
بقلم: سعدية بنسالم
الكتاب أطروحة دكتوراه قدّمت في المعهد العالي للعلوم الإنسانية، ابن شرف، تونس في الموسم الجامعي 2023-2024، للباحثة السورية – التونسية لبنى شعبو وإشراف الأستاذة ناجية الوريمي، وصدر في طبعته الأولى عن دار الشنفرى للنّشر والتوزيع، 2024.
يتكون الكتاب من مقدّمة وخاتمة وبينهما ثلاثة أبواب هي على التوالي:
- النصيرية ديانة باطنية سريّة أم غنوصيّة
- أصل الديانة النصيرية
- تاريخ النصيريين في بلاد الشام.
وتذكر الباحثة هدف هذا البحث في الصفحة الرابعة للغلاف فتقول: “هدف هذا البحث محاولة الإجابة عن سؤال قديم متجدّد يتعلّق بأصل ديانة “النصيريين” في سورية قبل أن ينشر الخصيبي وتلامذته العقيدة الجديدة بينهم والتعرّف على هذه الدّيانة التي تنطوي على عناصر من عصور قديمة نبذتها “الأرثوذكسيات” الدّينيّة المتعاقبة، لكن “النصيرية” حافظت على تلك العناصر القديمة وتمكنت من الاستمرار عبر العصور على الرغم من وجودها دائما تقريبا في وسط معادٍ.”
ويثير العنوان لغير المختصّ والبعيد عن المجتمعات التي تشهد تنوعا اثنيا ومذهبيّا، حيرة أو بعض منها في علاقة بالتركيب النعتي الذي بدأ به، الديانة النصيريّة، وقد يثير في ذهنه أكثر من سؤال عن هذه الديانة التي قد لا يكون سمع بها من قبل.
ونجد تعريفا لهذه “الديانة النصيرية”، التي يبدو أن البعض، ومن بينهم الباحثة، يصنفها ديانة، بينما يراها شق آخر مجرّد مذهب من مجموع مذاهب شهدها التاريخ الإسلامي ومازال يعيش على وقعها، تقول الباحثة في المقدّمة: “وتعدّ النصيرية موضوع هذا البحث فرقة من الفرق الغلاة الشيعيّة المصنّفة عند “الأرثوذكسيّة الإسلاميّة” بشقيها الشيعي والسنّي “كهرطقة أو بدعة”، استطاعت البقاء والاستمرار حتى اليوم، وهم يشكلون جماعة أقليّة مغلقة” وتتوزع هذه الفرقة جغرافيا على “جبال سوريا الساحلية التي تمتدّ من شمال لبنان جنوبا إلى جنوب تركيا شمالا… كما يقطنون أيضا في المدن السّاحليّة المجاورة للجبال وبعض محافظة حمص وفي قرية الغجر، عين فيت، وزعورة، بالجولان السوري المحتل.. كما توجد أقلية منهم في جنوب تركيا… وفي شمال لبنان بجبل محسن… كما توجد نسبة قليلة منهم في مدينة “عانة” العراقية الواقعة في محافظة الأنبار على نهر الفرات القادم من الحدود السوريّة” (ص11).
ولقد أثر على “النصيريين” تسميات عدّة، منها إضافة إلى “النصيريين”، الموحّدين والشعيبيّة والعلويين و”الجنبلائيين”، و”الخصيبيين”، ولكلّ تسمية قصّة أو نسبة إلى أحد أعلام “النصيريين” على غرار أبي شعيب محمد بن نصير النميري (250هـ/864م)
وتؤكّد الباحثة في مقدّمتها، أنّ تسمية النصيريين في هذا العمل إنّما لهدف أكاديمي لا غير، إذ يعرفون اليوم بالعلويين وهي تقول في ذلك: ” وقد تمت تسمية “النصيريين” بالعلويين في فترة الانتداب الفرنسي على سوريا 1919، وحسب لويس ماسينون فإنّه في عام 1920، أصبح “النصيريون”، يطلقون على أنفسهم الاسم المعروفين به حاليا: العلويين، وإنّ تسمية النصيريين أطلقت عليهم من قبل خصومهم، وأنهم يرفضون مناداتهم أو مخاطبتهم أو الإشارة إليهم باستخدام صفة “النصيريين” لأنهم يعدّدون ذلك ازدراء لهم ولعقيدتهم” (صص12-13)
طرحت لبنى شعبو في باب بحثها الأول إشكالا في ماهية النصيريّة، وهي التي تعتبرها دينا، ينظر في تعيين أحد أمرين: النصيرية باطنية أم غنوصية.
