spot_img

ذات صلة

جمع

هل نهاية للعولمة؟

الكاتب والناقد: حسني عبد الرحيم عندما فرض الرئيس الأمريكي "دونالد...

أنا أحب إذن أنا موجود: أو الفلسفة والفائض من الغرائز

بقلم الأستاذ: الأسعد الواعر أنا أحب إذن أنا موجود هو...

آنِي.. فِي كَنَفِ “الآنِي”

الكاتب والشاعر: شاهين السّافي يذكر أنها تلقت أغرب طلب...

“أهيم عشقا بأمّ القرى ” لجلال باباي: مراثي الخريطة…

رياض خليف تصفحت هذا العمل كثيرا، مقتفيا خطى كلمات الشاعر...

“غَابَةٌ تَرْتَدِي الثلج”(∗) ﻟِ أُسَامَة حُمري: كِتَابَة الشِعر بِالوَاصل والفَارق بَيْن المَوْت والهَلاك؟

مصطفى الكيلاني

-1-

هل يُمكن اعتِبَارُ نُصوص أُسامة حُمري الجديدة بَعْد “اُصمت لِأَرَاك” تَأَمُّلِيَّة بِالشِعر، ائتِلافا مع السابق، واختِلافا مَعَه؟

لَعَلَّ مِن شبه اليَقين لَدَيْنا عندَ الربط بَيْن النُصوص السَالِفَة واللاَّحِقَة أنَّ الشَاعر رافض لِأَدَاء الحَالات بِالمُطَابَقَة، لاعتِقَاده الجَازِم، رُبَّما، بِأَنَّ الأَداء الشِعرِيّ هُو مُحَاولات العَوْد إلى دهشة اللُّغة الأُولى، باستِعارات جَدِيدَة بَدَلا مِن استِعارات مُتَدَاوَلَة مُتَقَادِمَة مُسْتَهْلَكَة.

لِذَا نَرَاهُ يُمارس الكِتابَة شِعرا بِالمَزيد مِن المُجَاورة، بل المُجَاوَرَات اللَّفْظِيَّة القَاطِعة مع منطق التَدَاوُل اللِّسَانِيّ، لِأَدَاء حال الصدمة/حالاتها إزاء “المَاء”، “الأشياء”، “المَوْت”: ثَالُوث انهِمَام إِنِّيّ الشَاعر واهتِمَامه، مع إشارات مُطابِقَة تَشِي بِلَحَظات وأمكنة وسِيَاقَات مُحَدَّدَة، هِي مِن الواقع المَعِيش وإلَيْه.

-2-

فَلِمَ “غَابَة ترتدي الثلج” لا “ثلج يرتدي الغابَة”، وقد ذَهَب الشَاعر في مَجمُوعته الجديدة إلى المَزِيد مِن القلب وتثوِير اللُّغَة وتكثِير الصُوَر الاستِعارِيَّة والكنائيّة تلازُما مع القليل مِن الصُوَر التشبِيهِيَّة؟ هل لِحِرْصِه بَدْءا على تثبِيتٍ مَّا يُشبه نُقطة مُتحدّدة لِرُؤيَة حِسّيَّة حِينِيَّة مُتَذَكَّرَة أو مَعِيشَة مُبَاشِرَة؟

كطِفل لاعِب بِالحُرُوف، والكَلِمَات، والجُمَل هُو أُسامَة حُمري، كما نرَاه مِن خِلال نُصوصه الشِعرِيَّة الجَدِيدَة، وقد أَدْرَكَ بِحِسّ حَدْسِيّ أَدَائِيّ، وبِلَحظَةِ الكِتابَة ذاتها، أمْ لا إمكانَ لِمُقَارَبَةِ لا-معنى المعنى، أو معنى   اللَّا-معنى المُتَلبّس بِالرُوح والأَشياء، وصمْتا لِكَلام، وكَلاما لِصَمْت، إلّا ﺑِ “الكَلِمَات” و “الأشياء” مُتعالِقَةً، كَأَن يعمل على توزيعها، ثُمَّ إعادَة تَوْزِيعها مِرَارا، بِتَراكِيب صُوَر، لِيَتلهَّى في الأَثناء بِفِعل الكِتابَة الشِعْرِيَّة اللَّاعب عن قلق دفين تفاقمت حاله/حالاته في هذه الأَيَّام الّتي يحيا.

-3-

للشَاعر رغباته المَكبُوتة، ونُزُوعه الجَارف إلى تَحقِيقها، رغمَ تَسَاوِي كُلّ مِن الإمكان والاستِحَالَة بِوَضع مُسْتَشكِل.

