spot_img

ذات صلة

جمع

استعادَةٌ حميمة لِراويةِ المُخَيَّم الشاعر “أحمد دحبور”: “وَلَدٌ وَأشْيَبْ”

الشاعر: هادي دانيال يَكْبُرُني "أبو يَسار" بِعَشْرِ سَنَوات، لكننا وُلِدْنا...

إلى هؤلاء الذين مازالوا يمتلكونَ ضوء الطيبةِ والحكمةِ في قلوبِهمْ

الشاعر: أسامة حمري قصيدةٌ مهداة إلى مصطفى الكيلاني وهادي دانيال.****مُفْعَمونَ...

كرنفالُ المُسُوخ

الشاعر: هادي دانيال زمجرَ البياضُ فارْتَعَدَ الحبْرُكانَ نهاراً صافياًفاربدّوالعصافيرُ قوقأتوالظِّباء...

شعرية الكثافة والزخم الدلالي للقصيدة

بقلم: الشاعر والنقاد المصري" عبد الله السمطي

تنتظمُ شعرية الخطاب في ديوان: (أغنياتُ أفروديت السريّة) للشاعرة اسمهان الماجري في جُملةٍ من المحدّداتِ الدلالية والجمالية التي تنبثق وتتجلى في مختلف نصّوص الديوان البالغة (63) نصًّا، وذلك بالارتكاز مبدئيًّا على البنية القصيرة للأداء الشعري، حيث تتوزع هذه النصوص على ( ) صفحة، بواقع صفحة ونصف تقريبا لكل نص. إن هذه البنية القصيرة تتحدد في كونها تعبّر شعريا عبر الجمل القصيرة المكثفة، وعبر التركيز الشعري، والإيجاز، ونفي الاستطراد، والتعلق دائما بخلاصة الشيء، والاعتماد على الكلمة لا الجملة بالضرورة في اقتناص الصور الشعرية، وفي صناعة الانزياحات الكثيفة التي تجعل من الكلمات بمثابة أيقونات مشعة في جسد النصّ. فالديوان الصادر عن (دار زينب للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى (2025) يقع في (98) صفحة يضم (63) قصيدة قصيرة تقع ما بين الصفحات (11- 96) وتتضمن بعض النصّوص القصيرة جدا، النصّوص الومضية التي تعتمد على لقطة شعرية أو مشهد تصويري مركز. تتوزع نصوص الديوان فعليا على (88) صفحة، أي أن (63) نصّا شعريا تقع في (88) صفحة، بمعدل (1.396) لكل نصّ، أي أن كل نصّ تقريبا يقع في صفحة وثلث، مما يدلل على قصر النصّوص، وارتكازها على سمات: التكثيف، والإيجاز،ّ والاختزال والحذف. نحن تلقاء نصوص مركزة جدا في بناها العبارية وفي كلماتها وسردايتها، لكنها رغم هذا التركيز تتسع بدلالات رحبة شاسعة. دلالة الإهداء: الإهداء في الديوان يُقدّم إلى زوربا، بطل رواية اليوناني كازانتزاكيس، الذّي اشتهر بالرقص وحب الحياة، وتضيف الشاعرة إليهما: الحب. هذه الدلالات الثلاث الرحبة هي التي تقودنا صوب الاستهلال المبدئي لتلقي ديوان: ” أغنيات أفروديت السريّة.” إن الشاعرة كذلك تنقلنا منذ البدء إلى أفق أسطوري، باختيار شخصية (أفروديت) إلهة الحب والجمال والجنس عند اليونان. والتماهي معها شعريًّا. الذات الشاعرة هنا تتقمص وتتقنع دور أفروديت في رمزية الحياة، لكنه تقمص وتقنّع ليس من قبل إحلال شخصية مكان شخصية، بل من قبيل التماهي، والحلول فيها. فنصّوص الديوان تتحلى بظلال الشخصية، وبأمطار سحاباتها الدلالية التي تظلل معاني الديوان وصوره وأخيلته وهواجسه. هذا التماهي – مؤقتا أو غير مؤقت – يقودنا إلى دلالات بعيدة تحفزها النصّوص، وتومئ إليها دائما. إننا أمام بنية ثلاثية يمكن إبداؤها كالتالي: الذات الشاعرة : زوربا – الرقص- الحياة الذات الشاعرة : أفروديت – الجمال – الغناء الذات الشاعرة : الحب – الفضاء السرّي – البوح في هذه البنية الثلاثية يتجوهر صوت الشاعرة، وينطلق للبوح والتعبير عما تكنه لذاتها أولا، ثم للآخر العاطفيّ الذي يتجلى في بعض النصوص ، بيد أن الحب الطليق في الديوان هو حب كونيّ ، يلوذ بالأسطورة ، ويتجلى بها، ويتماهى بعناصرها، فيما يمنح الأبعاد الرمزية عمقها، باستدعاء حالة تناصية لا تتجسد بالضرورة في الشخصيات ، أو النصّوص، بل في المعنى الأبعد والأعمق، أو فيما