، والّذي ذُكر اسمه في مقدّمة الوثيقة لعام 2017، فإنّ «القضيّة الفلسطينيّة ليست قضيّة الفلسطينيين فحسب، بل هي قضيّة كلّ الثّوريين، حيثما كانوا، بوصفها قضيّة الجماهير المستغَلَّة والمضطهَدة في عصرنا.»
في العديد من الجامعات، حُظِرَ رفع شعار «من النّهر إلى البحر، فلسطين ستتحرّر From the river to the sea, Palestine will be free». بل إنّ نقاشا دوليّا قد جرى حول هذا الشّعار، وهو جانب آخر من جوانب الحرب يستهدف الشّعور التّضامنيّ مع فلسطين وإخماد السّيرورة الذّاتيّة الّتي أثارها 7 أكتوبر. إنّ ما ينبغي أن يزعج الإمبرياليين حقّا هو شعار آخر يقول: «بالآلاف، بالملايين، كلّنا فلسطينيون.» شعار يرفض التّجزئة إذ يعترف بالذّات المناهضة للإمبرياليّة بوصفها أحد آثار القضيّة الفلسطينيّة. شعار يستبدل الافتراضات الفرديّة للنّزعة الإداريّة النّيوليبرالية والنّزعة الإنسانويّة بالكونيّة الحاسمة لمناهضة الإمبريالية.
إنّنا بدفاعنا عن حماس، نقف إلى جانب المقاومة الفلسطينيّة، ونستجيب لذات ثوريّة – هي ذات النّضال ضدّ الاحتلال والاضطهاد – ونعترف بهذه الذّات بوصفها أثرا لسيرورة مفتوحة ومتنازع عليها. فمع أيّ طرف تقف أنت؟ مع التّحرير أم مع الصّهيونيّة والإمبرياليّة؟ هناك طرفان لا ثالث لهما وما من بديل، ولا مساومة على العلاقة بين مضطهِد ومضطهَد. إنّ الاضطهاد لا يُدارُ من خلال تقديم التّنازلات الموهنة تجاه معايير التّعبير المسموح بها؛ فقد أطيح بهذا المنطق. ويتلاشى وَهْمُ الوسطيّة والتّعدّديّة كلّما ظهر التّقسيم المكوّن للمجال السّياسيّ بكلّ وحشيّته.
قد يحيلنا هذا إلى صياغة كارل شميت Carl Schmitt الكلاسيكيّة للمجال السّياسيّ من حيث تكثيف العلاقة بين الصّديق والعدوّ. ولكن ما تختلف فيه معه هو اعترافها بالتّسلسل الهرميّ. فالاحتلال الاستعماريّ والاستغلال الإمبرياليّ يولّدان العداوة. والعداوة ليست الإطار العاطفيّ لطرفين متساويين في الصّراع. فهذه الحرب ليست حرب الكلّ ضدّ الكلّ. إنّها حربُ المضطهَدين على مضطهِديهم، وتمرّدُ أولئك الّذين حُرموا من حقّهم في تقرير المصير على من حرَموهم منه. الجانبان يستخدمان نظامين دلاليين مختلفين جذريّا: ومِن داخل أحدهما، يبدو الآخر مجنونا ووحشيّا، وعبثيّا تماما. لا توجد نقطة ثالثة يمكن من خلالها تقييم الوضع، ولا توجد سلطة سياديّة محايدة أو نظام شرعيّ لا ينحاز إلى جانب أو آخر. لا يمكن جدولة الوفيّات ووضعها في حساب يضمن أنّ كلّ شيء يصبح متساويا. إنّ التّاريخ لا يبتّ في المسألة. فالتّواريخ الّتي ننطلق منها في سرد تسلسل الأحداث ليست مجرّد بدائل. إنّ التقسيم المكوّن للمجال السّياسيّ ينتقل بالكامل إلى الأسفل.
قد يكون من المُغري التّعامل مع فلسطين باعتبارها عَرَضا مرَضيّا لفشل أكبر ــ فشل القانون الدّوليّ، على سبيل المثال، فشل نظام حقوق الإنسان، أو فشل عالم اللّيبرالية الجديدة المعولم النّاعم. وهنا ستمثّل فلسطين النّقطة الّتي تدخل فيها هذه الأنظمة في تناقض مع نفسها، في إقصائها المكوّن لها. علينا أن نقاوم هذا الإغراء. فالقانون يواجه دائما حالات صعبة وتحدّيات في التّنفيذ دون أن ينهار. لقد هيّأت اللّيبراليّة الجديدة المعولمة الأرضيّة لتجزئة الفضاء السّياسي وفصله وتقسيمه إلى عدد لا يحصى من المناطق الفرديّة. وكما أثبت كوين سلوبوديان Quinn Slobodian، كانت اللاّمركزية إحدى الآليّات الرّئيسيّة لتأمين مصالح الطّبقة الرّأسمالية. إنّ اسم فلسطين لا يشير إلى عَرَض مرَضيّ؛ إنّه يعيّن جانبا في النّضال ضدّ الإمبرياليّة. وعندما كسّرت المقاومة الفلسطينيّة بشكل جذريّ إطار الاحتلال والاضطهاد، ظهرت من جديد حقيقة هذا الجانب. كونه يواجه نظاما يريد تجاهله بإرادة لا تفلّ في الصّمود، وتصحيح المظلمة المسلّطة عليه، واسترداد ما تمّ افتكاكه منه، والاعتراف به بصفته شعبا وأمّة ودولة تتمتّع بحقّ تقرير المصير. إنّ فلسطين اسم يعيّن ذاتا سياسيّة.
يمكن حشد أدبيّات ثريّة لملء فكرة الذّاتيّة السّياسيّة الفلسطينيّة. ويمكن أن تشمل النّقاطُ الرّئيسيّةُ ما يلي: مركزيّة المقاومة في تصوّر الهويّة الوطنيّة في أعقاب النّكبة؛ وخصوصيّة التّنوّع الدّينيّ الفلسطينيّ (الإسلاميّ، المسيحيّ، اليهوديّ)؛ وتشتّت الفلسطينيين بين إسرائيل والأراضي المحتّلة والشّتات. والأمر الأكثر إقناعا هو التّأكيد الاستفزازيّ على أنّنا جميعا فلسطينيون. لا ينبغي أن يُفهم هذا التّأكيد على أنّه هذا النّوع من الهويّة العاطفيّة الّتي مفادها أنّ جميع أشكال المعاناة هي تنويعات من نفس المعاناة، وبالتّالي يجب علينا جميعا أن نتّفق. إنّه بالأحرى الشّعار السّياسيّ لتحرّر عالميّ جذريّ يستجيب للذّات بوصفها أثَرا للقضيّة الفلسطينيّة. لا يتحدّث الجميع باسم فلسطين، ولكنّ فلسطين تتحدّث باسم الجميع.
المقال الأصليّ باللّغة الانجليزيّة نُشر في 9 أفريل 2024 تحت عنوان Palestine speaks for everyone. وهو متوفّر على الرّابط التّالي: https://www.versobooks.com/en-gb/blogs/news/palestine-speaks-for-everyone