
الكاتب والشاعر: شاهين السّافي
تعتبر مسألة “اعتزال الفنّ” من المسائل المهمّة التي كثيرا ما تكون مثار جدل. فكما تعدّ لحظة دخول هذا الفنّان أو ذاك إلى معترك الحياة الفنيّة لحظة مهمّة، لحظة يستقبلها أهل الفنّ ونقّاده وعشّاقه بكثير من الاهتمام تقييما واستشرافا لنجاح الفنّان أو تنبّؤا بفشله، فإنّه في المقابل، تحظى تلك اللحظة الصادمة: لحظة إعلانه “الاعتزال” باهتمام لا يقلّ شأنا عن لحظة ولوجه عالم الفنّ.
أوّل سؤال يطرح عندما تلقي لحظة الاعتزال بظلالها هو: “لماذا؟”. ويشرع القوم في الخوض في الأسباب، خاصّة في ظلّ غياب تصريح واضح دقيق من الفنّان نفسه، أو إن تأخّر ذلك. الكلّ سيدلي بدلوه محاولا التكهّن بعلّة هذا القرار، وسيكثر الحديث بعضه خاضع للعقل والمنطق وبعضه خلو من كلّ ذلك، ويظلّ الأمر على هذا الحال حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
أسباب الاعتزال كثيرة، منها ما يتعلّق بالتقدّم في السنّ وما يرافقه من وهن الأسقام وظلم الأيام، وهي دُوَلٌ، ومنها ما يتعلّق بالأفكار والعقائد، فقد يصدر هذا القرار الصادم -بطبعه- عن فنان وهو أوج عطائه وفي قمة مجده وتعاظم شهرته، فتتّسع رقعة الصدمة أكثر في الأوساط الفنيّة وفي صفوف المعجبين.
*****
في إحدى المقابلات التلفزيّة القديمة (وهي موجودة على الانترنيت) التي تعود إلى سنة 1997، عمدت مقدّمة برامج إلى استفزاز الفنان الراحل زياد الرحباني، وذلك بالحديث عن صورة لينين التي يزيّن بها غرفته، فأجابها بأسوبه الساخر الذكيّ: “طبعا.. شو بدك ياني حط يعني؟ صورة ربيع الخولي؟” (هل تريدين مني أن أعلّق صورة ربيع الخولي في غرفتي؟). وغنيّ عن البيان أنّ ربيع الخولي هو واحد من أشهر فنّاني تلك الفترة سواء في لبنان أو الوطن العربي، والواضح أنّ زياد كان يقدّم في هذا الخطاب الساخر موقفا من الخولي، وذلك من خلال رسم صورة التقابل بين تعليق صورته وتعليق صورة لينين في غرفته.
بعد هذه المقابلة بسنوات قليلة، صدم الفنّان ربيع الخولي الجميع حين أعلَنَ خبر اعتزاله الفنّ، وكان ذلك في لقاء تلفزيوني خاطف -بثّه التليفزيون اللبناني- سُجِّلَ في بيته، وقد ظهر فيه محاطا بالصلبان وصور المسيح المعلّقة على الجدران، وصرّح أنّه قد اهتدى أخيرا إلى طريق الرب، زاعما أنّه تلقى إشارات ربانيّة من يسوع المسيح لينقطع عن طريق الفن والشهرة الجاه والمال والملذات، ويمضي في طريق التعبّد والرهبنة والخلاص، وقد صار اسمه منذ تلك اللحظة طوني الخولي بدلا عن ربيع الخولي، ولعلّه وجد “الربيع”، ربيعَه الروحي، في رحاب الأديرة التي كان يتنقل بينها متعبّدا ودارسا للاهوت المسيحي الكنسي، فبعد ذلك الحدث بسنوات صار الأب طوني الخولي (ربيع الخولي سابقا) واحدا من “أشهر” الرهبان الموارنة في لبنان.
*****
انفجرت مقدمة البرامج ضاحكة حين أجابها زياد الرحباني بتلك الطريقة الساخرة المباغتة. فاستأنف الكلام مضيفا: “موش ضروري ربيع (يقصد الخولي).. أي ربيع من الشباب الموجودين”. فهو لم يكن يهاجم أحدا بشكل شخصيّ، وإنما كان يهاجم الفكرة التي يمثّلها ربيع الخولي -مثلا- وهي موجودة عند أناس كثيرين غيره (أيّ ربيع كان).
