اعداد: ابو جرير
اتحاد الكتّاب التونسيين منظمة ثقافية تأسست في بداية السبعينات، وتداول على رئاستها عديد الأسماء كالعروسي المطوي، والميداني بن صالح، ومحمد البدوي، وجميلة الماجري، وصلاح الدين بوجاه، وصلاح الدين الحمّادي، وصولًا إلى الرئيس الحالي العادل خضر.
لقد عاش الاتحاد منذ تأسيسه حالة من المدّ والجزر في علاقته بالسلطة، وكان في أغلب الفترات في حضنها لعدّة اعتبارات، لعلّ أهمها الموارد المالية. لكن الاتحاد لم يعش منذ تأسيسه الخمول والجمود والركود وغياب الفعل الثقافي كما يعيشه اليوم، ممّا جعل عديد المنخرطين يعلنون انسحابهم بصمت وتقديم استقالاتهم. مع العلم أنّ المؤتمر كان يُفترض أن يُنجز قانونيًا منذ أكثر من عام.
اتحاد الكتّاب التونسيين يعيش مرحلة صعبة جدًا، بل يعيش “الموت السريري” حسب تصريح بعض الكتّاب، ممّا جعل الهيئة المديرة الحالية تعلن عن انعقاد المؤتمر في مدينة القيروان بدار الثقافة، ولِيوم واحد فقط، يوم 21 ديسمبر 2025. ويُعدّ هذا سابقة منذ التأسيس، إذ يعيق مشاركة أغلب المنخرطين في مؤتمر لا يليق بمنظمة عريقة ولا بالكتّاب التونسيين.
حول واقع الاتحاد أنجزنا هذا الملف الذي أثّثه بعض الكتّاب التونسيين.
نور الدين بالطيب: شاعر وإعلامي ومسرحي
هيئة فقدت شرعيتها منذ عام… وصفر إنجازات
لم يعرف اتحاد الكتّاب التونسيين منذ تأسيسه قبل أكثر من خمسين عامًا حالة من الركود، بل “الموت السريري”، التي يعيشها منذ انتخاب الهيئة المديرة الحالية، والتي أصبحت غير قانونية منذ عام.
فمجلة المسار توقفت عن الصدور، والمجلة الفكرية المحكمة التي أصدرتها الهيئة المديرة السابقة توقفت أيضًا، ونوادي الاتحاد شبه متوقفة عدا بعض اللقاءات غير المنتظمة، مع غياب كبير بل تام عن الشأن الثقافي العام. ولم نلاحظ أي نشاط يُذكر للهيئة المديرة عدا بعض الأنشطة المشتركة مع جهات أخرى في المنستير وتطاوين. في المقابل، سجّل بعض أعضاء الهيئة المديرة سفرات إلى بلدان عربية باسم الاتحاد طبعًا.
هذا الحضور الباهت كان متوقعًا، لأن عددًا من أعضاء الهيئة طارئ على النشاط الثقافي، ولم يُعرف له أي حضور سابق في المشهد الثقافي، ومن كان منهم فاعلًا نجده من غير المقيمين في العاصمة. الآن يستعدّ الاتحاد لعقد مؤتمره. رجاؤنا أن تكشف الهيئة المديرة بدقّة عن الوضعية المالية للاتحاد بشفافية، حتى يعرف الكتّاب أين أُنفقت أموال الاتحاد – إن كانت له أموال – وديونه أيضًا، وكذلك الوضعية المالية والقانونية لدار الكتاب التي تمّ تسويغها في عهد الهيئة السابقة، وتواصل العقد إلى حدود العام الماضي تقريبًا. ويبقى السؤال المطروح على الهيئة: لماذا تم اختيار مدينة القيروان لعقد المؤتمر؟ ومن هي الجهة التي ستنفق على تنظيمه؟
رياض الشرايطي: شاعر
أين اتحاد الكتّاب التونسيين من المشهد الثقافي اليوم؟
السؤال لم يعد مجرّد نقد عابر، بل تحوّل إلى مرآة لخلل عميق يضرب قلب الحياة الثقافية في البلاد. فمنذ الثورة، ومنذ أن انفتحت البلاد على أفق جديد بعد 2011، كان من المفترض أن يتحرّر الاتحاد من الموقع الوظيفي الذي كانت تمليه عليه السلطة، أن يخرج من عباءة التبعية، وأن يستعيد دوره الطبيعي كفضاء للمقاومة الثقافية، وكمنصّة للدفاع عن حرية الفكر والكلمة.
