
بقلم: رياض خليف
1
صدرت هذه المجموعة 2002عن دار الإتحاف بسليانة لصاحبها المرحوم عبد القادر الهاني وكانت تطبع الكتب مناصفة بين الكاتب والناشر في كلفة الطباعة وفي النصيب من النسخ. وكنت أنذاك خريجا عاطلا عن العمل أو معطلا مثلما أصبح يقال هذه السنوات…
وأذكر أنّ نصيبي وصلني عبر البريد إلى حيث كان يعمل أبي .. . ومازالت الذاكرة تحفظ جيدا أن وصولها تزامن مع تواجد صديقي وزميل الدراسة الجامعية الأستاذ عبد الخالق الخليفي، أستاذ العربية في معاهد الرقاب هذه السنوات، فتسلمنا النسخ وحملناها إلى بيتنا في حي النور الغربي انذاك وكانت النسخة الأولى من نصيبه…
على امتداد أسابيع عشت فرحة هذا الإصدار، أوزّع نسخ الكتاب بصفة مجانية على الأصدقاء مباشرة وعبر البريد بكرم حاتمي. لم تتعد ردود الفعل أصابع اليد الواحدة. كتب بعضهم مقالات صحفية على غرار الأستاذين حاتم النقاطي وصابر حباشة ودعاني البعض للقاءات إذاعية على غرار المرحوم محمد البدوي والإذاعية علياء رحيم والمنشط علي المرزوقي والمنشطة فضيلة مسعي……
يحزّ في النفس أنذاك أنّ كتاب الجهة ممن لم أتخلف عن الاحتفاء بأعمالهم غثها وسمينها لم يهتم منهم أحد لأسباب كثيرة، منها ماهو نفسي ومنها خشية بعضهم من الكتابة عن شخص مغضوب عليه بدأ يشاكس السلطة الجهوية ببعض المقالات البسيطة وشرع بعض رموز المشهد في محاربته… والحقيقة أن هذه السياسة استمرت طوال هذه السنوات… فلم ينتظم لإصداراتي في هذه الجهة غير لقاء وحيد ولم يكتب عن أعمالي من أبناء الجهة غير شخص وحيد…
2
وأعود إلى الكتاب…
بعد هذه الأعوام الطويلة
لقد كتبت هذه المجموعة في فترة توهج وغضب… كتبتها بعنفوان… بهواجس صامتة وأحلام عالية وجراحات مثخنة وبانكسار ذاتي….
يلوح هذا الانكسار في الإهداء “إلى أبي وقد خاب أمله وهو يراني أسقط وأسقط وأسقط…”…
هذ الإهداء يقول ذاتي المعلقة أنذاك ببطالة لا أحد يدري زمن نهايتها وبحب يحتضر للسبب نفسه، وقد مات لاحقا طبعا.
كانت قصص المجموعة ذات صبغة واقعية… وليست الواقعية هنا بمعناها التقليدي ولكن باعتبارها كتابة للمحتمل وجوده… فشخصيات حسين في قصة دهاليز الفرح وعبد الجبار في قصة غدا ياتي عبد الجبار“، وغيرهم ليسو غير شخصيات محتملة الوجود…
فليس في هذه القصص غير أصداء للواقع اليومي وخفاياه… واقع الظلم والغدر… ولعل نهايات بعض القصص لم تكن غير رغبات ذاتية في نفس الكاتب. فنهاية قصة بالفرح والرقص هو تعبير عن رغبتي وحاجتي للفرح في تلك الأزمنة. فحضور الذات في الأدب لا يظهر في الأحداث ولكنه يبدو ايضا في الجوانب النفسية الصرفة للشخصيات.
