
الكاتب الشاعر: شاهين السّافي
13 جانفي 1898 لم يكنْ يومًا عاديّا في فرنسا. ثمّة حدث مهمّ سيلقي بظلاله مستقبلا على الحياة السياسيّة والثقافيّة ليس في فرنسا فحسب بل في كل أصقاع الدنيا. هو حدث قد يبدو روتينيّا في الحياة العصريّة، كأن ينشر كاتب ما مقالا في جريدة يعبّر فيه عن رأي ما حول موضوع قد يهمّ الأدب والفكر والفنّ أو الثقافة بشكل عام، أو قد يدلي بدلوه فيما يدور حوله من أحداث في الحياة العامّة. ولكنّ النصّ الذي نشر في ذلك اليوم قد حوّل هذا الحدث العادي المألوف إلى حدث استثنائي مزلزلٍ.
في هذا اليوم أفاق الفرنسيون على مقال نشرته جريدة L’Aurore للروائي والكاتب الفرنسي ايميل زولا (Emile Zola) في شكل رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية فيليكس فور (Félix Faure) وكان قد اتخذ لها عنوانا مربكا سيتحوّل فيما بعد إلى عنوان من عناوين الاحتجاج على كلّ شكل من أشكال الظلم والقهر، وهو -بكل بساطة- “أتّهم (J’accuse)”.
هذا النصّ/الرسالة/المقال كان صرخة مدوّية آنذاك ضدّ مظلمة كبرى تعرّض لها الضابط الفرنسي دريفيس (Dreyfus) الذي اتهم بالخيانة العظمى وحوكم ظلما في ظل محاكمة افتقرت إلى كل شروط المحاكمات العادلة، وقضت بإدانته واعتباره خائنا لبلاده وشرفه العسكريّ، خادما لألمانيا، عميلا لها، في ظلّ واقع سياسي واجتماعي وثقافي مشحون ومقترن بتعاظم موجة اليمين القومي الديني، وذلك في إثر فشل تجربة “كومونة باريس” وهزيمة الفرنسيين ضد الألمان في الحرب التي دارت رحاها في مستهل السبعينات من القرن التاسع عشر.
كان دريفيس ضحيّة مؤامرة حاكتها بعض الأطراف النافذة آنذاك في الدولة الفرنسيّة، وتحديدا في المؤسسة العسكريّة المثخنة بجراح الهزيمة. فقد كان من الضروري لها أن تقف أمام الجميع لتعلن أنّها تتعافى وهي تطهّر نفسها من العناصر الفاسدة التي قد تكون سببا في هزيمة الماضي أو سببا في هزائم المستقبل، وكان من البديهي أن تختار “الأضحية” بعناية شديدة، أي أن تجمع كل التفاصيل التي تجعل من روايتها محلّ تصديق وإجماع، وبالتالي تكون الفعلة – مهما بلغت من الفظاعة والوضاعة- محلّ تأييد ومباركة.
نزعم أنّ المؤامرة التي حيكت ضد دريفيس لم تكن بدافع حقد شخصيّ، وإنّما هو حظّه العاثر الذي جعل منه عسكريّا ألزاسيّا يهوديّا. هنا اكتملت صورة الأضحية فنحن أمام عسكريّ فرنسي يتكلّم اللغة “الوطنيّة” (الفرنسية) بلكنته الألزاسيّة التي قد لا تروق للبعض، كما حصل قبل ذلك بقرن مع بونابارت في شبابه حين كان في الكلية الحربيّة، إذ لم ترق لكنته السردانيّة للكثيرين من زملائه أو من الضباط الكبار، ورغم تفوّقه كان محل استهجان وسخرية، ولو لا الثورة الفرنسيّة والأفكار الجديدة التي جاءت بها لظلّ بونابارت ضابطا بسيطا برتبة صغيرة أو متوسطة في أفضل الأحوال، ولكن للتاريخ أحكامه، فكانت الثورة التي انتصر لها فبوّأته تلك المنزلة العظيمة فيما بعد.
الألزاس هي منطقة حدوديّة مع ألمانيا، وكان التنازع عليها مفجّرا للحروب بين البلدين، وقد ينظر إلى أهلها، بعضهم على الأقل، بعين الريبة، ومن المستساغ التشكيك في وطنيّة واحد منهم أو الطعن في ولائه للدولة الفرنسيّة. زد على ذلك أنّ دريفيس يهودي، فهو في التصوّر المسيحي المتشدّد واحد من أحفاد قتلة المسيح ومن سلالة من شككوا في كونه النبيّ المخلّص (أو “ماشيح”) فحاكوا ضده المؤامرات التي انتهت به مصلوبا، والمعروف أنّ يهود أوروبا كانوا طيلة قرون عرضة لمذابح دوريّة، قد يكون لها أسباب عديدة، ولكنها كانت ترتكز إيديولوجيًّا على هذه السرديّة المسيحيّة المتشدّدة.
يبدو أنّ المبادئ والأفكار التي جاءت بها الثورة الفرنسيّة والتي ساعدت ذات يوم بونابارت السرداني على الوصول إلى تلك المصافّ، قد كانت تشهد حالة من التقهقر في زمن دريفيس الألزاسي اليهودي، وهو ما استغلته بعض القوى المتماهية مع ذلك المزاج العام المشحون لقضاء مآربها الخاصّة. في المقابل كانت هناك قوى أخرى، وفيّة للقيم التي جاءت بها الثورة الفرنسيّة ومن بعدها كومونة باريس، وكانت تقاوم هذه العودة إلى الوراء وكان زولا واحدا من أبرز رموز هذه القوى التقدميّة المستنيرة.