لكن ما الذي حصل؟
الذي حصل، ويا للمفارقة، أنّ الاتحاد خرج من سلطة ليدخل في غيبوبة أخرى، بلا فعل، بلا رؤية، بلا تأثير، كأنّ الحرية التي سقطت في الشوارع لم تصل إلى مكاتبه.
لقد كان من المفروض أن يكون الاتحاد أحد أكبر المستفيدين من لحظة الانفراج بعد 2011:
كان من المفروض أن يحرّر صوته، أن يُدخل الديمقراطية إلى داخله، أن يفتح أبوابه لدماء جديدة، أن يتحوّل إلى قوة اقتراح وضغط وصراع، أن يعيد للكاتب مكانته الاعتبارية، وأن يصوغ مشروعًا ثقافيًا وطنيًا يستجيب لرهانات عصر يتغيّر بسرعة مذهلة.
لكن ما نشاهده اليوم ليس سوى جثة بلا روح.
هيكل جامد، مهمل، فارغ من الطاقة التي يفترض أن تسري في جسد مؤسسة تمثّل الكتّاب.
جثة مهجورة من طرف الأصوات الجادة، من طرف المبدعين الذين يصنعون الفعل الثقافي الحقيقي، من الجيل الذي يكتب اليوم نصوصًا عميقة خارج الأطر التقليدية، من الشعراء الذين يدفعون اللغة إلى حدودها، من الروائيين الذين يلتقطون تحوّلات المجتمع، من كتّاب الجهات الذين يكسرون المركزية، ومن الأصوات النقدية التي تحمل وعيًا جديدًا. كلّ هؤلاء لم يعودوا يرون في الاتحاد بيتًا، بل قبرًا فارغًا لا يصلح إلا لحفظ أرشيف لا يُقرأ. المشهد الثقافي في تونس يحتاج إلى مؤسسات حيّة، إلى هياكل تمتلك الجرأة على مواجهة السياسات الرسمية، على قول “لا” حين يجب قولها، على الدفاع عن حرية التعبير حين تُهدَّد، وعلى الوقوف مع الكتّاب حين تتعرّض أعمالهم للمنع أو التهميش أو الخنق البيروقراطي.
لكن الاتحاد، في لحظة تُشنّ فيها معركة خطيرة على الوعي، صامت.
وفي زمن تتراجع فيه القراءة، وتتلاشى فيه المجلات الثقافية، وتُهمل الفنون، ويُسحق المبدع اقتصاديًا واجتماعيًا، هو غائب.
وفي سياق عالمي يفرض فهمًا جديدًا للإبداع، وللثقافة الرقمية، وللمنصّات الحديثة، ولإنتاج المعرفة خارج القوالب الكلاسيكية، نراه غير قادر حتى على إدراك أنّ العالم تغيّر من حوله. إنّ المشكل أعمق من الموارد أو الإمكانيات.
إنه مشكل وعي ووظيفة.
فحين يتحوّل الاتحاد إلى فضاء بلا مشروع، بلا رؤية، بلا دماء جديدة، بلا تحرّكات جدّية، يصبح بديهيًا أن تهجره الأصوات الجادة، لأن الفعل الثقافي الذي يستجيب لمتطلبات القرن لا يمكن أن يعيش داخل مؤسسات متحجّرة تبحث عن البقاء لا عن التغيير.