وراء النصّوص . تمنح الشاعرة ديوانها قدرا كبيرا من الخصوبة التعبيرية، فالديوان لا يزفٌّ لنا قدرا من الوجدانيات أو الومضات الشعرية العابرة، لكنه يمضي معنا وبنا صوب اكتشاف دلالات الحب والجنس والتفاعل العاطفي بطرق مغايرة، على الأغلب، تقدم فيها الشاعرة رؤاها الذاتية، وتتعمق فيها، كأن دلالة: (الحب) تولدُ عندما من جديد، وتنبثق تجلياتها الرمزية والجمالية بشكل مختلف. إن قراءة نصّوص الشاعرة تعطينا ذلك، كما تعطي أن الرؤية الشخصية الذاتية تمهرُ الجمل الشعرية بآفاق بعيدة، خاصّة إذا كان التوظيف التقني لها يلوذ بالصور الصادمة، ويشكل تجلياته من المعاني البعيدة، التي تستنبط من الأشياء اليومية، ومن التفاصيل الخاصّة، ومن الأجواء الأنثوية وتعيد صياغتها شعرًا، دون الارتكاز بالضرورة، على المشهد البلاغي الموروث، بل بابتداع صور مشهدية وسردية وتداولية تبرز الرؤية والجهد الجمالي الذي تنهض به الشاعرة من أجل تكوين تجربتها الشعرية في الديوان. تستهل الشاعرة ديوانها بقصيدة بعنوان : ( فلسفة) تقول فيها : عندما يتعلق الأمر بقلبي أحبّ أن أجوبَ الحدائق على دبابة حربية وأن أصنع من ماء عيني أكواريوم لسمكات حبكَ المتغلغلة في لغتي وأن أكونَ كأهل قريش في كفري إذا ما قيل لي أن هناك دينًا جديدًا غير دين أناملك تمرّ على يدي فأتلو من الأديان ألفا / ص 11 يشكّلُ نصّ : ( فلسفة) مدخلًا أوليًّا لاستشراف الرؤية الشعرية لدى اسمهان الماجري، فالنصّ بأسطره الثمانية هو نصّ رؤية، باعتماده على مفردة ( فلسفة) بما لها من دلالات فكرية وحوارية وجدلية، الجملة الأولى في النصّ جملة صادمة :” عندما يتعلقُ الأمر بقلبي، أحبُّ أن أجوبَ الحدائق على دبابة حربية” . لم تدخل الشاعرة هنا مدخلا عاديا مُسالما أو سينتمنتاليا رومانسيا فيما يتعلق بكلمة: (القلب) خاصّة عند المرأة، القلب له دلالاته العاطفية الوجدانية العميقة، أكثر إحساسا وأكثر التصاقا بالتجربة الحياتية للمرأة، مع اقترانه كذلك ب (الحدائق) . يتوقع القارئ هنا أن الذات الشاعرة سوف تعطي مفاتيح رومانسية للقراءة، وأن قصيدة الحب سوف تقدم شغفها الذاتي، بالجماليات والأحاسيس، وعالم الحب وعالم الأشجار والزهور والطبيعة المكتنزة. الشاعرة كسرت هذا كله بتعبير صادم: أحبّ أن أجوب الحدائق على دبابة حربية. قد يتساءل القارئ الرومانتيكي الشغوف: ما علاقة الحب والحدائق بالدبابة الحربية؟ بيد أن فلسفة النصّ هنا تلوذ بفعل المفارقة، بل بالصدمة التي تجعل القارئ منتبها لما سيأتي. الصدمة المرتبطة بالحديد وإطلاق النيران والمدافع، في أجواء من المفترض أن تكون عاطفية وطبيعية. بيد أن استعارة الدبابة الحربية هنا تنقلنا إلى أن هذه الذات الشاعرة لا تستسلم لغواية الحب، قدر ما تقدم رؤيتها الذاتية، هي تريد للشخصية أن تفارق وأن تصدم، أن تبرز جرأتها في قراءة الآخر وفهمه، أن تعطي وعيها قدرا من الجرأة والبسالة التي تذهب بعيدا، وتلاقي الآخر من منطق (القوة) الوجدانية، لا من منطق الاستسلام والغواية. وإذا كان عنوان الديوان يستثمر دلاليا ورمزيا اسم (أفروديت) ويستدعي صفاتها في الحب والجمال والخصب والغناء، إلا أن الشاعرة تبدأ بتضاد آخر، فلشخصية (أفروديت) جانب آخر قوي، ربما يكون شريرا في رفضها لآخر، وإقبالها على ثالث، وممارسة الحب كما تريد هي لا كما يريد الآخرون، كما فعلت مع (باريس) و(أدونيس) كما تقول الأسطورة من تواصل عاطفي حينا أو من حرب عاطفية أحيانا. الشاعرة لا تغيب عنها هذه الرؤية في النصّ. إنها تذهب بعيدا لتقدم رؤيتها هي للحب، فهو ليس مجرد وصال وغِزال وغواية رومانسية قدر ما هو: موقف من الحياة والإنسان، ولذا