إلّا أنَّ لِلَّعب حَادثيّته، رغمَ واقع الاستِشكَال تَرَدُّدا بَيْن الرَغبة ونَقِيضها/نَقَائضها. كما لِإِنِّيّ الشَاعر اتِّجَاهَات ثَلاثة في طريق واحدة بِالمَاء والأَشياء ومَشهد المَوْت/الهَلاك، التِبَاسا قَائِما بَيْنَهُما.

وكَأَنَّ إنِّيّ الشَاعر يستحضر مَاضِيا كانَ بِالمَاء، بِحُلم المَشِيمَة تفريدا، وبِالغمر العَمِيم الأَوَّل في حِكايَة التَكوين تَلِيه مِيَاهٌ راكِدَة تَهَبُ حَيَاةً، تَلِيهَا حَيَوَات.

إلّا أنَّ لِلْمَاء في مَسِيرَة الشَاعر اللَّاعب المُتَأَمّل في مَاضِيه وحَاضرهِ، وحْشته، إنْ تَلبّس بِالظُلمَة، كما له انفِتاحه المَا-قبلِيّ والما-بعديّ على العَدَم، فهوَ، مِن حيْث الدَلالَة الكيانِيَّة، بَيْن عَدَم وعَدَم. وبِوَاقع الحَال الشِعرِيَّة هُو بَيْن نَدَم ونَدَم، لِيُثَار في الأَثناء سُؤَال “الكُلّ” و “الجُزء”، واﻟ “نحن” و “أنا”. وإذا كُلّ الصُوَر في الجُزء الأَوَّل مِن “غابة ترتدي الثلج” ﻟ أُسامَة حُمري، تنبثق دَلالَةً مرجعيَّة مِن المَاء ابتِدَاءً، وِمن “كُلّ الكُلّ” إلى “الكُلّ”، ومِنه إلى الأَجزاء. كوحدَة الوُجود والمَوْجُود هُو المَاء يختصر ما كَانَ ويَكُون وسَيَكُون غمْرا بِدَائِيّا، عَالَمَ مَشِيمَة، شَجَرا، ثمَرا، بهجَةً، وحشَةً، رسْما، شِعرا، سَفَرا إلى المَا-قبل تَذَكُّرا، وإلى المَا-بعد أحلاما، استِيهَامات، أَفكارا…

فَوحدة الوُجود مُدْرَكَة حِسّا وإحساسا بِالمَاء، وبِالفَرَاغ المُمتَلئ مَجَازا، والامتِلاء الفَارغ: “وبحر يُنادي على نفسه: أَنقذُوني!، أنا فارغ بِامتلائِي” (ص 9).

-4-

يُفَكّر الطِفل الشَاعر أو الشَاعر الطِفل في عالم لعبه الشِعرِيّ بِالمَاء لِيَصطدم بِاستِحَالَة المزيد مِن الرُؤيَة/الرُؤيا، لِذَا نَرَاه يتّجه إلى “الأَشياء”، وكَأَنَّه يتَّخذه مَرَايا لِلْاستِمرار في لَعِبه الكَيْنُونِيّ بِالشِعر، والشِعْرِيّ بِمُستَنْفَر وعيه الكَيْنُونِيّ.

ولِأَنَّ الأَشياء شتاتُ أشياء فلا بُدّ مِن ناظِم هُو وَعي المَكان/الأَمكنة، لِيَصطدم بِمُفَارَقَةِ ما بَيْن لا-نهائِيّ الأشياء ومَحدُودِيَّة الرُؤيَة، كما الرُؤيَا، وبِمَحدُودِيَّة المَكان: “كُلَّما ضاقت الأَمْكنة…” (ص 17).

فَيستدِلّ إنِّيّ-الشَاعر بِالأَشياء، بِعَدَد مِن علاماتها، دَلالاتها، رُموزها الخَاصَّة، كاليد وأَصَابعهَا والعَين والأَنف والأُذُن ومُجمل الجَسَد بِمُختلف أَعضائه وخلاياه الحَيَّة، وبِالوَاصِل بَيْن الحِسِّيّ والمُتَصَوَّر مِنها، ﮐ “الثياب البَالِيَة، والجوارب المَثقُوبَة، والثوم، والبَصل، والخُبز اليَابس، والحليب، والعَصَافير، والأَفكار، والأَحوال، وشتَّى الرَغَبَات…”

فَكَمَا لِلْمَاء روغان دَلالته، تعتُّم صِفَته/صِفَاته، مُطلَق وحدَته الدَالَّة على الكُلّ، فَائِق تَعَدُّده إلى اللَّا-نِهائِيّ، رغمَ ظاهر مُفرَد تَركِيبه بِالفَرَاغ المُمتَلِئ والامتِلاء الفَارغ، فَلِلْأَشياء حُضوراتها الحِسِّيَّة، وأطيافها، وظِلالها النَاحِلَة، ومُخَبَّآتها، مِن مُنغَلِق معنى إلى مُنغَلِق معنى آخر، ويَتَّسع مدى استِشكال رُؤيَتها أَمَام ضِيق العِبَارَة.