لقد كان من المفروض أن يكون الاتحاد اليوم قوة راديكالية في الساحة الثقافية،
ولكنه اختار أن يكون متفرِّجًا في معركة كان يجب أن يكون أحد قادتها.
ولذلك فإن السؤال الحقيقي لم يعد: أين اتحاد الكتّاب؟
بل أصبح:
هل يريد الاتحاد أن يعود إلى الحياة؟
هل يريد أن يكون في دورة التاريخ الجديد للبلاد؟
هل يريد أن يتحرّر فعليًا من الإرث السلطوي الذي قيّد صوته لعقود؟
أم أنّه سيواصل التحوّل إلى هيكل مهجور، فيما يُصنع الفعل الثقافي الحقيقي خارج أسواره، وفي يد جيل جديد لم يعد ينتظر من أحد أن يمنحه الشرعية؟
عادل المعيزي: شاعر
أنا مطرود من اتحاد الكتّاب منذ 2003، وكان ذلك على خلفية الدعوة إلى مؤتمر استثنائي من أجل إعادة النظر في القانون وفي الهيكلة وفي البرنامج الاستراتيجي. ورغم تغيير قانون الجمعيات بعد 2011 بالمرسوم عدد 88، فإنّ شيئًا لم يتغيّر، بل إنّ الكثيرين يتحدّثون عن ملفات فساد كبرى.
وأعتقد أنّ على الحكومة، عوض أن تعلّق عمل الجمعيات المناضلة على غرار جمعية النساء الديمقراطيات و”نواة” والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وغيرها، أن تفتح ملف هذا الجهاز، وستكتشف المعنى الحقيقي لتجاوز القوانين. وقد أُبالغ – في نظر البعض – ولكنها الحقيقة: إنّ الفشل في تحقيق أهداف الثورة والالتفاف عليها يتحمّل مسؤوليته أيضًا اتحاد الكتّاب.
هذا الجهاز الذي تسبب في قتل الأدباء الحقيقيين على غرار رضا الجلالي ومنور صمادح وغيرهم، وفي تشريد الكثير منهم والتنكيل بهم، وأعجز في هذا الحيّز عن تعدادهم.
حاولنا في تلك السنوات القاسية التثوير ولم نستطع، ولكن كل الظروف أصبحت اليوم مؤاتية للدعوة إلى مؤتمر استثنائي. أتمنى على الشباب الدفاع عن إنجا…
محمد بوحوش: شاعر وقاصّ وروائيّ
يحيلنا الحديث عن اتحاد الكتّاب التونسيين على مكانة المبدعين والمثقفين عامة في المجتمع، ولدى الأنظمة السياسية التي أمعنت في تهميش هذه الفئة وتحييدها، وترويج صورة تزدري الكتّاب وتستخفّ بدورهم.