في الفترة التي أعلن فيها الخولي عن اعتزاله الفن، كان هناك فنّان آخر، من أبناء لبنان، قد شرع في ولوج عالم الفنّ يدعى فضل شاكر، وذلك أواخر التسعينات ومستهلّ الألفيّة، وكانت أغانيه تدور في نفس الفلك الذي دارت فيه أغاني ربيع الخولي، وهو عالم الحبّ والعاشقين، فلا تخلو واحدة منها من كلمة “حبيبي” أو “بحبّك” أو “روحي” إلخ.. وقد حقق في هذا المضمار نجاحا عظيما أهّله ليكون أحد أهمّ الفنانين طيلة العشريّة الأولى من الألفيّة، حتى أنّه حاز على لقب “ملك الرومنسيّة”.
فجأة، أعلن فضل شاكر اعتزاله الفنّ سنة 2012، وقد كان هذا الحدث الصادم مرفوقا بتغيرات في هيأته، إذ ظهرت عليه معالم التديّن الشكلي، وتغيّرات في سلوكه، إذ انتشرت على الانترنيت صور له وفيديوهات توثّق حمله السلاح ودعمه لبعض المجموعات التكفيريّة المسلحة، وربما مشاركتها في الأعمال القتاليّة، لتكون الصدمة مضاعفة في صفوف متابعيه ومحبّيه.
ثمّة مسألة لابدّ من توضيحها في سياقنا هذا. فالمشكلة -في تقديرنا- ليست في حمل السلاح في حد ذاته، وليست المشكلة كذلك -كما يرى البعض- في أن يحمل الفنان سلاحا آخر غير فنّه. فتاريخ الثورات يروي بطولات سطرها العديد من المثقفين والكتاب والفنانين من خلال إسهاماتهم القتاليّة في العمل الميداني الثوري. المشكلة هي: ضدّ من ومع من تحمل السلاح؟
*****
حين أعلن فضل شاكر اعتزاله، كان الرجل واضحا وصريحا، فقد كان ذلك الإعلان مقترنا برأيه حول الفنّ وحرمته: “الفنّ حرام”. وضمن هذه الحدود يمكن أن ندرج موقفه -على رجعيّته- في خانة “حريّة الرأي” أو “حريّة الضمير” أو “حريّة المعتقد”، طالما أنّ الأمر لم يأخذ طابعا عنيفا ولم يعمد صاحب هذا التصوّر إلى فرضه على بقيّة الناس بالقوّة والإكراه.
إلاّ أنّ الأمر قد تخطّى ذلك بكثير، فقد انتسب شاكر إلى إحدى المجموعات التكفيريّة وحمل معها السلاح، وصدرت عنه تصريحات مرعبة منها ما يتعلّق بالتهديد بالقتل والتصفية على يده، كما فعل مع رئيس بلديّة صيدا (“وين مبشوفك قاتلك”)، ومنها ما يتعلّق بمهاجمة بعض الفنانين على خلفيّة عقائديّة طائفيّة سياسيّة، ويذكر أنّه قد تهجّم (تقريبا في 2013) على كلّ من الفنان عاصي الحلاني ووصفه بـ”الشيعي” والفنان راغب علامة ووصفه بـ”الدرزي”، وهو تهجّمٌ لا يخلو من روح “الوشاية” والطائفيّة في آن معا، وذلك لأنّهما يدعمان “حزب الله” (“حزب اللات” كما وصفه) ويخصصان قسما من عائدات حفلاتهما دعما لهذا الحزب في “حربه ضد السنة” وفق زعمه.
رفعت ضدّ فضل شاكر دعاوى قضائيّة عديدة منها ما يتعلّق بالجرائم الماليّة مثل تبييض الأموال، ومنها ما يتعلق بالإرهاب والمشاركة في معارك ضد الجيش اللبناني وقتل عناصر منه. دخل شاكر في مواجهة مع القضاء اللبناني، وكانت مزيجا بين الكر الفر، بين الإدانة والتبرئة، وتزامن ذلك مع تراجعه التدريجي عن قرار الاعتزال، وكذلك مع ما يدور في المنطقة من أحداث، ولا يمكن لعاقل أن يفكّ الارتباط بين عودة سطوع نجمه من جديد كـ”ملك الرومنسية” من جهة، وما حصل في سوريّة من تغيّرات مزلزلة من جهة ثانية.