وعادت الباحثة تنظر في الجذور التاريخية لهذه “الديانة” فربطتها بـ”ديانات الأسرار”، وتعود هذه الديانة إلى “الفترة الإغريقية – الرومانية [إذ انتشرت] جماعات دينيّة سرّيّة كانت تمارس طقوس التلقين عرفت في تاريخ الأديان باسم “ديانات الأسرار” أو “عبادات الأسرار”. هذه الجماعات عاصرت نشوء المسيحيّة واستمرّت خلال القرون الأربعة الأولى إلى أن اندثرت جرّاء اضطهادها من الدّولة الرومانية المسيحيّة” (24)
وتدرّجت في مقدّمة الباب في تبيّن أنّ ” عبادة الأسرار” ذات أصول يهودية، بل إنها تعود إلى عبادات وثنية في الأصل ثمّ تسرّبت إلى الديانات التوحيديّة ليأخذ بعدا جديدا مخالفا لنشأته الوثنية. تقول: ” إنّ استخدام مصطلحات الأسرار سواء في الكتابات اليهوديّة أو المسيحيّة ما هو إلاّ مجازا ولا علاقة له بعبادات الأسرار وإنّ هذا المصطلح الذي يعود إلى عبادة وثنيّة دخل في الأوساط “التوحيديّة” ليعبّر عن حقائق دينيّة متعالية، ويعكس ما يسمّى اليوم التهجين الدّيني أي استخدام مصطلح جاء في ثقافة أخرى للإشارة إلى الجدّة الدّينيّة.” (ص34)
تنبّه الباحثة لبنى شعبو إلى أنّ خوف الإنسان من الموت دفعه إلى البحث في أصل الوجود والهدف منه، وذاك التفكير جعله يبحث عن الخلود بسبل مختلفة واستنبط لذلك مفهوم الخلاص. تقول: “إنّ رعب الإنسان من الموت وما ينتظره بعده جعله يبحث عن سبل الخلاص، سبل تضمن له السّعادة في الآخرة أو ما بعد الموت. وهذا ما حاولت عبادات الأسرار التي ازدهرت في الفترة الإغريقية-الرومانية ضمانه لمخلصيها، فقد عجزت العبادات الرّسميّة عن ذلك لفقرها الرّوحي” (ص38).
هذا الرّعب من الموت يدفع الإنسان إلى البحث عن “عهد” يضمن له الخلود بعد الموت الذي هو عقوبة الإنسان الخطّاء الذي عليه أن يكفّر عن تلك الخطيئة (والخطيئة تأخذ أشكالا مختلفة بين الأديان، دون أن تفقد جوهرها المشترك). والتكفير يستوجب المعرفة التي تؤدّي إليه، والمعرفة تستلزم طقوسا لا تُخطَأ تعيد بناء العالم الذي كان وتحاكي الفاجعة التي حدثت في البدء ولذلك يقوم معلمو الأسرار بتلقين المصطفين “الأسرار” “ضمن احتفالات سريّة تقام في أماكن مغلقة على عكس احتفالات الدّين الرّسمي حيث لا يتمكّن غير الأعضاء من اختراقها” (ص49).
ويسبق التلقين بنمط حياة مخصوص يقوم أساسا على الصيام والعزلة وفي ذلك تنقية للروح واستعداد للعالم الغيبي الذي سيتواصل معه.
هذا التعريف للـ”أسرار” كان ضروريّا للبحث في علاقة الغنوصيّة باعتبارها عقيدة، أو عقائد، بـ”عبادة الأسرار” القديمة، وقد ذكرت الكاتبة أنّ أقدم النصوص “الغنوصية” وردت علينا من القرن الثاني ميلادي، وأنّ هذه العقيدة تقوم على مبدأين أساسيين هما المعرفة، وهي ليست المعرفة العقلية وإنما ما يعرف عن المتصوفة بالكشف، ومعاداة الكون.
فأمّا المعرفة فتقول فيها الكاتبة: ” فالغنوص هو المعرفة التي تكشف جوهر الإنسان، وأصله ومصيره وخلاصه. هذه المعرفة لا تعطى لجميع الناس بل مقتصرة فقط على المختارين… هذه المعرفة ذات طبيعة خلاصيّة فهي تسمح للغنوصي بالانضمام إلى الله أو العودة إليه” (56).
وأمّا معاداة الكون فنابع من شعور بالغربة عند الغنوصي ويقين بأنّ الكون سجن للإنسان مثلما أنّ الجسد سجن للروح، تقول في الصّفحة التاسعة والخمسين: “لا يشعر الغنوصيون بالغربة فقط في هذا العالم، بل بغربة في الأجساد أيضا لأنهم يعتقدون أنّ أرواحهم تنتمي إلى عالم الألوهية المتعالي “البيلروم” أو الملأ الأعلى الذي هو موطنهم الأصلي، وأنها سقطت وسُجنت داخل الجسد والعالم المادّي نتيجة مأساة لا علاقة لهم بها”
تخلص الباحثة بعد الحديث في الغنوصية إلى النظر في جذور الباطنيّة والتي تحيل بالضرورة على الظاهرية فيكتشف المتلقي أنّهما (الباطنية والظاهرية) ليستا فرقتين من الفرق الإسلامية، فقط، وإنما لهما امتداد تاريخي وفكري، وهي ترى أنّ “مصطلح الباطنيّة يطلق على التعاليم التي تعود إلى عصور سحيقة، والثابتة خلال التغيرات التاريخية المتعاقبة، هذه التعاليم كانت تنتقل بشكل سريّ من عصر إلى عصر عبر سلسلة من المعلّمين والتلاميذ.