وفي الجانب الآخر ضمت المجموعة قصصا حالمة مرتبطة بالقضية الفلسطينية من خلال اعتماد تقنية الحلم في بعض القصص تخيلا لأحلام عربية عميقة كنا نراها ممكنة في ذلك الوقت…
3
رنّ صوت المذيع في أذنيه رنينا أقوى من المرات السابقة…إنّه يستمع يوميا إلى إذاعة لندن منذ سنوات ولكن الخبر كان أشد تأثيرا عليه هذه المرة…
مرت أمامه عشرات الأخبار القوية التي سمرته أمام المذياع وجعلته يشنّف أسماعه ويرابط حذوه متابعة للتفاصيل:
“الطيران الأمريكي يقصف مقر القيادة الليبية ووكالة الجماهيرية للأنباء تعلن أن العقيد القذافي لم يصب بأذى…”…
“إسرائيل تغير على حمام الشط في تونس وتستهدف مقر منظمة التحرير الفلسطينية وتخلف عددا من الضحايا … “
“الإعلان في تونس عن استشهاد القائد الفلسطيني أبو جهاد خليل الوزير إثر هجوم نفذه جاسوس إسرائيلي…”
“أفادت أنباء الخليج أن القوات العراقية اجتاحت الكويت والعالم العربي يتابع الموقف بذهول شديد…”
جاءنا منذ حين أن الصواريخ العراقية قد دكت إسرائيل وصفارات الإنذار قد دوت مجددا تأهبا لهجوم جديد…”
كل هذه الأحداث مرت على أذنيه وقلبه ولكن تأثيرها لم يكن كهذا الخبر…
نادى زوجته سميحة فاهتزت أيضا وعم الوجوم… خفّض من صوت المذياع وأسرع إلى الفضائيات.
4.
يشكل المقطع السابق مطلع القصة الرئيسية التي حملت المجموعة عنوانها وقد سئلت كثيرا عن العنوان … وهو على بساطته عنوان مركب فيه من الذات أشياء كثيرة. هو أولا عنوان إحدى القصص التي تتعلق باستشهاد أحد المناضلين الفلسطينيين زمن كان للاستشهاد والكفاح طعم آخر…أكثر صدقا وبراءة. زمن ندرة الأخبار وحجبها وزمن الحلم الممكن…
وفد تخيلت أن يكون ذلك الخبر على أمواج إذاعة هنا لندن التي كانت علامة إعلامية مميزة رغم كل شيء… فلقد كانت أخبارها محط أنظار العالم وفد زادتها تلك الطريقة المختلفة في القراءة جمالا وروعة. فمع ارتفاع دقات بيغبن الشهيرة تتصل القلوب بالأصوات القادمة من هناك والحمد لله أنني أدركت هذه المرحلة. مرحلة إذاعة لندرة وأعتقد أن من فاتته قد خسر كثيرا…
ولعل إقحام إذاعة لندن في هذه القصة يحمل بعدا ذاتيا في نهاية المطاف، فلقد قضيت وقتا كبيرا في تعديل إبرة المذياع بحثا عن لندرة وصوت ألمانيا وصوت الوطن العربي الكبير وصوت فلسطين من الجزائر وغير ذلك…فالكتابة السردية عموما هي مزيج من الخيالي والمرجعي، من الذاتي والموضوعي، من الحلم والنكبة، من الذاتي والإيديولوجي…
لقد كانت هذه المجموعة كتابة بالنوايا الطيبة مثلما قال صديقي صابر حباشة في مقال وقتها نشره بورقات جريدة الصحافة … قد يكون هذا التعبير إشارة إلى تغليب الحكائي على الأدبي وفي ذلك قد نختلف نظريا… فالأدب امتصاص للواقع وتصوير ناقد له…
بعد أعوام أجد تلك المقولة في ذهني ولكن بمعنى آخر، ؟ أبدو أكثر ارتياحا له… إنها الكتابة بالنوايا الطيبة. كتابة المجتمع الحلم… كتابة الواقع كما هو على أمل تغييره وتبديله. كتابة تتجه إلى السواد الأعظم مثلما كنت أحلم…كتابة بقيم زمن ولى…
أقول في خاتمة هذه الورقة، هل أخطأت في هذه الكتابة؟
هل أخطأت في كتابة ملاصقة للهموم القومية والمحلية؟ هل سنكتشف أخيرا أنه كان علينا أن نترك قضايانا وأهلنا ونبحث عن نص آخر؟