خلال فترة الكر والفر مع القضاء اللبناني والعودة التدريجيّة للغناء، وتحديدا سنة 2019، نشر الأب طوني الخولي على الانترنيت صورا قديمة له حين كان اسمه الفنان ربيع الخولي، وهي صور تجمعه بزمرة من الفنانين يرتدون الزيّ العسكريّ الرسمي خلال حفلات أحيوها في عيد الجيش اللبناني، وقد أرفق تلك الصور بتدوينة قال فيها: “لما كنت ربيع الخولي كنت حب الجيش كتير وشارك كل سنة بالعيد في الأول من آب، وعندما أصبحت راهباً وكاهناً بتّ أحب الجيش أكثر وأصلّي له لأنّ حياة الجيش تشبه حياة الراهب فيها عطاء وتضحية للغير، وموت عن الذات، الله يرحم شهداء الجيش اللبناني وتكون نفسهم بالسما آمين”.
هل كان ذلك صدفة؟ أو هي ربما رسالة مشفّرة مفادها: من حقّك أن تعتزل الفنّ إكراما لعقائدك ولكن ليس من حقك أن تقتل باسمها.
*****
في حقيقة الأمر من المفيد أن نلمع إلى أمر مهم يخصّ مسألة اعتزال الفنّ عند الخولي، فهو من جهة حين حرّم الفنّ (باعتباره صنو الملذات) قد حرّمه على نفسه فقط التي تاقت إلى حياة الرهبنة، ولم يهاجم أحدا لأنه لم يختر هذا الطريق، وهو من جهة ثانية لم يحرّم على نفسه “الفنّ” في المطلق، وهذا الموضوع يحتاج إلى أن نخصّه بمقال مستقلّ، فيكفي أن تفتح بعض القنوات التلفزيّة المسيحيّة التبشيريّة حتى ترى الأب طوني الخولي، في فيديو كليب، وهو بلباسه الرهبانيّ الكنسيّ المهيب ممتشقا آلة العود ويغني “أيتها البتول مريم”، وهي من ألحانه. فهو لم يعد ربيع الخولي الذي غنى “على رمش عينها قبلت هوى”، ولكنه بات الأب طوني الخولي الذي يغنّي للبتول واليسوع والمجدليّة. إنه اعتزل “فنّا ما” (وليس “الفنّ” بإطلاق) واختار فنّا آخر له نواميسه وبنيته، بل وجماليّته أيضا.
أمّا “ملك الرومنسيّة” فقد عاد إلى نقطة البداية. فقد حرّم الفنّ في المطلق على نفسه وغيره، وعاد إليه في المطلق وكما كان، فكلّ أغانيه الجديدة تدور في نفس فلك القديمة: عالم الحب والعشاق. ولكن بصراحة ليس في ذلك ما يعيبها، بل إنها قد تكون غاية في الروعة إن أجرينا ضربا من الرياضة الفكريّة -من باب الترف- وتناولناها من زاوية فنيّة صرفة.
ولكنّنا، بصراحة أكبر، لا نملك ذلك التّرف، ونحن زاهدون فيه، فلا يمكن أن نفصل الظاهرة الفنيّة -حين ندرسها- عن مختلف السياقات الحافّة بها، وهو ما يعيدنا إلى ذلك الموقف الساخر الذي قدّمه زياد الرحباني حين سئل عن سرّ تعليق صورة لينين في غرفته. فلم يكن يعنيه الفنان ربيع الخولي ولا -فيما بعد- الأب طوني الخولي ولا فضل شاكر وأضرابه. فلزياد الرحباني رؤية أخرى للفنّ، وله مسار آخر في تناول موضوع العاطفة في الفنّ، وله تصوّر واضح حول انسجام الفنان مع فكره وفنّه وممارسته.
في المحصّلة، كلّ واحد سيعلّق في غرفته الصورة التي تشبهه، الصورة التي تعبّر عن الأفكار التي يتبناها. ولكن من اختار أن يعلّق صورة لينين في غرفته فمن الفطنة أن يعلّق إلى جانبها صورة أخرى.. صورة زياد الرحباني.