إذا تحدّثنا عن الهيكل بهيئاته ومنخرطيه ونظامه الأساسي وصفته كجمعية ودادية، فهو هيكل أجوف، ولا يُنتظر منه شيء ذو أهمية. ثم إنّ معظم المنخرطين، بل إنّ أغلبية المبدعين، هم كائنات هشّة، قلقة، مهتزّة، فاقدة للمعرفة والوعي النضالي، ولا تمتلك مؤهلات الدفاع عن القيم الإنسانية الكونية من قبيل الحرية والمساواة والعدالة، ولا حتى مقومات المشاركة في الشأن الوطني العام ومنه الشأن الثقافي. هذا دون أن ننسى أنّ السلطة السياسية كانت دائمًا تسعى إلى تجفيف منابع الدعم المادي للاتحاد إلى حدّ مطالبته بتسليم المقر، وهو ما ساهم في إعاقة عمل الهيئات المديرة المتعاقبة. كما أن صورة الاتحاد مهتزّة تاريخيًا لوقوفه في الغالب مع السلطة، إضافة إلى افتقاده للتمثيلية والديمقراطية والنضالية، إذ كانت جلساته الانتخابية قائمة على الفرز والإقصاء والولاءات، وهو مخترق ببعض مظاهر الفساد. كلّ هذه العناصر جعلت اتحاد الكتّاب التونسيين هيكلًا ميّتًا لا يساهم في الحياة الثقافية ولا السياسية بأيّ شكل كان، بسبب المناخ العام أيضًا حيث لا وجود لمشروع ثقافي وتربوي استراتيجي وتشاركي لبناء الإنسان، بل نحن إزاء إعادة إنتاج للإنسان الصفري الفارغ من القيمة والمعرفة والسلوك الحضاري. غالبًا ما يجري الحديث عن اتهام الهيئات المديرة، أي نقد العامل الذاتي، وتجاهل العامل الموضوعي المتحكم في تهميش دور الاتحاد ومكانة الكاتب والكتاب والمبدع والعارف والعالِم، وهو – في تقديري – العامل الأساس المتعلق بالسلطة السياسية وبالمجتمع. وبالأساس أيضًا فإن الكتّاب، كعامة الشعب، هم ضحايا أنظمة سياسية. ولعلّ وجود هذا الهيكل أفضل من عدم وجوده، فقد يأتي يوم ويكون فيه الاتحاد فاعلًا حين تتغيّر الأحوال، لعلّ وعسى…
بوبكر العموري: ناقد وشاعر
لقد جنت العشرية الإخوانية الدموية والفاسدة على الأجسام الوسيطة لتورّطها في إهدار المال العام والحصول على امتيازات، وربما تورّط بعض قياداتها في تلاعبات قانونية وربما شبهات فساد مالي. كلّ هذا استغلّته السلطة القائمة للإجهاز على ما تبقّى من مصداقية هذه الأجسام. فاتحاد الكتّاب لم يكن استثناء، فمنذ مؤتمره الأخير صار في عداد الجسد الميّت، بل إن أنشطته لم تتعدَّ ما يديره أحد أعضائه من جلسات شعرية باردة.
إن اتحاد الكتّاب اليوم هيكل فضفاض، وهيئته المديرة فاقدة لأيّ شرعية قانونية، لأنها تجاوزت العهدة القانونية منذ سنة، وبالتالي فإن إنجاز المؤتمر الذي أعلنوا عنه لا قيمة له إذا لم تُشرف عليه لجنة محايدة تقوم بالتدقيق والتحقيق فيما سبق من تجاوزات خطيرة في السنوات الفارطة، وتعمل على تخريط كل الذين تم إقصاؤهم لغايات انتخابية.
ثم إن البلاغ الذي نُشر يحوي إخلالات وتلاعبًا. فكيف يمكن إنجاز مؤتمر في يوم واحد؟ وكيف ستتم المناقشات التي لوحدها قد تدوم يومين، فماذا عن التصويت والفرز وما إلى ذلك؟ ثم إن مؤتمرًا يُنجز في يوم واحد وفي القيروان معناه أن الجهات البعيدة لن تستطيع المشاركة، وأن أغلب النواب سيغادرون قبل نهاية الأشغال للعودة إلى مواطنهم مبكرًا. ثم لا بدّ أن نعلم من أين أتت ميزانية المؤتمر حتى نفهم إن كان بأموال تونسية أم لا.
إن اتحاد الكتّاب تحوّل إلى هيكل للوجاهة والاستثمار الشخصي، ولم يستفد منه الكاتب التونسي بشيء. بل إن بعض قياداته تحوّل إلى أغنياء بفعل حانة دار الكاتب واشتغالهم مع دور النشر لاستغلال الكتّاب، وإنشاء دور نشر للابتزاز. وصار موقعهم في لجان الوزارة من موقعٍ معادٍ للكتّاب، إذ أصبح التحايل على القانون ديدنهم، حيث ينالون الدعم باسم الكاتب ولا يطبعون إلا 15٪ كحقوق عائدة له، ويستولون على بقية المبلغ. ومن هنا يتسببون بضررين: ضرر للكاتب، وضرر للكتاب الذي لا يدخل المعارض ولا المكتبات ولا يُروَّج، وهو ما يمثّل ضربًا للثقافة الوطنية وسمعة تونس بأسرها.