تستمر في وضع رؤاها الوجدانية، فيتحول ماء العين إلى حوض أسماك في الحب، وتصبح كأهل قريش في كفرهم بالاعتيادي والبحث عن دين آخر للحب، قد يتشكل في ألف ديانة، تتأسس على هذه اللمسات العاطفية التي توقظ الروح والقلب معا. إنه حبٌّ ذاتيٌّ مغاير تصنعه رؤية الشاعرة ولا يصنعه المعهود من تقاليده وحكاياته تركيز أيقوني: عطش هو أقصر نصّ بالمجموعة الشعرية / ص 69 يتكون من أربعة أسطر تقول فيه الشاعرة: عندما وقعتُ في حبكَ عَلم كل العالم أن الحبّ هو أن يصاب الماء بالعطش كذلك نص ( عيناك) : الخضرةُ في عينيك وطعم العشب الندي في الأفواه المتعددة لقلبي / ص 81 في هذه النصّوص القصيرة جدا، تتبدى شعرية الكثافة والاختزال، وهما يشكلان مبدأ فنيّا جوهريا لدى الشاعرة، يحفزنا على التركيز على المفردات نفسها عند القراءة، بحيث إن هذا التركيز يجعل منها أيقونات مشعة، وليست مجرد كلمات في سياق. كل كلمة تتشح بقصدية دلالية وتعبيرية معا، خاصّة حين يحدث نوع من تراسل الحسي والمعنوي، واستدعاء الكائنات والتفاصيل والأشياء البسيطة وتفجير شاعريتها. ويذكرنا نصّ: (مثنى في صيغة المفرد) بعنوان أدونيس: (مفرد في صيغة الجمع) / ص 12، حيث تفتتح الشاعرة نصّها بالقول. أن أغسل القصائد بعرقك قبل أن أتناول وجبة الشعر الشهية حيث تعبر هنا عن حبها للآخر، العبارة هي عبارة تأسيس رغم تكرارها، أو عبارة مفتاح لبناء النصّ كله، هي: ” لأنّي أحبكَ” ثم يبدأ النصّ في الاسترسال والتتالي مبررًا لماذا هذا الحب؟ وما ماهيته؟ النصّ يبنى على هذا الاستهلال، ليبرر دلاليا ، ويصنع حالة من الربط بين أجواء النصّ جميعا، كلماته وعباراته وبين هذا المفتتح، يقول النصّ: لأنّي أحبكَ: أستطيعُ أن أستعمل نفس الشوكة نفس الكأس نفس قارورة الماء أن أغسل القصائد بعرقك قبل أن أتناول وجبة الشعر الشهية أن أبكي كمجانين الرازي عندما ترتفع نبرة صوتك في وجهي ولو كخفقة جناح عصفور أن أصبح أهدأ من ورقة فارغة عندما تحدثني عن الفنّون وأن أصبح إعصارًا في كأس عندما أغضب منكَ وأتحدّاكَ كطفلة تربّعت وسط الطريق مولية ظهرها للسيارات المجنونة / ص 12 كل نصّ يتأدى بشكل متسلسل، الجملة تقود إلى الجملة التالية مرتبطة بها نحويا ودلاليا، على شكل حلقات دائرية متسلسلة، من دون قطع على الأغلب، فالنصّ يُقرأ دفعة واحدة كسياق موحّد ، مع تعدد صوره ومشاهده التصويرية، يبقى مشدودا في بعض الأحيان لعبارة الاستهلال، يُقدُّ منها دلاليا ومضمونيًّا، وهذا الأسلوب من البناء النصّي يجعل للنصّ أجواء طقسية ، إذا صحّ التعبير – يتسنى للقارئ استشرافها في أفق موحد، وعبارات وسياقات متداخلة بشكل سردي شعري جلي. وفي نصوص كثيرة تستخدم الشاعرة هذا التسلسل الدلالي، كما في. (زهرة سوداء) حيث يربط حرف الجر (من) ومعه تاليا بعض الأفعال بين البنية الطقسية الدلالية للنصّ، تقول الشاعرة: عندما أتعبُ من حمل نفسي من ثقل زهرة صغيرة فوق شعري من صوتي الذي يخرج من حلقي كحبال السفن الضخمة من طلاء أظافري الأسود عندما يصبح أخفّ من حزني ومن قلبي المربوط في ساقي ككرة حديدية ولا تتركني أتحرك أو أجري أو أبحث عن حوض جاف أسقيه دمعي، ولكن لا تتساقط من عيوني إلا حجارة نحو الداخل وتثقب رأسي من الخلف. / ص 13 وتسود بالديوان أجواء الحب، كما في نصّوص: شيفرة النصّ، ومطبخ أفروديت، وقطار الحب، وأول قصيدة، وامرأة خارقة، وقد تتخذ طابعا رومانتيكيا لكنه مرتبط بتفاصيل الحياة الراهنة، وقد يذهب إلى بعد سوريالي، أو بعد إيروتيكي في أحيان قليلة، لكنه يعبر عن الذات الشاعرة، وفرحها بالحياة والخصب والرقص، وطزاجة الوهج الغنائي الشفيف.

spot_imgspot_img