-5-

وإذا المنحَى الثَالث بَعْد “الماء” و “الأَشياء” هُو “المَوْت”: المَوْت الّذي يعني مَوْتا، مِن الحَيَاة وإلَيْها، والمَوْت الّذي يعني هَلاكا/مَمَاتا، كالفَارق المَفهُومِيّ لدى موريس بلانشو (Maurice Blanchot) بَيْن المَوْت (mort) والهَلاك (périssement).

وهُنا تلتبس الحَال لدى أُسامَة حُمري حينما يُفَكّر شِعرا ب “مَوْت يخاف أن يَمُوت”، كَأَن يَرى إنِّيّ الشَاعر هَلاكهُ القَادِم في هَلاك الآخرين كما يسقطون في مَشهد مُتَكرّر يَوْمِيّ لِأَطفال جَوْعَى وآلاف الجُثَث “تحت قصف الطَائِرَات” (ص 40)، و “الكَارِثَة”، و “الأَمَل اليَائس” و “الشَظايَا” المُتساقطَة وخَرَاب الأَمْكنة…

وإذا مَشَاهد الهَلاك تُفَاقِم مِن إحساس إنِّيّ الشاعر بِمَوْته، وهوَ لا يزال على قَيْد الحياة، في انتِظار أن يهلك آجِلا. كما يَستحضر بِالذَاكِرَةِ سِيَرا وعَدَدا مِن مَوَاقف لِأَسماء أعلام، عَاشوا المَوْتَ حياةً، وفكّروا في مَآلهم، ﮐ “أبيقور” و “أفلاطون” و “بهاء الدين زهير” و “ابن كندة”…

-6-

بَيْن المَوْت والمَوْت مَوْت، إذْ يَنَام الشَاعر لِيَستيقِظ عليْه. وبِرُوح الطِفل النَزِقَة المُشَاكِسَة اللَّاعِبَة يُفَكّر فِيه: “سَأَحزن على طِفل نادِم-يُمَزِّق وَرَقَةً ويُلقي بِها على قَارِعَة الطريق-والوَرَقَة تَحِنّ إلى أخواتها النَائِمَات في كُراس…” (ص 35).

وإذَا ثَابت الحَال في هذه المَجمُوعة الشِعرِيَّة حُزن يُفَرّخ أَحزَانا. وثَابت أُسلُوب كِتَابَة هذه الحَال، تقريبا، هُو تِكرار مُحَاولات تَوْصِيف هذا الحُزن الاستثنائِيّ بِمَا يَسِم المَجمُوعة بِالالْتِفَاف حَوْل نُقطَة ناحِلَة في بحر سَوَاد عَمِيم، مِمَّا قد يُجَوّز لنا قِرَاءَتها ارتِدَادا، وذَلِكَ عندَ الابتِدَاء مِن “مَوْت يَخَاف مِن المَوْت” إلى “الأَشياء تُفَكّر”، ومِنه إلى “المَاء المُسَافر”.

يَتَفاقم حُزن الشَاعر. يَتَرَدَّد بَيْن “مَوْت” و “هَلاك”، بَيْن أَمَل ويَأس. فَيلتبس المَعنى، وتَضِيق العِبَارَة.

ولكنْ، يَزدَاد إنِّيّ الشَاعر يَقِينا بِأَنَّ لِلْحَرف، رغمَ عجز اللُّغَة المُستَفحِل، وَهَجَه، أَلَقَه، بهْجته، كضَنِين أَمَل، ولمْعَة نُور في سَوَاد لَيْل طَال أَمَده. فكيْف لِلْإنسان، إذَنْ، في عَالم أُسَامَة حُمري المُوحِش أن يَتَحَرَّر بِ “كُوجيتو آخر جديد” (ص 59)، وبِوَعي كَيْنُونَة مُختَلِف، وبِفهم حَادِث لِلْمَوْت بِالحَيَاة، ولِلْحَيَاة بِالمَوْت؟

spot_imgspot_img