أنا أدعو الكتّاب إلى تحمّل مسؤولياتهم لإيقاف هذه المهزلة، سواء بالاستنجاد بالقانون أو بالتصدي لهذا العبث الذي تشرف عليه مجموعة لا علاقة لها بالوعي الثقافي الوطني.
إذا لم يقع التصحيح في هذه المنظمة العريقة، فإن الانسلاخ منها وتأسيس جسم يستجيب لطموحات الكتّاب وتطلعاتهم يكون هو الحل الذي سنعمل عليه مستقبلًا.
عادل الجريدي: شاعر
اتحاد الكتّاب التونسيين… في حالة الموت السريري
يعيش اتحاد الكتّاب التونسيين واحدة من أسوأ مراحله منذ تأسيسه، إذ تحوّل هذا الفضاء الذي كان يُفترض أن يكون بيتًا للإبداع والفكر الحرّ إلى مؤسسة شبه مشلولة، تُغلق أبوابها في وجه من يُفترض أن يكونوا أهلها، وتفتقد إلى المبادرة والمواقف والحضور الثقافي.
هيئة فقدت البوصلة
تشير شهادات عديدة من داخل الوسط الثقافي إلى أنّ الاتحاد لم يعد يؤدي الدور المنوط بعهدته. فبدل أن يكون منصة للدفاع عن حرية الإبداع وحقوق الكتّاب، غرق في صراعات داخلية وتصفية حسابات ضيّقة مع من خالفوهم الرأي، في محاولة لتدجين المنظمة وأعضائها الخارجين عن جُبّتهم. هيئة شهدت استقالات عدّة وصراعات باردة من أجل لا شيء، كما وُسّعت أبوابها لدخلاء على المشهد الأدبي والعمل الجمعياتي لا يحملون من صفة المثقف سوى الاسم. هذا الوضع ساهم في تفريط الهيئة المديرة في كثير من مكاسب الاتحاد، وتراجع رصيده المعنوي الذي بناه نخبة من الكتّاب والمفكرين لعقود طويلة. الاتحاد الذي كان سابقًا يحظى باحترام واسع داخل تونس وخارجها، وصوتًا مسموعًا في القضايا الوطنية والثقافية، أصبح اليوم غائبًا عن كلّ المنابر تقريبًا. أهمل الفروع، وتوقّفت مجلته الشهيرة، وغاب عن اللجان التي تهتم بالكتاب والدعم والنشر، واستُبعد من لجنة تنظيم معرض تونس الدولي للكتاب، وتم إعفاء كل الموظفين، وفُرّط في رخصة دار الكاتب، وأُهملت عديد التظاهرات التي كانت تابعة له…
موت سريري لمؤسسة عريقة
لا مبادرات، لا مواقف، لا أنشطة تُذكر. أبواب مغلقة وركود خانق يختزل حالة “الموت السريري” التي يعيشها الاتحاد. هذه المؤسسة التي كانت تمتلك حضورًا قويًا في المشهد الثقافي تحوّلت اليوم إلى هيكل بلا روح، يكتفي بالوجود الشكلي دون أي تأثير فعلي.
أزمة تحتاج إلى إنقاذ
إنّ وضع الاتحاد اليوم ليس مجرّد أزمة عابرة، بل هو نتيجة تراكمات من سوء التسيير وغياب الرؤية وانعدام المبادرات وترك الحبل على الغارب لمن لا علاقة لهم بالفعل الثقافي المسؤول. إنقاذه لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة للحفاظ على أحد أهم الفضاءات الرمزية في تونس الثقافية. فهل ينهض اتحاد الكتّاب التونسيين من هذه الكبوة؟ أم يُترك فريسة لمرحلة أكثر قسوة قد تنتهي باندثاره تمامًا، لا قدّر الله؟
كوثر بلعابي: شاعرة وناقدة
في الحقيقة، رغم أنّني أديبة تونسيّة وأعتزّ بكوني عضوًا منخرطًا في اتحاد الكتّاب التونسيين منذ ثلاث سنوات أو أكثر، لست متحمّسة كثيرًا هذه المرّة لانعقاد المؤتمر الانتخابي القادم يوم 21 ديسمبر 2025 بالقيروان.