واستندت الباحثة إلى “غينون” الذي ميّز بين الباطنيّة والظاهريّة، وانتهى إلى أنّ الظاهريّة موجّهة إلى الجميع والهدف منها “الخلاص” أي عدم السقوط في العوالم السفلية بعد الموت وهي تعمل على الفردية واتخذت شكلا دينيا في الأديان التوحيدية الثلاث.. في حين أنّ الباطنيّة متماسكة وميتافيزيقية تشمل معرفة أكثر عمقا وهي موجّهة إلى فئة معيّنة وهي ثابتة لا تتغير مهما تكن الأسماء التي أعطيت لها حسب تنوع البلدان والتقاليد. (ص68).
توسّعت الباحثة في تبيّن دقائق الباطنيّة لتنتهي في الصفحة الثانية والسبعين إلى وجود تشابه بين الباطنية والغنوصية في ما يتعلق بمستويات الخلاص والتفريق بين خلاص المؤمن العادي وهو خلاص محدود، وخلاص العارف الغنوصي.
هذا العرض المفاهيمي – التاريخي يمكن الباحثة من طرح إشكالية مركزية في عملها وهي “النصيرية”، محور البحث، أهي ديانة سرية أم غنوصية، وهذه الإشكالية خصصت لها الفصل الرابع من الباب الأول وهو الممتد بين الصفحتين الحادية والثمانين وستّ بعد المائة. وتنتهي إلى أنّ النصيرية تحتوي عناصر من الفلسفة الأفلاطونية ومن العبادات الوثنيّة ومن المسيحيّة، وأن الغنوصية تظهر بوضوح في الديانة النصيرية في نقاط عدّة منها الثنوية بين العالم النوراني والعالم العادي وفي معاداة الشريعة بمعنى أن الفروض والواجبات فرضها الله على الذين لم يتوصّلوا إلى معرفته فالروحانيون يسقط عنهم العمل بالشريعة والالتزام بها. (ويمكن لمن يريد التوسع العودة إلى الكتاب).
خصصت لبنى شعبو الباب الثاني لأصل الديانة النصيرية وقسمت الباب إلى خمسة صول هي على التوالي:
الأصل الوثني للديانة النصيرية، الأصل المسيحي للديانة النصيرية، العناصر الغنوصية القديمة في الديانة النصيرية، غلاة الشيعة والغنوص الإسلامي ثمّ النصيريون وغلاة الشيعة.
في الباب الثالث والأخير اعتنت الباحثة بتاريخ النصيريين في بلاد الشم وقسمت الباب إلى خمسة فصول أيضاهي على التوالي: نشر الديانة النصيرية في بلاد الشام، أثل النصيريين في بلاد الشام، النصيريون في الفترة المملوكية، النصيريون في ظل الحكم العثماني، ثمّ قيام دولة العلويين المستقلة في ظلّ الانتداب الفرنسي.
ولأنّ المساحة لا تكفي للنظر بالتفصيل في هذه الأبواب والفصول نكتفي في آخر هذا العرض بتقديم مقتطف من خاتمة البحث تقول فيه صاحبته: “في وقت نشر الدعوة “النصيرية” في سوريا كان المذهب الشيعي سائدا وبعد سيطرة المماليك على الحكم عملوا على تأسيس المذهب السنّي، وعلى الرغم من قول باتريك سيل بأن “النصيريين” هم جَزْرٌ شيعيّ خلّفه المدّ بعد انحساره، إلاّ أنّهم كانوا تاريخيا خارج الصراعات الشيعيّة السياسية على عكس غلاة الشيعة… ورغم ذلك فقد حملوا أوزار هذا الصراع وقد بلغ التعصّب السنّي ضدّهم ذروته في فتوى ابن تيمية الذي أباح دمهم، بل عدّ ذلك من أعظم الواجبات عند الله…” ((292-293)
تتنزّل هذه الأطروحة ضمن تاريخ الأديان، وهي على درجة من الأهميّة كبيرة إذ تلقي الضوء عن العلاقات الخفيّة بين الأديان المختلفة وتاريخ الأفكار والفلسفة القائمة على فكرة الخلاص، وتربط بينها وبعض “المذاهب” المتفرّعة عن ديانات التوحيد (اليهودية والمسيحيّة والإسلام) وهي عمل ينمّ عن جهد شاقّ في تجميع المادة وتبويبها وتحليلها والخروج باستنتاجات منها. ونعتقد أنها جديرة بالاطلاع من المختصين وغير المختصين على السواء.