زولا الذي دافع عن المقهورين في رواياته كان منسجما مع زولا المثقف المنتصر للقضايا العادلة، وهذا النصّ (“أتّهم”) الذي أربك الحكومة الفرنسية، ساعتها، وزلزل الأرض تحت أقدام القيادات العسكرية الفاسدة، قد استحال إلى حدث مفصليّ انقسم الشعب الفرنسي بشأنه -بشكل حادّ- بين مؤيّد لقضية “دريفيس” ومعادٍ لها (dreyfusard/antidreyfusard )، أو لنقل هو حدث كشف النقاب عن مدى احتداد الانقسام في الشعب الفرنسي بين أنصار التحرّر والانعتاق والعدالة والتقدّم وقوى اليمين القومي والديني المتطرّف الذي اتخذ من هزيمة فرنسا ضد ألمانيا دعامة لينتشر في صفوف الجماهير ويكون له موطئ قدم في أجهزة الدولة.
دفع زولا الثمن غاليا، فرأى بأمّ عينيه، من شرفة منزله المطلة على الشارع، كتبه تحرقها جموع غاضبة من المعادين لقضية دريفيس، من أنصار اليمين القومي والديني، وتعرّض إلى محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة، فاختار المنفى بعد أن صدر حكم بالسجن في حقّه، ثمّ عاد إلى فرنسا ليموت في ظروف غامضة مختنقا بالغاز. وبعد وفاته بسنوات أعيد فتح التحقيق في الأمر ليرجّح بعضهم أن وفاته كانت عملية اغتيال مدبّرة قامت بها عناصر منتمية إلى إحدى المنظمات اليمينية المتشدّدة، وهي فرضيّة لها ما يؤيدها وإن كانت تفتقر إلى الدليل القاطع.
على إثر صدور هذا النصّ أعيدت محاكمة الضابط دريفيس، ولكن في ظروف أخرى مغايرة، ظروف جديدة خلقها هذا الـ”أتهم”، ولئن كان عسيرا على المحكمة الحكم بالبراءة في ذلك الظّرف السياسي المشحون، وحتى لا تكون المؤسسة العسكرية وأجهزة استخباراتها محلّ إدانة، فقد أفرج عن دريفيس بعد تمتّعه بعفو رئاسيّ، ثمّ في مرحلة ثانية نال براءته من كلّ التهم المنسوبة إليه وعاد إلى صفوف الجيش الفرنسي.
لمْ يدفن زولا بعد وفاته (سنة 1902) مباشرة في “مرقد العظماء” (panthéon) وكان ذلك هذا جزءا من العقاب الذي لحق به، حتى بعد وفاته، على كتابته لذلك النصّ الذي قلب المعادلة وأعاد إلى النور قضية كادت أن تُنسى فيقضي بريء نحبه في غياهب السجون مقهورا، فقط لأنه من منطقة ما ولأنه يحمل عقيدة دينية ما.
بعد ذلك بسنوات، وتحديدا سنة 1908، تداركت الدولة الفرنسية فداحة هذا الخطأ فأعادت دفن زولا في “مرقد العظماء”، وقد كان “دريفيس” ضمن الحشود التي شاركت في هذه الفعالية الوطنية وفاءً لرجل كان له الفضل في انقاذ شرفه العسكريّ وانتشاله من المجهول، وقد تعرّض دريفيس أثناء هذه الفعالية إلى عملية اغتيال كادت أن تودي بحياته، ولا نشكّ في أنّ من دبّر لاغتيال زولا هو نفسه من دبّر لاغتيال دريفيس من القوى الحاقدة على كلّ مختلف وكلّ إبداع وكلّ ما هو جميل ونيّر في حياتنا.
قصة زولا مع دريفيس تجسد صورة إنسانيّة ناصعة، ولكن ثمّة قوى أخرى أرادت لهذه الصورة أن يمسها التشويه. هي قوى لا تختلف في جوهرها عن القوى التي ناصبت العداء لزولا وأرادت شرا بدريفيس، فاستغلت الإشعاع الذي حظيت به هذه القضيّة لمصلحة مشروعها. فقد يكون دريفيس يهوديا متدينا وقد لا يكون كذلك، وقد يكون محافظا وقد يكون إصلاحيا من آخر عناقيد “الهسكالاه” (التنوير اليهودي) وهذا هو المرجح لاعتبارات عديدة، أهمها اندماجه ضمن الحاضنة الفرنسيّة، كمواطن في دولة ترى العقائد شأنا شخصيا لا دخل لها فيه، ولكن الحركة الصهيونيّة جعلت من هذه الحادثة، حادثة التآمر على شخص لأنه يهودي (أو من أصل يهودي)، مطيّة للدفاع عن مشروعها القاضي بإيجاد “وطن قومي لليهود” أو العودة إلى “أرض الميعاد”، لأنّ هذه الحادثة -وفق زعمهم- تقيم دليلا جديدا أنّ اليهود في كل أصقاع الدنيا ليسوا آمنين.
بقيّة القصة يعرفها الجميع منذ 1948، ونزعم أنّ زولا ودريفيس لو كانا بيننا اليوم لصرخا معا: “أتّهم..”.