كنتُ في السابق، قبل أن أصدر كتابي الثاني وأحصل على العضوية، أكثر اهتمامًا وحماسًا في متابعة أخبار مؤتمرات اتحاد الكتّاب وفعالياتها من بعيد. وكنتُ أنتظر بفارغ الصبر حصولي على العضوية لأتمكّن من مواكبة ما ينظّمه الاتحاد من أنشطة والمشاركة فيها، ولأحضر المؤتمرات وأقدّم ما في ذهني من مقترحات وأفصح عمّا أؤمّله من انتظارات.
وبعد أن أصبحتُ طرفًا في المنظمة، ساءني ما ألفيتها عليه من فتور وما اعتراها من أفول خلال السنوات الأخيرة، بلغ حدّ التقليل من أهمية المؤتمر الحالي الذي تقرّر انعقاده خلال يوم واحد، وفي غير موعده الأصلي، بعد سلسلة من التأجيلات. لقد انتظرتُ موعده متشوّقة لمواكبة فعالياته، وكان في ذهني أن يتم الإعداد له على الأقل بالمستوى الذي عرفناه في المؤتمرات السابقة. وكان بودّي أن أحضر وأشارك، وأن أجد لي مساحة كي ألقي كلمة أبلّغ خلالها الهيئة المديرة المنتخبة – مهما كانت الأسماء قديمة أو جديدة – بما تنتظره أديبة تونسيّة تحبّ أن ترى اتحاد الكتّاب في أوج الإشراق والفاعلية، تمتدّ فروعه وأنشطة نواديه على المركز وفي جميع الجهات؛ ميدان نضال وطني وعربي وكوني بالأدب والثقافة، يناهض الظلم والحيف وجميع أشكال امتهان الإنسان والمسّ من سيادة الأوطان، وينتصر للعدل والحق والحرية والسلام، ولحياة الإنسان بكرامة وأمان.
وتحبّ أن تراه منخرطًا في المقاومة الفلسطينية بإشهار الأقلام في وجه الكيان الصهيوني وحلفائه في الخارج والداخل، والوقوف في وجه الاختراق الإعلامي والثقافي الذي يستهدف هويتنا الثقافية ووجودنا الحضاري. وتحبّ أن تراه منظمة تُعلي من شأن الكاتب والكتاب في المجتمع؛ الخيمة الجامعة التي يلوذ بها أصحاب الأقلام إذا ضاقت بهم السبل وأدارت لهم الدنيا ظهرها، فتدافع عنهم وتتبنّى مشاكلهم ومشاغلهم، وتنبّههم إلى واجباتهم تجاه وطنهم كلما تاهت بهم الظروف، وتنير لهم سبل الارتقاء بالأدب والفكر التونسي، الذي يمثّل عاملًا أساسيًا في تسويق صورة ناصعة لوطننا وثقافته، ومقومًا أساسيًا في الارتقاء بمجتمعنا ذوقًا ووعيًا وقيمًا وسلوكًا وفعلًا في الراهن وإعدادًا للآتي.
وتحبّ أن تراه الأسرة الراقية التي تساعد الكتّاب على نشر إنتاجهم والمطالبة بحقّهم في دعم مؤسسات الدولة لهم ماديًا واعتباريًا وإعلاميًا، وتحتفي بكتبهم وتُرمّزهم بنزاهة ودون تمييز أو إقصاء، إلا حسب ما يستوجبه مستوى جودة الكتابة وصدقها ورقيّها وإيجابية محتواها. وتحبّ أن تراه الجهة التربوية والتعليمية التي تعمل على توجيه وزارة التربية نحو إدراج الكتابات التونسية الجديدة ذات الجودة والمحتوى المناسب في البرامج المدرسية، وعلى توجيه وزارة التعليم العالي نحو إنجاز أطروحات الماجستير والدكتوراه حولها، حتى لا يبقى تلاميذنا وطلبتنا محدودي المعرفة بالأدب التونسي وأعلامه، والحال أن درايتهم لم تتجاوز بعض إنتاج أبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي.
أتوقّف هنا وأنا لا أخفي حيرتي واتحاد الكتّاب على هذه الحال:
هل انتظاراتي هذه مشروعة وممكنة؟ أم أنّ سقفها عالٍ أكثر من اللزوم؟
وكم يلزم من الوقت، ومن المواقف الجادة والحازمة، ومن الإنجازات الفعلية، حتى يتحقّق الحدّ الأدنى من المواصفات المطلوبة والمكانة المفروضة التي ينبغي أن يكون عليها اتحادنا، فيناسب الاسمُ المسمّى؟
منذر شفرة: ناقد ومترجم وشاعر
اتحاد الكتّاب التونسيين… وجهٌ لهيكلٍ متقادِم
لا يمكننا في البداية الحديث عن اتحاد الكتّاب التونسيين دون التطرّق إلى الميراث الكبير والعميق الذي وسمه، وجعل منه صرحًا للإبداع وللتفوّق في مستويات عديدة. فهو تاريخ مشرِق منذ الستينات والسبعينات والثمانينات. ولكن المتأمّل للوضع الحالي في المشهد الثقافي يلاحظ أنّ اتحاد الكتّاب التونسيين أصبح هيكلًا متقادِمًا ليست له علاقة أوّلًا بالمبدعين الجدد، وغير منخرط في الكتابات الجديدة التي تنبع من الجانب الخاص أو الإبداع الفردي. لقد أضحى اتحاد الكتّاب التونسيين هيكلًا متداعيًا للسقوط؛ هيكلًا يرى ولكن لا يفعل في المشهد الثقافي ما يجب أن يفعله من تقدّم للسرد والشعر والمسرح الأدبي التونسي. فلا هو يعود إلى الوراء محاولًا أن يعطي وجهًا ناصعًا للأدب الكلاسيكي التونسي، ولا هو واكب الإبداعات الجديدة والإرهاصات الشعرية والنقدية والفكرية. فهناك بونٌ شاسع بين الأعمال الأكاديمية في الأطروحات التي تتناول الأدب المغاربي وخصوصًا الأدب التونسي، وبين دور الاتحاد، إذ لم يكن له أيّ وقع على كلّ ذلك. بل أصبح يحاول أن يتنفّس تحت ماء الإبداع دون أن يفرض نفسه في المشهد الشرقي، لأن الشرق – أحببنا ذلك أم كرهنا – هو منبع الإبداع العربي، وعلى المغرب العربي أن يفرض لونه ويتمّيـز، مثلما تميّزت إرهاصات الشابي مثلًا أو غيره من المبدعين الذين انطلقوا من هذه الأرض الخصبة حتى يفرضوا لونًا أدبيًا خاصًّا، كما يقول فيكتور هوغو، حيث إنّ اللون المحلي هو اللون الحقيقي للأدب.
فما هي الحلول إذًا؟
أعتقد أنّ الحلّ الأساسي يكمن في دمج الإبداع الحديث بهذه البوّابة التي تُسمّى اتحاد الكتّاب التونسيين. إذ يجب على الاتحاد أن يضمّ كلّ أطراف الإبداع، لا أن يقتصر على الموروث ويتكلّس ويقدّس المعلومات القديمة والإبداعات في شكل واحد أحادي يُقصي كلّ ما هو تجديد وتحديث.



